السيمر / الأحد 09 . 04 . 2017
صالح الطائي
في عالمنا المضطرب المليء بالمفاجئات قليلون هم الذين نجحوا في التناغم مع الواقع بكل ما فيه من إرهاصات ورؤى ومواقف وحالات وعلاقات وتوجهات، وأقل منهم من نجحوا في ترجمة تناغمهم إلى كلمات، اصطفت سوية لتشكل مقاطع قصيرة كأنها لا تريد أن تثقل على إنساننا المثقل بالهموم، ربما هي من أروع ومضات الشعر وربما يراها البعض ليست شعرا، ولكنها في الحالتين تحمل روح الشعر في خلجات معانيها، فالشعر في عالمنا الذي يركض دون توقف لم يعد بحاجة إلى الأوزان الموروثة بقدر حاجته إلى ترجمة الشعور والإحساس المتأجج قلقا.
إن الشعر ولادة رغبات غائرة في عمق النفس الإنسانية تحمل صفات إنسانيته التي بدأ يفقد متعتها. الشعر واحدة من محطات العطاء الروحي، عطاء مشاركة الآخرين بأحاسيسك؛ التي يحمل بعضها الكثير من طوابع السرية، وربما السخرية، وبالتالي هو أسمى أنواع العطاء، فالعطاء لا يعني كرما ماديا فحسب، بالرغم من كونه لصيق هذا الفهم، العطاء هو الكلمة التي تمر على الآخرين وكأنها نسمة عذبة في ظهيرة تموزية في صحراء التيه؛ التي فقدنا بها بوصلتنا، ولم نعد نهتدي إلى سبلنا.
الكلمة هي العطاء الأمثل والترجمة الحقيقية لبشرية الإنسان، ولذا افتتحت رسالات السماء بها بوابات الولوج إلى النفس الإنسانية، وبالتالي أصبحت الكلمة أكبر صدقة يمكن أن يمنحها الإنسان إلى إنسان قد يكون بأمس الحاجة إليها، وكم بيننا من يحتاج إلى كلمة طيبة أكثر كثيرا من حاجته إلى لقمة طعام، فالروح مثل الجسد تحتاج هي الأخرى إلى غذاء يجعلها تستمر في العيش، والكلمة الرصينة العاقلة العاملة الناعمة الهادفة أطيب أنواع غذاء الروح.
إن اختيار الكلمات يشبه اختيار اللباس، فأناقة الكلمة تعني أناقة الفكر، وأناقة الفكر تعني أناقة المشاعر، وأناقة المشاعر تعني أنك إنسان قبل أي شيء آخر، ومن هنا أجد أن أناقة الكلمة فن لا يجيده سوى الذين فهموا إنسانيتهم، وفهموا دورهم في الحياة!.
والظاهر أن الأديب زهير البدري والمشرف الدكتور علي حسون لعيبي كانا واعيين لهذه المعادلة، ولذا افتتحا المجموعة الشعرية باقتباس من “أرجوارجون”: “قلت لي: اقلع عن الاوركسترا الصاخبة لأنه يوجد الآن كثير من الفقراء لا يستطيعون شراء قواميس ومعاجم يستنبطون منها معاني ألفاظي فهم يفضلون ويحبون الألفاظ العادية التي يمكنهم ترديدها. وأجيبك أنني سأفعل، سأترنم بما يترنم به كل فم”.
من هذا الفهم، وسعيا وراء البساطة وعدم التكلف، اختار الأديب زهير عناوين مقطوعاته لتبدو وكأنها ماركات لمحطات الوجع في المجتمع: الغربة، الغجر، آخر المحطات، المذبحة، الملاذ،، الموت، أوراق متساقطة، حلم، ثمل، خاتمة الأسفار، خطوة، سؤال وحيرة، لا أعرف، كيف حصل، لهفة، هويتي، وهم، وصية، وطبعا أنت وأنا.
كلها عناوين تحمل تجليات واقع فيه الكثير من المرارة والوجع، الكثير من الخيبة والفشل الذريع والحسرة التي جعلت هذه المفردات تتأقلم مع المحيط، لتكون محور ثقافة مجتمع أنهكته الأيام إلى حد الوجع، فأصبح الحلم أمنية صعبة التحقق، حيث لا أمل يلوح في الأفق، فالعتمة تملأ الفضاءات.
إذاً هي معركة بين الأنا والأنا، بين الروح والجسد، بين واقع مر معقد يبدو إكراهيا قسريا حاد الحافات منهكا بفعل الأحداث، وبين أمنية وحلم كنا ننتظر تحققه منذ الجمهورية الأولى مرورا بجمهورية الخوف، وصولا إلى جمهورية الضحك على الذقون، ليبدو وكأنه أصبح أزليا يمتد إلى حدود العماء البوهيمي، وكان الإنسان العراقي فيه بكل فئاته هو الخاسر الأكبر.
في أجواء التعقيد هذه يحتاج الإنسان إلى الكلمة أكثر من حاجته حتى إلى الوطنية، والتباهي بالشعارات الزائفة، وكثيرا من الأشياء الأخرى؛ التي أصبحت في الواجهة، وتصدرت الموقف، بما فيها بعض المقدس؛ وهي بمجموعها لا تستحق أكثر من أن تكون خادمة للإنسان، هذا الكائن الأسطوري العظيم؛ الذي أكرمه الله فجعله خليفته في أرضه.
مجموعة إننا معا هي باكورة إنتاج الأديب زهير البدري، وهي من سلسلة إصدارات مجلة الآداب والفنون، تضم (42) مقطوعة، تُقرأ بجلسة واحدة، ولكنها تحتاج إلى أن تُقرأ عدة مرات، إحداها للمتعة، متعة القراءة، والأخرى لفهم المعنى، والثالثة لمطابقة الفهم مع الواقع.
أمنياتنا للأخ الأديب زهير البدري بمزيد العطاء ودوام النجاح.