السيمر / الأحد 28 . 05 . 2017
ضياء الشكرجي
هذه هي الحلقة الخامسة والتسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل». وهذه الحلقة الأولى من ثلاث حلقات حول مصادرة الحريات من قبل الأديان.
الدين ومصادرة حرية الاعتقاد
نشرت كمقالة باسمي المستعار (تنزيه العقيلي)
تريد هذه المقالة أن تنطلق من واقع وظاهرة، أسميها ظاهرة مصادرة الدين لحرية العقيدة، والتي لا تقتصر على العراق، ولا على العالم الإسلامي، الذي أفضل تسميته بعالم الأكثرية المسلمة، وإن كانت هناك في زماننا هذا ثمة خصوصية لابتلاء هذا الجزء من العالم بهذه الظاهرة، هذا من حيث سعة الظاهرة جغرافيا، أما تاريخيا فلا تقتصر الظاهرة على الزمن الراهن، ولا على القرن العشرين وبدايات القرن اللاحق التي نعيشها، بل هي ظاهرة تمتد إلى أكثر من عشرين أو لعله ثلاثين قرنا، أو منذ ظهور ظاهرة الدين. ثم أحاول أن أطرح هذا الواقع، أو هذه الظاهرة، على التأملات العقلية المحايدة أي غير المنتمية.
كما قلت آنفا إن هذه الظاهرة ليست خاصة بعالم المسلمين، ومع هذا أعرض ابتداءً هنا هذه النصوص القرآنية، ذات العلاقة بالموضوع:
«لا إِكراهَ في الدّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ منَ الغَيِّ، فَمَن يَّكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى لَا انفِصامَ لَها، وَاللهُ سميعٌ عَليم.»
«وَمَن يَّبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دينًا فَلَن يُّقبَلَ مِنهُ، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ منَ الخاسِرينَ.»
«إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسلامُ، وَمَا اختَلَفَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ إلّا من بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغياً بَينَهُم، وَمَن يَّكفر بآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَريعُ الحسابِ. فَإِن حاجّوكَ، فقُل أَسلَمتُ وَجهي للهِ وَمَنِ اتَّبَعَني، وَقُل لَّلذينَ أوتُوا الكِتابَ وَالأمِّيّينَ أَأَسلَمتُم، فَإن أَسلَموا فَقدِ اهتدَوا، وَإن تَوَلَّوا فَإِنَّما عَليكَ البَلاغُ، وَاللهُ بَصيرٌ بِالعِبادِ.»
«فَذَكِّر، إِنَّما أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّستَ عَلَيهِم بِمُسَيطِرٍ، إِلّا مَن تَوَلّى وَكَفَرَ، فيُعَذبُهُ اللهُ العَذابَ الأَكبَرَ. إنَّ إِلَينا إِيابَهُم، ثمَّ إِنَّ عَلَينا حِسابَهُم.»
«وَلو شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأَرضِ كُلُّهُم جَميعاً، أَفَأَنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتّى يَكونوا مُؤمِنين.»
فهذه الآيات فيها ما يشتمل على معنى التأكيد على حرية الاختيار، وفيها ما ينفي حرية الاختيار، ويؤسس لمبدأ الإجبار ومصادرة الحرية، فـ«لا إِكراهَ في الدّينِ»، و«فَذَكِّر، إِنَّما أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّستَ عَلَيهِم بِمُسَيطِرٍ»، و«وَلَو شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأَرضِ كُلُّهُم جَميعاً، أَفَأَنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتّى يَكونوا مُؤمِنين»، من النصوص، شأنها شأن أكثر نصوص المرحلة المكية، التي يفهم منها إقرارا لحرية الاختيار، بينما تلغى هذه الحرية، ويحل محلها الإكراه في نصوص أخرى، لاسيما تلك التي تنتمي للمرحلة المدنية، مثل «وَمَن يَّبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دينًا فَلَن يُّقبَلَ مِنهُ، وَهُوَ فِي الآخرَةِ منَ الخاسِرينَ»، «إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسلامُ» و«قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِاللهِ وَلا بِاليَومِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسولُهُ [أي لا يلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية] وَلا يَدينونَ دينَ الحَقِّ [أي يرفضون التحول إلى الدين الإسلامي] مِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ [أي اليهود والمسيحيين] حَتّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَّدٍ وَّهُم صاغِرونَ [أي وهم أذلاء]».
لكني أكتفي بعرض هذه النصوص القرآنية، وأستغني عن الخوض في تفاصيل تفسيرها، وإن كان ذلك مفيدا، بما في ذلك لموضوعنا المطروح هنا، كما أستغني عن المزيد، لكني في حدود هذه المقالة لست بصدد التفسير والتأويل والخروج بنظرية قرآنية، ولست بصدد بيان التناقض في آيات القرآن، ولا الفرق الشاسع بين المكية والمدنية منها، ولا بين المنسوخ والناسخ، ولا تناول المحكم والمتشابه؛ كل ذلك الذي ناقشت أكثره في مقالات أخرى، بل أريد تناول الموضوع بتجرد كامل، وأقتصر على المناقشة العقلية، أكثر مما هو بحث قرآني أو شرعي أو فكري-إسلامي.
أقول بقطع النظر عما إذا كان الدين هو الذي يصادر حرية الاعتقاد، أو أن أتباع الدين هم الذين يصادرون حرية الاعتقاد باسم الدين، فمنذ ظهور ظاهرة الدين في المجتمع الإنساني، وبقطع النظر عما إذا كان الله هو الذي أوحى به، ولو من قبيل الافتراض لما ثبت لي امتناعه العقلي، أو كان الإنسان الذي ابتكر فكرة الدين؛ ومع كل الإسهامات المهمة التي قدمتها الأديان أو بعضها من تصحيح لعقائد الناس ومعالجة الخرافة والغلو والوثنية والشرك وغيرها، وتهذيب الأخلاق، فمن جهة أخرى منذ كان هناك دين كانت ضحيته الأولى، وبقيت وإلى يومنا هذا ضحيته الرئيسة هي حرية الاعتقاد، حرية الإنسان في العقيدة، حريته في أن يعتقد، وفي أن يختلف في الاعتقاد، وحريته في ألا يعتقد، ناهيك عن السلام الذي كان الضحية الكبرى للدين، فيما هو دين الناس. والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة، بأن الناس كانوا قبل الدين أمة واحدة: «كانَ النّاسُ أُمَّةً وّاحِدَةً، فَبَعَثَ اللهُ النَّبيينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ، وَأنزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بالحقِّ ليَحكُمَ بَينَ النّاس فيمَا اختَلَفوا فيهِ، وَمَا اختَلَفَ فيهِ إلَّا الَّذينَ أوتوهُ من بَعدِ ما جاءَتهُمُ البَيِّناتُ بَغياً بَينَهُم». وآيات أخرى بنفس السياق وذات المضمون، وكأنه اعتراف ضمني من مؤلف القرآن.
الدين إذن، وبقطع النظر عما إذا كان دين حق أو دين باطل، بحسب معايير هذا أو ذاك الفريق، كان فيما هو الواقع الإنساني الأرضي، هو أداة القمع الأساسية لحرية العقيدة، فأتباع الأديان هم الذين قمعوا بعضهم البعض، بل امتد القمع داخل دائرة الدين الواحد، كما قمعوا غير الدينيين، أكثر مما قُمع الدينيون من قبل غير الدينيين أو الدينيين المغايرين، بقطع النظر عما كان غير الدينيين هؤلاء مؤمنين بالله أو غير مؤمنين. فكلما كان يأتي داعية إلى دين جديد، نبيا مرسلا كان، صادقا – ولو بحب ظنه – أو مدعيا، أو قديسا، أو مفكرا، أو مصلحا، أو مجددا للدين، أو محرفا له، ضالا مضلا عنه، أو مهتديا هاديا إليه أو عنه، بحسب التقويمات المختلفة له، كل هؤلاء نجدهم يُحارَبون ومعهم الذين آمنوا بدعوتهم، من قبل أتباع الدين الموروث والسائد في المجتمع. وهذا يحصل حتى عندما يأتي مصلح أو مجدد أو لنقل منحرف مُحرِّف – بمعايير الدينيين المتزمتين – بفهم جديد أصاب أم أخطأ، حسنت أو ساءت نواياه، يكون نصيبه القمع. وهكذا عندما ينتشر الدين الجديد بدوره، أو المذهب الجديد، يكون الذين لم يقتنعوا به مضطرين إلى أن يخفوا كفرهم أو شكهم بأي درجة كان ذلك الشك، أو لنقل يخفوا عدم قناعتهم بتلك العقيدة، دينا كانت أو مذهبا، ويتظاهروا بالإيمان تقية وخوفا، وعندما تُكتشَف تلك الظاهرة، أي ظاهرة وجود من يُظهر الإيمان بالدين الجديد، ويُضمِر الكفر (عدم الإيمان) أو ثمة شكا به، تسمى تلك الظاهرة بالنفاق، ويُحارَب المنعوتون بالمنافقين على الظنة والشبهة، ولو حربا نفسية، بينما يجيز لأنفسهم المؤمنون بذلك الدين إخفاء عقيدتهم، إذا كانوا هم المحارَبين من أجلها من قبل الكافرين بها في فترات الضعف، ويعتبرون ذلك التخفي تقية ووقاية مشروعة، على نحو الجواز أو على نحو الوجوب، من خطر الأعداء، عندما يكونون أقوى منهم، ولا يعتبرونه نفاقا، لأن من يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة ويكون على الحق المطلق يكون كل سلوكه مبررا وشرعيا ومقدسا، حتى لو كان نفاقا أو كذبا أو قتلا أو سرقة أو خيانة للعهود ونقضا للمواثيق، ويكون مُطفِّفا للميزان بمعنى أنه يزن بمعيارين. ففي الحالتين هناك أصحاب عقيدة وأصحاب عقيدة أخرى، يقمع الأقوى منهم الأضعف، ويصادر حريته في الاعتقاد، وحريته في المغايرة الكلية أو الجزئية بالاعتقاد، أو حريته في عدم الاعتقاد أصلا بأي عقيدة، ويكون المقموع في حرية الاعتقاد أو حرية عدم الاعتقاد مضطرا للتخفي، سواء اعتبر تخفيه نفاقا أو باطنية أو تقية. والذين صادروا حرية العقيدة كانوا في الأعم الأغلب إما أصحاب السلطة ومريدوهم بأدوات قمع السلطة، عندما تكون السلطة معتقدة بالدين متعصبة له، ومتعصبة بالضرورة ضد مخالفيه، حتى لو لم يكن المخالفون محاربين معادين له ولهم، أو مستخدمة للدين أداة لتكريس تسلطها على رقاب الناس، وإضفاء القداسة على ذلك التسلط والقمع، وإما أن يكون من يصادر حرية العقيدة هي المؤسسة الدينية، عندما تكون متنفذة في المجتمع، أو كلاهما عندما تتحد السلطتان المدنية والدينية في حاكم أو جهاز حكم، وإما أن يكون المجتمع هو أداة ذلك القمع وتلك المصادرة لحرية الاعتقاد، وغالبا ما يكون الظهير القوي للمجتمع الممارس لقمع حرية الاعتقاد ثمة مؤسسة دينية تضفي على نفسها أو يُضفى عليها ادعاءً أو اعتقادا غطاء القداسة الذي يكون مانعا من النقد والاعتراض والمساءلة، وإذا كانت المؤسسة الدينية – عندما تكون معتدلة – غير راضية عن القمع والعنف المستخدمين من الجماهير المتدينة المتعصبة، فهي في الغالب تسكت عن تلك الممارسات، ولا تخطّئها، ناهيك عن أن تُدينها، خوفا من أن تتخلى عنها جماهيرها المتعصبة. إذن لدينا في الأعم الأغلب ثلاثة مصادر لقمع حرية العقيدة، السلطة الدينية، السلطة الحاكمة، المجتمع المتدين بأي دين كان، وقد يتحد اثنان منها أو يتحد الثلاثة لمزاولة مصادرة حرية العقيدة للمغايرين عقيدة أو غير المعتقدين. وغالبا ما يتحول صاحب الدين الجديد المقموع في فترة أول ظهوره وضعفه، إلى قامع لمن قمعه ومن لم يقمعه، عندما يقوى عوده، ويكثر معتنقوه، وكما يقال يتحول الضحية إلى جزار. وهنا لا بد من الإشارة إن هذه المقالة لا تريد أن تحصر القمع في الدين، فهناك عوامل كثيرة ساهمت في قمع الناس بعضهم البعض، سواء كانت إيديولوجية، سياسية، عنصرية، قبلية، طبقية، أو ما سواها.
ونحن فيما يتعلق بالدين أمام أربعة احتمالات، طبعا على نحو الافتراض، وإلا فأنا حاسم عدم إيماني ببعض هذه الاحتمالات:
1.الأديان هي من وحي الله سبحانه وتعالى، أوحى بها إلى الناس عبر أنبيائه ورسله.
2.الأديان هي من ابتكار الإنسان بقطع النظر عن نوايا مبتكريها، إما إصلاح البشرية وشدها إلى عبادة الله وقيمه ومثله سبحانه، أو استخدام الدين للتسلط، أو بسبب هلوسة تصيب من يتصور أن ثمة اتصالا بينه وبين السماء، أو بينه وبين أي إله من الآلهة أو أكثر من إله من الآلهة أو إِلهة من الإِلهات.
3.الأديان هي بالأصل من وحي الله، ثم أحدث فيها الإنسان من تغييرات حرفتها عن الأصل الإلهي قليلا أو كثيرا، جزئيا أو كليا، بقصد أو بغير قصد.
4.بعض الأديان هي من وحي الله، وبعضها من ابتكار الإنسان، وبعض أديان الله – مع افتراض وجودها – أحدث فيها الإنسان جزئيا أو كليا.
أما فيما يتعلق بمصادرة الدين لحرية الإنسان في الاعتقاد فنحن أمام احتمالين:
1.الدين بالأصل هو الذي يصادر حرية الاعتقاد، إلا الاعتقاد به حصرا كدين حق، ويكون ما سواه باطلا وغير مسموح به.
2.الدين نفسه لا يصادر حرية الاعتقاد المغاير له، لا جزئيا ولا كليا، بل معتنقوه هم الذين صادروا تلك الحرية تعصبا أو جهلا أو لمصلحة ما، فأساءوا إلى الناس وحرياتهم من جهة، وإلى دينهم هم من جهة أخرى، على حد سواء.
إذا صح الاحتمال الأول من الاحتمالين، فلا يكون هذا الدين من الله سبحانه بأي حال من الأحوال، وهذا ما ثبت عندي، فينتفي من المجموعة الأولى من الاحتمالات الأربعة الأول على نحو التعميم والإطلاق، ويرد الاحتمال الثاني وجزء كل من الاحتمالين الثالث والرابع، أي إن الدين الذي يصادر حرية الناس بما فيهم ما يسمون بالكافرين في الاعتقاد ليس دينا إلهيا، أو يكون على سبيل الافتراض دينا إلهيا في الأصل، قد أحدث فيه الإنسان ما حرفه عن الأصل الإلهي، لا أقل في هذه المفردة، أي مفردة مصادرة حرية الاعتقاد للمغاير عقيدة أو لغير المعتقد أصلا. ومع صحة الاحتمال الثاني يكون الدين المؤثر في الواقع على الأغلب دين الناس الذي يمثل حقيقة نسبية غير معصومة، وقد لا نجد في الواقع دين الله كحقيقة مطلقة بكل نقائها، إنما نجده في عالم التجريد، إن وجد، أو لدى أفراد معدودين، أو في أحسن الأحوال لدى مجموعات صغيرة متناثرة وضعيفة التأثير، وواقعة هي نفسها تحت وطأة مصادرة حرية الاعتقاد والتعبير، ويكون سيف التكفير مسلطا على رؤوسها، يهدد وجودها المعنوي في أقل الحالات بالعزل الاجتماعي والحرب النفسية والتسقيط، بل ويهدد وجودها الفيزيائي في أقصاها. ثم الدين، إذا افترضنا انه منزل من الله، إذا ما حُرِّف، ولا يعلم معتنقوه بتحريفه، بل يتبعون الدين المحرَّف، بدلا من الدين الإلهي، ولا يتدخل الله لحفظ دينه من التحريف، فهذا دليل على نفي إلهية الدين، لأن عدم حفظه لدينه من التحريف، لا يكون إلا عجزا منه، أو لامبالاةً بما يطرأ على دينه، وكلا الاحتمالين، أي العجز واللامبالاة، ممتنعان على الله.