السيمر / الاثنين 12 . 12 . 2016
أحمد الشرقاوي/ مصر
أقدم “داعش” على إعدام شيخين من رموز الصوفية المعروفة في منطقة سيناء، أحدهما شيخ مسن ضرير يبلغ 100 سنة من العمر، وذلك بتهمة الشعوذة وادعاء علم الغيب، موجها بذلك إنذارا للصوفية كافة بضرورة التخلي عن معتقداتهم، مؤكدا أن التنظيم لن يسمح بوجود طرق صوفية في ولاية سيناء خاصة وفي مصر عامة.
ثم شاهدنا كيف أن نفس التنظيم أقدم صبيحة الأحد على تفجير كنيسة قبطية في القاهرة ذهب ضحيته عشرات الشهداء، وقبل ذلك استهدف دورية للجنود المصريين في سيناء، في تصعيد مخطط له من قبل قوى خارجية معروفة تسعى لزعزعة استقرار مصر انتقاما من مواقف السلطة تجاه سياسات “السعودية” التخريبية في المنطقة، وهو الأمر الذي أشرنا إليه في مقالتنا السابقة بشأن وجود مخطط (سعودي – قطري – تركي) لضرب الاستقرار في مصر والجزائر معا.
هذه الجرائم النكراء لن تنتهي باستنكار هنا وإدانة هناك، لأن الإرهاب أعمى البصر والبصيرة وجاء نتيجة لثقافة دينية منحرفة تتخذ من العنف وسيلة للتقرب إلى الله، الأمر الذي يذكرنا بالأجواء الظلامية التي كانت سائدة في أوروبا خلال العصر الوسيط الذي عرف بعصر الكهنوت، حيث كان رجال الدين يطاردون الساحرات، ويفرضون الوصاية على إيمان الناس ومعتقداتهم، ويُتهم كل من يخالف تعاليمهم بالهرطقة، ويوزعون صكوك الغفران على المدجّنين من الأتباع، ويبيعون القصور في الجنة لمن يدفع من النبلاء والأثرياء، ويعتبرون كل من لا يؤمن بالخلاص من داخل منظومتهم الكهنوتية في حكم الهالك المطرود من رحمة السماء.. فما أشبه حال المسلمين اليوم بحال المسيحيين في العصر الوسيط.
*** / ***
والسؤال الذي تطرحه هذه الفواجع المؤلمة التي حصلت نهاية الأسبوع في مصر وتؤشر إلى أن الوضع ذاهب نحو الأسوأ، يتعلق بمسؤولية شيخ الأزهر عما آلت إليه الأمور في مصر خصوصا والعالم العربي عموما، بسبب تقاعس هذه المؤسسة التي تقول أنها منارة للإسلام عن القيام بدورها في المجال الديني محاباة للأمراء، الأمر الذي فتح المجال لبعض المثقفين التنويريين الشجعان لملأ الفراغ وفتح باب مراجعة التراث الديني على مصراعيه، وإعمال آليات النقد بالمنطق والعقل بدل التسليم بما يزخر به التراث من تناقضات تتعارض مع أصول الإسلام وثوابته بشهادة القرآن، وهو العمل الذي يعتبر لبنة أساسية لبناء ثقافة جديدة قد تولد مع الوقت ثورة عارمة ضد رجال الدين في الوطن العربي باعتبارهم المسؤولين عن تفريخ ثقافة الإرهاب وتجييش الشباب اليائس بالخطاب التكفيري خدمة لمخططات تستهدف الأمة في وجودها.
نقول هذا بعد أن فاجأنا شيخ الأزهر أحمد الطيبي الذي ترأس اجتماع غروزني حول تعريف من هم أهل السنة والجماعة بتنكره لبيان المؤتمر، حيث وبعد أن عاد إلى مصر وانهالت عليه الانتقادات من فقهاء الوهابية وأمراء النفط والغاز استدار بـ 180 درجة، وتنكر لما سبق وأن أقرّه بمعية أكثر من 200 عالم من علماء السنة الذين اعتبروا السلفية الوهابية تيار تكفيري لا علاقة له بأهل السنة والجماعة.
شيخ الأزهر برّر استدارته هذه بالقول، أن منهج التعليم الذي تربى عليه بالأزهر ورافقه منذ طفولته لا يسمح له بإخراج السلفية التكفيرية من أهل السنة والجماعة، معلنا من على شاشة التلفزيون المصري الرسمي، أنه تم استغلال مؤتمر غروزني من قبل المتربصين بالأزهر، وأنه غير مسؤول عن البيان الختامي الذي صدر عنه (هكذا بوقاحة).. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المسؤول عن الإرهاب الذي يعصف بمصر اليوم؟.. ألا يدعم موقفه المرتد هذا النظرية التي تقول بأن الإرهاب سنيّ العقيدة؟.. هل يدرك شيخ الأزهر تبعات انقلابه هذا؟..
لأن شيخ الأزهر وهو يقول ما قاله رسميا على الملأ، كان يعلم علم اليقين أن أصل الشر والبلاء الذي حل بالمسلمين سببه الفكر الوهابي التخريبي والفكر الإخونجي التدميري اللذان يمتحان من الفكر الظاهري المتطرف الذي وضعه وطوره سلف غير صالح.. كما وأن شيخ الأزهر يعلم علم اليقين بحكم علاقته بالسلطة في مصر، أن من أعدمت الشيخين الجليلين بقطع رأسيهما بالسيف في الصحراء هم عناصر من تنظيم “بيت المقدس” الذي بايع “داعش”، وهو خليط من المصريين والفلسطينيين الإخونج والوهابيين الذين أعلنوا “الجاهد” ضد الدولة والشعب المصري بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي.
وشيخ الأزهر بما لديه من معلومات موثقة، يعرف أكثر من غيره أن جماعة “الإخونج” انتهجت العنف كأسلوب للوصول إلى السلطة وتبرره على لسان كبار مسؤوليها باعتباره نوع من التعبد لله (مأمون الهضيبي)، وبأن هذه الجماعة الماسونية المنافقة مثلها مثل الوهابية التلمودية لا علاقة لها بالإسلام الذي يقدس الحق في الحياة ويحترم الاختلاف وينهى عن النفاق واستغلال الدين في السياسة ويحرم الولاء لغير الله ورسوله والذين آمنوا.
وشيخ الأزهر يعلم أيضا أن الجماعات الإرهابية في مصر، ومهما اختلفت الأسماء التي تتخذها تمتح من الفكر الوهابي والإخونجي، وأنها أبعد ما تكون عن ثقافة العفو والتسامح التي يحث عليها دين المحبة الذي جعله الله رسالة نبيه ليكون نورا ورحمة للعالمين، الأمر الذي يحتم علينا التمييز بين المسلم الذي يسلم الناس من لسانه ويده وبين المنافق الذي يتاجر بالدين ولا يحترم حق الناس في الحياة فأحرى حرية الفكر والمعتقد.
وشيخ الأزهر يدرك لا محالة الفرق القائم بين الإسلام وبعض الجماعات التي تدّعي الانتماء إلى هذا الدين بهدف تضليل الناس، لما بين تعاليم الدين والممارسة على أرض الواقع من فرق كبير لا يخفى إلا على جاهل أو غبي.. كما يعلم أن القرآن وضع للناس مراتب، وأخبرنا أن من يكذب ويسكت عن الحق شيطان أخرص، وأن من ويقول ما لا يفعل منافق، وأن من يقتل النفس التي حرم الله كافر، وأن المسلم لا يكون مؤمنا بالضرورة بسبب الفرق القائم بين مرتبة الإسلام باللسان ومرتبة الإيمان بالقلب الذي لا يصح إلا إذا صدّقه العمل، وبين الإيمان الذي هو مرتبة متقدمة في الاعتقاد والالتزام بالعمل ومرتبة الإحسان الذي هو مرتبة الكمال المنشود الذي لا يبلغه إلا من كُشف عنه الحجاب وعرف ربه حق المعرفة، وهي مرتبة الزهاد من رجال الله الذين وصلوا إلى الحقيقة (الخضر في سورة الكهف نموذجا).
*** / ***
هؤلاء الزهاد الذين يسعون إلى الحقيقة هم من يُكفرهم الفكر الداعشي التلمودي الذي قضى بإعدام رمزين من رموزهما في سيناء ظلما وعدوانا، وهؤلاء هم من قال عنهم الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: (هم قوم من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، هم فيها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلّب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة، يرون أهل الدنيا يعظّمون موت أجسادهم، وهم أشد إعظاما لموت قلوب أحيائهم).
وهم من قال عنهم الإمام مالك: (من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق).
وهم من قال فيهم الإمام الشافعي: (حبّب إلي من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بطريق أهل التصوف).
وهم من أوصى الإمام أحمد ولده بالأخذ عنهم بقوله: (يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة).
أما حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي فيقول عنهم: (ولقد علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق).
وقال عنهم العز بن عبد السلام: (قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التي لا تتهدم دنيا وأخرى وقعد غيرهم على الرسوم).
بل حتى ابن تيمية الذي يُعتبر شيخ مشايخ التكفيريين قال عن الصوفية: (هم المستقيمون من السالكين، يعملون بالمأمور ويدعون المحظور، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير من كلامهم).
وفي الأثر، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (يا رسول الله دلني على عمل إذا فعلته أحبني الله وأحبني الناس؟.. فقال له صلى الله عليه وسلم: ازهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما عند الناس يُحبك الناس) رواه ابن ماجة في سننه.
والأقوال فيهم أكثر من أن تسعها مساحة هذا المقال المقتضب.
*** / ***
وعودة إلى مسؤولية شيخ الأزهر نقول.. نحن هنا أمام شيخ يرأس مؤسسة دينية لها صيتها وتاريخها ودورها في نشر الإسلام السمح الصحيح، لكنه يأبى قول الحق ومواجهة الشر تقربا إلى الله، يُغيّر أقواله كما يغيّر عمامته كلما تعرض لضغوط سياسية أو إغراءات مالية، شيخ تنكر لما أجمع عليه علماء السنة والجماعة في مؤتمر غروزني برئاسته، ولو كان يملك ذرة من شجاعة وبعض من شرف العلم لقال هذا الكلام في المؤتمر وقدم عليه الدليل ليرفع كل التباس، لا أن يقول ما قاله في الإعلام كي لا يواجه المناظرة مع من هم أعلم منه وأتقى ولا يخافون في قول الحق لومة لائم.
أما وأنه لم يفعل، فهذا يؤكد ضعف مستوى الرجل العلمي، وعدم امتلاكه الحجة العقلية للإقناع، وتمسكه بتلابيب منهج التبيان الذي يكتفي بالتقليد نقلا عن السلف، وهذا هو الفرق بين العقل البياني لدى فقهاء هذا الزمان الذين يدّعون العلم وهم يختزنون في أدمغتهم المتكلسة ما علق بها من زبالة ثقافة القبور، وبين العقل البرهاني الذي لا يُسلّم بشيء من التراث الديني إلا بعد إخضاعه لمشرحة النقد بآليات العقل الذي يعتمد المقارنة والقياس مع ما ورد في كتاب الله الحكيم من قيم الدين ومبادئه وثوابته، خصوصا وأن الله تعالى جعل قلب الإنسان محلا لإعمال العقل، لقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24، وقوله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور) الحج – آية 44.
والمصيبة، أن شيخ الأزهر زاد على القبة حبة حين ادعى أن حتى علماء النحو واللغة يعتبرون من أهل السنة.. فما علاقة اللغة بالعقيدة والله تعالى يقول (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في أذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) فصلت: 44. ومعنى المعنى، أن أثر القرآن ومفعوله في النفوس بما يميزه عن باقي النصوص، هو أن خاصته لا تتعلق باللغة في حد ذاتها بقدر ما يتعلق الأمر بنور البيان الذي تتضمنه آياته وينفذ للقلب مباشرة من رب العالمين الذي يوحي لمن يشاء من عباده، والناس في ذلك صنفان، صنف الذين آمنوا به حين نفذ نور المعنى إلى قلوبهم بغض النظر عن أصلهم وفصلهم وعرقهم ولغتهم، فكان شفاء لهم ونور يبصرون به طريق الهدى والحق، وصنف لا يؤمنون به حتى لو كانوا عربا متمكنين من اللغة لأن في قلوبهم مرض الريبة والشك الذي يغرقهم في ظلمات الضلال ويحجب عنهم الحق..
بدليل، أن حتى الذين يقرؤون القرآن اليوم من الأعاجم في الغرب مترجما إلى لغتهم، يبكون من التأثر وتخشع قلوبهم لذكر الله، لأن الله هو من ينزله على قلوبهم فيوصل معانيه إلى عقولهم بنوره الخفي، لقوله تعالى عن القرآن (ثم إن علينا بيانه) القيامة: 19. وهو ما يؤكد أن الذي يُبيّن معاني القرآن وفق الحالة النفسية للإنسان هو الله وليس فقهاء الرسوم، وهنا مكمن الإعجاز الذي يتجلى في المعنى قبل اللفظ كما يعتقد فقهاء القشور.
هذا علما أن فقهاء الدين الذين زعموا قديما القدرة على تفسير القرآن من منطلق تمكنهم من آليات اللغة، قد أخطئوا وأدخلوا الأمة نتيجة لذلك في إشكالات وتناقضات ومآزق حضارية وأخلاقية لم تستطع الخروج منها إلى يومنا هذا.. لأن ما لم يتنبّه له هؤلاء الأغبياء هو أن علوم اللغة من نحو وصرف وإعراب ظهرت في العصر العباسي بعد القرآن بزمن طويل، وأن الله لم يجعل اللغة شرطا للإيمان، بل وضع منهجا دقيقا لفهم خطابه حين فرّق بين المحكم والمشابه فجعل بذلك القرآن يُفسّر بعضه بعضا كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله سلم..
لكن، وبسبب المنهج الذي اعتمد التفسير انطلاقا ممّا تعطيه الكلمات من مفاهيم سطحية أصبح لدينا كمّ هائل من التفاسير المجترّة التي لا تختلف عن بعضها البعض في شيئ ذو أهمية تذكر سوى محاولة الفقهاء وضع فهم بشري نهائي للقرآن كي يصبح الدين مغلقا غير صالح لكل مكان وزمان، مستندين في شطحاتهم على العجائبي والغرائبي في التفسير الغيبي بعيدا عن منطق العقل، ما أنتح حاجزا سميكا بين كتاب الله المسطور وواقع الناس في الحياة، فلم يعد يعرف الإنسان كيف يمكنه أن يكون مسلما ومتصالحا مع نفسه وواقعه، فساد الجمود وتكرس التخلف الذي أعاد الأمة إلى عصر ظلمات الكهنوت.
نقول الكهنوت لأنه لو كان “العلماء” الذين ليس لهم من العلم سوى التسمية – إلا من رحم الله – التزموا فقط بالقرآن بدل الاستناد إلى كم هائل من الأحاديث المزورة والروايات المُفبركة لاستغلال الدين في السياسة لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم..
ودليلنا في ذلك قول الله العزيز الحكيم في كتابه المجيد (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، وقوله: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، وقوله: (كتاب فصلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير)، وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)..
غير أن الفقهاء كانوا يرون عكس ما يراه تعالى، فاعتبروا القرآن ناقصا يحتاج إلى “سنة” تفسره، ثم عندما اصطدموا بحائط الواقع اعتبروا “السنة” أيضا ناقصة تحتاج إلى اجتهادهم، وهكذا ظهر علم ما يسمى بأصول التشريع، والذي يحتاج لكثير تدقيق وتفنيد لما تحمله “شريعة” الفقهاء من تناقض صارخ مع شريعة الله كما وردت في القرآن، وللإشارة، فمعضلة الفهم لدى المسلمين تكمن في هذا التصنيف بالذات، والذي قد نعود للحديث عنه في مقالة أخرى بحول الله لنفصّل القول في ما بين الشريعة والحقيقة من فرق واختلاف، لأن الشريعة لا تختزل الدين كله ما دامت لا تمثل سوى أقل من 5 % من آيات القرآن، فلماذا يصر الفقهاء على تغييب 95 % منه عن عقول الناس وقلوبهم بذريعة خبيثة تقول بعدم جواز تفسير القرآن بالعقل؟..
*** / ***
وعودة لقضية الصوفية التي اعتبرهم شيخ الأزهر من أهل السنة والجماعة نقول، أن هذا ينم عن جهل الشيخ بالطريقة والحقيقة، لأن من يصل إلى إدراك الحقيقة يرفض أن يختزل عرفانه – ولا أقول علمه – في مدرسة فكرية أو مذهب فقهي أو تيار ديني، لأن الحقيقة هي الله بمفهوم الوجود الجامع لكل المخلوقات والموجودات، وبالتالي، فمحاولة شيخ الأزهر تدجين الصوفية تحت مظلة أهل السنة والجماعة محاولة فاشلة بئيسة لم يسبقها إليها أحد من علماء السلف، لسبب بسيط، وهو أن التصوف ليس تيارا دينيا، ولا مذهبا فقهيا، ولا مدرسة فكرية، وبالتالي لا علاقة له بالإديولوجيا من قريب أو بعيد..
وكان على الشيخ أحمد الطيبي أن يراجع ما أكده سلفه الشيخ عبد الحليم محمود عن الصوفية بقوله: “من الناس من يرى أن التصوف مذاهب وفرق وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إِلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام وإلى الفلسفة (…)، والنفوس مهيأة لقبول فكرة الطوائف في جميع العلوم النظرية، ولقد خلط القائلون بذلك بين هذه العلوم النظرية والتصوف الروحي، فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقاً وطوائف، ولو أمعنوا النظر لعرفوا أن التصوف تجربة روحية، وليس نظراً عقلياً، وإذا كان النظر العقلي يفرق الناظرين إلى طوائف وفرق، فإن التجربة الروحية لا يختلف فيها اثنان، وإذا كانت الفلسفة، لأنها نظر عقلي، مذاهب متعددة، فإن التصوف، وهو تجربة، مسار واحد إلى الله وإن اختلفت الطرق. وكما أنه لا يستساغ الخلط بين الوسائل والغايات في أي ميدان من الميادين، فإنه لا يجوز أن يستساغ الخلط بين طرق التصوف، وهي وسائل، وبين الغاية، وهي معرفة الله، فطرق التصوف متعددة مختلفة، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة “. (التعرف لمذهب أهل التصوف – ص:12، 13 “بتصرف”).. فأين يذهب الشيخ أحمد الطيبي من هنا؟..
ما قاله الشيخ عبد الحليم محمود صحيح ودقيق، لأنه حتى الصوفية يعبرون عنه بالقول: (الطرق شتى وطريق الحق واحدة *** والسالكون طريق الحق أفرادا)، وهو ما اختزله محيي الدين ابن عربي في مقولته البليغة: (الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق).
لذلك، فالتصوف يا شيخ آخر الزمان ظاهرة متحررة جدا من معتقل المذهب، ظاهرة ثورية ضد الإكراه الديني والتدجين العقائدي والاستبداد المذهبي الذي اشتهرت به مدارس التراث السني ومنها الأزهر، لكن ما يميز التصوف أنه ثورة سلمية هادئة، عميقة وصامتة، لا يهمها قلب أنظمة الحكم القائمة ولا تسعى لإقامة أي سلطة دينية بديلة، ولا تتقوقع في شرنقة المذهب لتستأثر بالحقيقة وتلغي ما سواها من حقائق، بل همّ التصوف الأساس هو تحرير الإنسان من جهله ومن ظلم أخيه الإنسان، والتحليق به عاليا في عوالم المطلق، حيث نور الله ورحمته الشاملة، أساسها الوحيد ما اصطلح علي تسميته في قاموس التصوف بـ: “دين المحبة”، و منطلقها الأوحد قوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256، وهدفها الأسمى التغيير من الداخل عبر إشاعة ثقافة محبة الآخر المختلف والانفتاح على خلق الله وعوالمه الظاهرة وصبر أغوار عوالمه الباطنة المستورة التي لا يكشفها تعالى إلا لعباده المتقين المقربين جدا، وهذا هو جوهر التصوف الذي يعتبر تجسيدا لشجاعة المعرفة عن طريق الانفتاح على العالم، وعدم احتكار الحقيقة، والتحرر من قيد الاستكبار والتقديس والتبجيل، والاستهانة بالعاطفة مقابل الحق، والإيمان بالحقوق الطبيعية للجميع وعلى رأسها الحق في الحياة وحرية الفكر والمعتقد، وبعبارة أخري، التصوف هو قبول الإنسان كما هو وكما أراده الله أن يكون، لا كما تريد أنت أن يكون يا شيخ الرسوم.
التصوف الحقيقي يطرح نفسه كنهج للتعايش والاحترام والمحبة والتعاون بين الناس جميعا بغض النظر عن اختلاف العرق واللون والجنس واللغة والفكر والمعتقد، عملا بقوله تعالي: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات: 13. ويؤسس العديد من الصوفية لمبدأ المحبة والانفتاح والاحترام والتعايش من منطلق مقولة شهيرة للإمام علي (ر)، مفادها: “أن الناس صنفان: أخ لك في الدين، ونظير لك في الخلق”.
وبمعنى أكثر دقة، يمكن تعريف التصوف بأنه السبيل إلى إدراك “الحقيقة المطلقة”، سواء كانت هذه الحقيقة “حكمة” أو ” نور” أو “معرفة”. وهذا المصطلح “الحقيقة” يدل في جملة مدلولاته، على المعني الحقيقي لـ”الإيحاءات الإلهية”، أي المعني الذي في حال كونه “حقيقة”، فهو “جوهرها” أيضا، وهو بالتالي “معناها الروحي” كما يقول الصوفية الواصلون.
و يمكن القول أيضا، أن الطريقة الصوفية كتجربة حرة، هي أقرب إلي المغامرة الروحية الفردانية منها إلى الاعتقادات الجماعية المتمثلة في ظاهرة الزوايا أو المؤسسة على ثوابت الفكر الطائفي أو المذهبي، والتي تخضع في عمومها إلى تأثير السياسي و الاقتصادي و الثقافي، وتعتمد الإكراه النفسي عبر لعبة الترغيب والترهيب، ولا تتوانى في اللجوء إلي آليات الاستبداد السياسي والديني قصد استقطاب الأتباع للمحافظة على الموقع كلما اقتضت الضرورة ذلك.
والتصوف بهذا المعني العام، لم يأتي من فراغ، بل ولد من رحم الفلسفة النبوية قبل حتى ظهور المذاهب الإيديولوجية والمدارس الفكرية الإسلامية الكلاسيكية، بدليل ما أوردناه أعلاه من وصف الإمام علي عليه السلام للزهاد في زمانه وزمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
والاهتداء إلى الحقيقة المنشودة التي هي ضالة الزاهد المتصوف المتعطش لمعرفة الله ذاتا وموضوعا، يكون فقط عبر النور الداخلي الذي يزداد في القلب وهجا كلما تحرر الصوفي من تعلقه بهذا العالم الوهم.. وهذه المجاهدة تعرف في اللغة الصوفية بعملية “صقل مرآة القلب” عن طريق الذكر. يقول تعالي: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد: 28. والاطمئنان لا يكون إلا بالمعرفة الحقيقية التي تنير عتمات الظل في القلب، و تطرد كل أوجه الجهل من العقل. والصوفي لا يصل إلى درجة الكشف التي يحصل فيها على المعرفة الباطنية إلا بعد رحلة شاقة وطويلة من التطهّر، ناشدا دائما وأبدا الهدف الأسمى.. ألا وهو كشف “حجب الجهالة” التي تحيل بينه وبين معرفة الحقيقة لمشاهدتها عارية ليس بينه وبينها حجاب، ومن ثم الذوبان في المطلق إلى ما لا نهاية..
هذا هو الإيمان الحقيقي المبني علي اليقين التام الذي لا يحصل إلا لمن بلغ درجة الإحسان، فذاق حلاوة حب الله في كنف الله وحب الناس مرضاة لله.. إنها رحلة تبدأ بالسباحة الصاخبة ضد موج البحر الهادر، ثم تتحول إلى الغوص الهادئ في الأعماق، فأعماق الأعماق، لتنتهي أخيرا بالمشي المتسكع فوق سطح الماء ضدا في قوانين الطبيعة…
وبهذا المعني، يستحيل تحليل التجربة الصوفية تحليلا موضوعيا باعتبارها بحر بلا شاطئ، لأن الكلمات لا يمكن أن تحيط بأبعادها أبداً.. فالألفاظ تظل على الشاطئ دائما كما يقول الصوفية، بل حتى أعمق و أدق المناهج العلمية المرتبطة بعلم النفس التطبيقي مثلا، تظل عاجزة عن سبر أغوارها العميقة، ويظل الفهم الوحيد الممكن للظاهرة، هو من خلال تحليل بنية نظامها الفلسفي.. وهذا علم دقيق وبعيد عمّا تعلمته في الأزهر من ثقافة القبور يا شيخ القشور.
الصوفي أيها المدعي بغير علم هو من صفى قلبه لله لا لجنرالات العسكر وأمراء النفط.. والصوفي هو من لا يملك شيئا و لا يملكه شيء، لأنك لن تجد للصوفي حسابات بالدولار ولن تجد صوفيا يأتمر بأوامر من يشترون رقابه بالمال الحرام، نظرا للفرق القائم بين “الفقيه” المنافق الذي يسعى في طلب المال، والصوفي الزاهد الذي يسعى في طلب الحقائق تقرّبا من الله.
وهذا هو الفرق بين السير إلى الله الذي ينتهي بالموت، والسير في الله بلا نهاية لأنه سباحة متسكعة في ملكوت الخلود.
بانوراما الشرق الاوسط