السيمر / الثلاثاء 27 . 09 . 2016
هاتف بشبوش
جمال من النوع الذي لايمكن له أن ينسى مامرّ به شخصيا أو ماسمعه عن القصص التي حلّت بالكثير من العراقيين نتيجة ظلم البعثيين على مدى أربعة عقود ، جمال لايسمح له ضميره أن يصمت فراح يصرخ بكلماته هنا فينقل لنا ماحلّ بإمرأة لربما كانت جارة له ، تلك الأم التي يسجن إبنها وتظل تنتظره ولم يعد حتى مماتها ، لنقرأ السرد التراجيدي في قصة ( أم الزين) :
الغوص والتمحيص في هكذا نوع من السرد هو في غاية الشفافية في غاية البحث عن الحقيقة والواقع المعاش لدى العراقيين أثناء حكم البعث المجرم ، كما وانني أرى القاص جمال وفياً في هذا السرد ومناضلا يحاول إحياء الذين إستشهدوا وضحوا بالغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الحق ومقارعة الظلم فراح يحكي لنا عن إمرأة مناضلة كما هي الحال بالعديد من المناضلات العراقيات اللواتي قدمنَ فلذات أكبادهن في سبيل الوطن وهن يزغردن ويبتسمن ، أو انني أرى جمال شاهدا على هذه الحالة التي مرت بها أم الزين أو هي أحد أقربائه ولذلك يأتي السرد واضحا ناضحاً الأنين والألم والصرخة التي تجعل القارئ يحس بحشرجةٍ في البلعوم أثناء التحديق على كلماتها أو ما ألم بهذه المرأة التي انتظرت وانتظرت ولم تحصد غير قبضة الريح ، لكنها صمدت شامخة لا تلويها أعاصير الألم وفقدان الأحبة ، انها تنذر لحمها ودمها الى الوطن الغالي وبدلا من البكاء نحيبا وعويلا بكت جذلى وهذه هي التي شكلت عنصر الألم في هذا السرد الجميل .
القصة وسمت ( بأم الزين) للدلالة على زين الرجال كما يقال وبالفعل الذي يجود بالنفس فهو الأرقى هو الإنسان الأسمى والأعلى . أم الزين في عقدها الثمانين ولازالت تبكي حرقة وألماً على إبنها السجين منذ خمسة وعشرين عام ، تتأمل إطلاق سراحه ، وفي يوم يائسٍ ينذر بالرحيل والوداع ، دخلت الى غرفته والى سريره وبدأت تدندن باغنيته التي كان يغنيها أيام كان حياً يرزق ( لو موت لو سعادة يابو علي .. واحنة دربنة معروف ) ، حضنت فراشه حتى بدأ صوتها يخفت ففارقت روحها الدنيا ولم يعرف أحد في تلك الأثناء هل لاقت ابنها في تلك اللحظات وهي تحتضر ، هل كانت حزينة أم فرحة .
(وصلت السرير ، أخذت تتلمس لحافه الأحمر ..صارت تغني …ثم فتر صوتها ولم يعد يفهم ، رقدت على سريره وابتسمت ، انزلقت يدها ببطئ من فوق صدرها ماسكةً بها الورقة التي احتفظت بها منذ سنين ..اصفر لونها وتآكلت حروفها ولم يبق منها من كلمات سوى أسمه ( بشير) .
الشهداء هم الذين شيدوا التأ ريخ ورفعوا اسمه عاليا بدمائهم وأنفاسهم . انها القاب تستحق المناصرة والتخليد والكتابة عنها لكي تبقى شعلتهم خالدة بين ظهرانينا .يستمر جمال في إعلاء كلمة الحرية والنضال في سبيل منالها ، ولم لا فهي الكلمة التي لم تختفي من قواميس هذا العالم منذ نشوء التأريخ حتى اليوم ، وما المعارك الطاحنة في بلداننا العربية هي خير مثال على السعي في سبيل الحصول عليها ، رغما انّ الحرب طائفية وعنصرية خالصة ، لكنها بداية النهاية لهكذا تطرف ديني ولابد للشعوب أن تنال الحرية المنشودة . ولذلك راح جمال ينشدنا مرة أخرى عن الحرية في قصته أدناه ( ساحة التحرير) :
سرد ثوري يرجعنا الى أيام كنا شبابا لانهابُ البعث و تعذيبهم الذي كان أقوى من تحمل الجسد ، بوح فيه الكثير من الإصرار والروح المعنوية التي ماعادت تسكت على الذل والهوان ، قص يمتزج بين الواقع والخيال بين الحلم واليقظة . بينما يحلم القاص وهو في سرير النوم من انّ هناك ساحة إسمها التحرير يتجمع فيها آلالاف المظلومين من جور النظام الفاسد حاليا وساسته السراق الذين إستغلوا الحرية أسوأ إستغلالٍ يذكر على مر العصور مما أدى بهم أن يرسوا بشعبنا الى هذا المآل المتردي((تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل لأن منح الحرية لجاهل كمنحِ سلاحٍ لمجنون….فيكتور هيجو) . يحلم القاص جمال في التغيير المرفوعةِ أعلامهِ في خارج مكان منامه وسريره ، فكأني أرى انّ الحلم بمثابة ماوراء الكواليس وساحة التحرير هي التمثيل الحقيقي للحلم الذي كان يراود القاص في ذات الوقت . سرد جميل كمن ينظر من أعالي الشرفة بعيون زرقاء اليمامة مستكشفا الأحداث على مصراعيها ، قصة تحكي واقعنا المعاش توا ، قصة يجري في شوارعها وأزقتها دمُّ حار لم يبرد حتى يصل خط النهاية . سرد فيه الكثير من مآسي البشرية وهي تمضي في طريق الحرية الشائك الذي يتطلب التضحية والفداء بالنفس وما أكثر الأبطال والشهداء ، كما قرأنا عنهم في رائعة شولوخوف ( الدون الهاديء) ، لو فكرنا بهم قليلاً سيصيبنا الغثيان والدوار الذي نقرؤه في رائعة القاص جمال ( غثيان) :
جمال هنا يتحدث عن الملل أو الغثيان تلك الكلمات التي حيرت الكثير من الأدباء ، هي موضوعة تستحق الدراسة ، الملل حطم الكثير من الكتاب والبشر العاديين ، الملل هو قاتل الحب . لماذا يموت الحب بين عاشقين على سبيل المثال بينما كانوا في شدة إحتراقهم ، لماذا حينما يتم الوصل بين الحبيبين يدب الملل بعد حين ممايؤدي الى قتل الحب إذا لم يجدوا وسيلة يستطيعوا بها قتل هذا الملل . في بداية السرد يختار جمال سطراً جميلاً عن العقل الباطن( هو مخزن الاختبارات المترسبة بفعل القمع النفسي ) . العقل الباطن يتحكم في المرء من كثرة مايمر به من ضجر ، العقل الباطن هو كثرة مايختزن في الذاكرة التي تؤدي الى الألم او الى السعادة او التتفكير في شئ ما . يعني على سبيل المثال لو انّني سألت أحدهم عن مسلك طريقٍ ما يؤدي الى المدرسة التي سجلتُ بها حديثا فوصف لي المسلك في أول يوم ثم اليوم الثاني ايضا وأنا إتخذت المسلك ذاته ، ثم تعودتُ أن أذهب وحدي في هذا المسلك ، فإنني سوف لن أحتاج أن أسأله مرة اخرى عن المسلك لأنه إختزن في العقل الباطن فلاداعٍ لأنْ أسأله مرة أخرى عن المسلك . العقل الباطن هو من جعل شعوبنا في هذا النكوص من الجهل لأن الجهل لديها منذ سالف الأزمنة وقد استقر في العقل الباطن فمن الصعوبة أن تتخطى هذه الشعوب هذا الجهل الذي ينخر في رأسها الا بزلزال فكري جمعي كبير . العقل الباطن الذي قاد القاص جمال في أن يوسم قصته بالغثيان دون شعور أو دون أختيار وتمحيص في إيجاد عنوان للقصة او حتى فكرتها هذا يعني ان جمال يكتب على سليقته التي تركت النفس وعقلها الباطن في أن تجبر أصابعه على أن تخط هذه القصة التي تحمل الكثير من المعاني ، ومن أحد المعاني على سبيل المثال لا الحصر انّ الملل هو الذي يقتل الملوك من الضجر . ولذلك نجد كلمة غثيان في السطر الأخير من القصة ، القصة التي مختصرها تحكي عن (آدم) الشخص الذي يحاول أن يشترك في موقع أعلن مسابقة لمن يشترك في قصة أو موضوع أدبي أو شيء آخر ، وظلّت الساعات الأخيرة لأنتهاء المشاركة ، ويظل مابين عقله الباطن وما إحتواه من أفكار خزينة يحاول تدوينها لغرض المشاركة ومابين إبداعه المنفلت أحيانا والملجم أحيانا ، فيصيبه نوع من الملل والغثيان وهذه تحصل لدى الكثير من الكتاب والأدباء ، إذ انه في لحظة ما تراه يترك كل شئ منزعجا مضطربا متخما بالملل وتكرار شيئيات يومه المعتاد ، كما نقرأ في السطر الأخير من القصة التي تفسر لنا ماأراده القاص جمال أن يقوله بالتحديد :
( إنتهى من الكتابة للتو ولن تبقَ الاّ دقيقة واحدة لنهاية المسابقة ، سحب سهمه الألكتروني وأطلقه على كلمة إرسال وذهبت الرسالة ولن يتذكر مما كتب سوى كلمة ( غثيان) ..لايدري وضعها عنوانا لقصته أو مقالته ).
مما يعطينا إنطباعاً ان ّ آدم بطل القصة أصابه الغثيان والملل في لحظة ما ومن أمرٍ يشغله ولايعرف على وجه التحديد ماهو . القاص جمال إعتمادا على ماقلناه أعلاه يطلق لروحه العنان وينزوي مع النفس العليلة المكدرة الضامئة الحزينة الصادية الملولة المصابة بالغثيان فيكتب لنا رائعته ( أنا ونفسي) :
وماذا بقي لدى العراقيين غير أن يكتبوا عن موتهم في انفجارٍ ما أو تفخيخ وزع الأشلاء بالتساوي بين أطفالنا ونسائنا . هنا جمال يكتب قصة قصيرة جدا ، محتواها يدور مابعد الموت ، تتحدث عن شخص يتصور نفسه يموت في الإنفجار ، ولايعرف هل هو في حلم أم في حقيقة خالصة . لشدة الخوف من هذا الفقد الرهيب لدى العراقيين ، من هذا الموت الذي أصبح مابين قاب قوسين أو أدنى من العراقيين جميعا . ولذلك أراد جمال في قصته هذه أن ينقل رسالة لنا مفادها عن الموت تلك الكلمة المرعبة . الموت هو العدم والحياة هي الوجود ، الموت هو أكثر شئ في الوجود أرهق الأدباء والفلاسفة منذ فجرالتأريخ حتى اليوم ، الموت هو الحد الفاصل الذي أتعب كلكامش في فكرة الأبدية والقصة المعروفة في بحثه عن عشبة الخلود ، الموت في بعض أحيانه هو الذي يجعل منا لانستطيع أن نودع أحبتنا وليس بمستطاعنا أن نمتلك فترة قصيرة ولو لهنيهة كي نعتذر من الآخرين ، لأنّ الموت اذا ما أراد النزول فأنه ينزل بدون أستئذان ، انه الذي يسقط علينا كالصاعقة ، فاذا أردنا توظيفه في الأدب علينا أن نكون في غاية من الدراية والحيثيات والمفاهيم التي تتطلب منا مهارة عالية فهناك الكثير من الروائع الأدبية التي وظفت الحكمة من الموت في خدمة الإنسانية , ومنها آنا كارنينا , للحب وقت وللموت وقت , الحب في زمن الكوليرا , رائعة تايتانك . رغم كل هذا الشرود النفسي ، يقف جمال حكمت متذكرا جذوره التي لامفرمنها فهي كالظل الملاصق فيرحل صوب بلاده فيكتب لنا بوحه الجميل ( بلادي) :
(العراق كلما ابتعدنا عنه كلما أقتربنا منه أكثر …… الشاعر العراقي سركون بولص ) …..
كنا نتصور اننا سوف ننسى ما أصابنا من نكبات بعد فراقه ، لكننا واهمين فهاهي اللعنة تلاحقنا اينما حللنا ، ربما سنشيخ في الدنمارك أوهولندا لكننا سنسكن في نفس الأزقة العراقية ، شارع النهر في بغداد , أم زقاق موسكو في السماوة .
ما إن قرأت العنوان فألفيتُ نفسي هناك في العراق وجذوري النابتة والقابعة في أعماق تراب العراق وغرينه وتربته الخصبة ختى تذكرت طفولتي وصباي ، مهما فعلت لايمكني ان أنسى تلك الوشائج الاّ اذا كنت مصابا بالزهايمر . الإنسان السوي هو دائما يعيش بدوامة الذكرى ، ولذلك تجدنا أقلعنا من وطننا منذ سنين لكننا مازلنا نبكي على أوتاره وأغانيه ونسائمه التي باتت لنا مثل الدواء الشافي لجميع أمراضنا ، قصة فيها التنقلات الجميلة والمترابطة مع بعضها فيها الوفاء للاصدقاء و فيها الزيارات المكوكية لأحبتنا وناسنا على إختلاف مشاربهم فيها لحية ماركس وهي التعبير الجميل الذي يعطينا الصورة الجلية للعراق أيام زمان وكيف كان يعج بالشيوعيين والماركسيين ، فيها ما ابتلي العراق من الحرب في زمن الطاغية اللعين صدام وماتسببه من دمار في جميع نواحي الحياة فيها الطفولة التي كانت تعبث مع الجمال الطفولي البريء وكيف كنا نشرب الحليب صافيا حيث كنت انا أحد أبطال هذه الفنتازيا مع أصدقائي الكثيرين ، فكنا نجثو ونضع أصابعنا على أثر البعير الذي يمر في شوارعنا ونتخيل اننا نشرب الحليب صافيا من أطراف أصابعنا . انها البراءة التي لايمكن لها أن تتلوث مهما دار الزمن انها تلك الطفولة التي لايمكن انْ يعيشها العراقي الحالي الذي نشأ على القتل والنصب ، فيها الطفولة التي كانت تنتظر أفلام الغرب الأمريكي ( الكاوبوي) وتلك الأفلام التي كانت تعبث بنا على هواها وكنا فرحين بأبطالها امثال جولياناجيما وكيرك دوكلاص وكاري كوبر وبرت لانكستر ، وقد تناول هذا الموضوع الروائي زيد الشهيد وكيف كان يصف صوت الطلقات النارية ( كيو ، كيو ، كيو ) هذا الصوت كان يأخذنا الى ذروة النشوة والفرح الطفولي . انها الطفولة التي تكلم عنها هيراقليطس الفيلسوف الشهير قبل الميلاد حيث كان يؤسس لرياض الأطفال في ذلك الوقت ، الطفولة التي قال عنها أحد الكبار ( اذا سمح العالم بتعذيب طفل ساسحب أعترافي به) . انها قصة فيها من التوليفة الرائعة والتي اشتبكت سوية لتعطينا ابداع متنامي صاعد نستطيع ان نقول عليه مذهل ، نستطيع أن نحس من خلاله اننا في منتصف بلادنا ، في المركز الرئيسي لعصب العراق الذي أصبح اليوم تحت دخان الإرهاب والمجرمين من الدواعش والبعثيين كما نقرأ في السطور أدناه من قصة ( أحلام تحت سحابة سوداء ….) :
قصة تدور عن العراق و أطفاله ، الأطفال بشكل عام غنّى عنهم الكثيرون من الفنانين ومنها الاغنية الشهيرة لجعفر حسن ( يطفال كل العالم ياحلوين .. يطفال شيلي الثائرة وفلسطين ) . الطفل هو الذي نرى فيه أحلامنا التي نريدها كما الطفلة نبراس مدار قصتنا ، اسم جميل إختاره القاص جمال عن قصدية عالية ، نبراس جمعها نباريس وهي المصباح او السراج . نبراس تحلم أن تكبر تحلم ان يتحقق لها ماتريد أن تحب أن تكون محبوبة أن يكون لها شعرا طويلا تحلم أن تكون كما بقية النساء الكبيرات ، ان يكون لها فارس أحلام ، لكنها وللاسف ولدت في العراق بلد الدمار والحرب بلد التفخيخ والقتل الرخيص والحياة المهانة على الدوام ، انها نبراس الصغيرة الجميلة ( أجمل الاطفال ذاك الذي لم يكبر بعد … ناظم حكمت ). فبدلا من أن تظل شعلة السراج مشتعلة كما نار المجوس الابدية ، جاءتها يد الإرهاب ، حيث حصل إنفجار في الحي التي تسكن فيه نبراس ومات الكثير من الأطفال ، فأنطفأ السراج ( نبراس) ومات الحلم والى الأبد ، هذه هي يوميات بغداد وماعلينا سوى أن نبكي حظ قتلانا .
في النهاية أستطيع القول :
جمال إستطاع أن يكتب بما أراده الحلم الذي كان يراوده منذ سنين ، ذلك الحلم الذي طار به الى شوارع هولندا كي ينسى ألماً بات يخاف أن تزداد شروخه فلم يعد بالإمكان دوائه وشفائه . إستطاع جمال أن يفرغ خزين القلب ذاك الذي على وشك أن يكون قيحا ولات ساعة مندمِ على عدم الخلاص منه . جمال إستطاع أن يطاوع الكلمة التي بإمكانها الوصول الى مسمع القارئ ، الى عقل القاريء ، إستطاع أن يختار الإسلوب الأحب الى المتلقي ، ذاك الإسلوب الدائر بين الشفافية والوضوح مع الخيال والفنتازيا التي لابد أن يفرضها في كتاباته لكي تكون ضمن فضاءات الأدب وأجناسه والاّ ستكون كحكاية عادية لايمكن لها أن تحتسب على القصة والسرد . جمال كتب الألم والفجيعة والموت والحب ، إستطاع أن يعطينا توليفة كبيرة عن مجريات الحياة العراقية ومايلفها من مآسي وخفايا ، ثم أضاف لها بعض ما رآه في هولندا بلد الديمقراطية والجمال والسعادة التي يفتقر لها العراقي سواء ان كان فقيرا معدما أو ثريا إرستقراطيا لايهمه سوى نفسه ، أو سياسيا دنيئاً حقيرا باع وطنه بفخذ دجاجة . في النهاية أستطيع التصريح من انّ جمال المهندس وجمال القاص…… لايحرّك آنية الزرع دون معرفة .