الرئيسية / دراسات ادبية وعلمية / في السنوية العشرين لرحيل الشاعر الخالد، مبدعون ومثقفون واكاديميون يكتبون:(9) /ابراهيم الخياط وحسان الحديثي وحميد الخاقاني…في استذكارات ومواقف عن الجواهري، ومنه

في السنوية العشرين لرحيل الشاعر الخالد، مبدعون ومثقفون واكاديميون يكتبون:(9) /ابراهيم الخياط وحسان الحديثي وحميد الخاقاني…في استذكارات ومواقف عن الجواهري، ومنه

السيمر / الخميس 03 . 08 . 2017

رواء الجصاني

دعونا نتساءل، مشتركين، قبل البدء، هل نحن في مناسبة رثاء؟ .. ام انها استذكار لخالد لم يرحل؟… هل رحل ، حقاً، محمد مهدي الجواهري (1898-1997) ؟! وهو القائل:
أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟
– وإذا ما كانت ملحمة – اسطورة كلكامش، السومرية الغارقة في العراقة، وحتى اربعة الاف عام، قد تحدثت عن الخلود والموت، ذلكم هو الجواهري يجسد الامر حداثياً، وواقعياً، فراح يَخلـدُ، وإن رحلَ، وعن طريق اخرى، هي الفكر والشعر والابداع..
– أما صدحَ – ويصدحُ شعره – كل يوم في قلوب وأذهان كل المتنورين، العارفين دروبهم ومسالك حياتهم ؟.
– أما برحت الاطاريح الاكاديمية، فضلا عن الدراسات والكتابات، والفعاليات الثقافية والفكرية تترى للغور في عوالم شاعر الامتين، ومنجزه الثري؟! .
– الظلاميون ومؤسساتهم، وأفرادهم، وتوابعهم، المتطوعون منهم أو المكلفون ، وحدهم – لا غيرهم – ما فتئوا يسعون، لأطباق صمت مريب عن الجواهري، وحوله، ولا عتاب بشأن ذلك، فلهم كل الحق في ما يفعلون، فالضدان لا يجتمعان : تنوير ومواقف الشاعر الخالد، ودواكن الافكار والمفاهيم …
… في التالي مجموعة مساهمات – ننشرها على حلقات – جاد بها لـ “مركز الجواهري الثقافي” مبدعون ومثقفون وكتاب وأكاديميون، وسياسيون، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري الخالد، في 2017.7.27… وهنا الحلقة ااتاسعة، مما كتبه الذوات الأجلاء، مع حفظ الالقاب والمواقع: أ. ابراهيم الخياط، أ. حسان الحديثي، د. حميد الخاقاني .. وعلى ان تصدر جميعها في كتاب عن “مركز الجواهري” في الاسبوع القادم:-
————————————-
21/ الجواهري المتنبي / ابراهيم الخياط (*)
لا أبتغي هنا، أن أتحدث عن الجواهري وعلاقته بالمتنبي، فهذا الحديث يمكن أن أختصره بالقول أن الشعر العربي برمّته هو أديم شاسع يشمخ فيه جبلان هما المتنبي والجواهري، وما بينهما تلال ومرتفعات وفي أنجع الأحوال هضاب.
كما لا ابتغي أن أتحدث عن نبوءة الجواهري من استشراف وتوقع ومحتملات قد أفصح عنها حين ترك دجلة الخير أوائل الستينات وكأنه أو أنه قرأ اللوحة السياسية بعينيه الشاعريتين فشاهد في الافق غبارا أسود، ولأن الرائد لا يكذب أهله فقد أنذر ورحل وبعده اسوّدت سماء بغداد في شباط من عام 1963.
وكذلك أفصح عنها حين ترك راحة ركابه أوائل الثمانينات لما شاهد البارودَ قمرا والدمَ شمسا والمشانقَ نجوما متناثرة في سماوات العراق مع الخطوات الاولى لتسنّم صدام منصبَ الجلاد الأول.
وأيضا، لا أبتغي هنا، أن أتحدث عن ابياته المدوّية التي اشتهرت أوائل الستينات في ردّ فعل شعبي ضد مبدأ “عفا الله عما سلف”، هذا المبدأ الذي كان “ريمونت” الزعيم آنذاك، نعم لا أتحدث عنها لأنّ القصيدة لم تكتب عن الثورة المجيدة في 14 تموز وما بعد اندلاعها بل هي خطاب موجه للفريق بكر صدقي عام 1936 ابان انقلابه الذي اتخذ منه جواهريّنا إسما لجريدته الاثيرة عهد ذاك:
فضيّق الحبل واشدد من خناقهم، فربما كان في إرخائه ضرر
ولا تقل تِرةٌ تبقى حزازتُها، فهم على أي حال كنت قد وُتروا
تصوّر الأمر معكوسا وخذ مثلا، مما يجرونه لو انهم نُصروا
والله لاقتيدَ “زيد” بإسم “زائدة”، ولاصطلى “عامر” والمبتغى “عمر”
والقصيدة اسمها “تحرك اللحد” ومستهلها:
كِلوا الى الغيب ما يأتي به القدرُ، واستقبلوا يومكم بالعزم وابتدروا
نعم، لا اريد أن أتحدث عما ذكرتُ، ولكن مبتغاي أن اتحدّثَ عن الجواهري المتنبي عندما قال عصماءه:
طالت – ولو قصرت يدُ الاعمار- لرمتْ سواك، عظمتَ من مختارِ
وفي أتونها أضاف:
ذُعر الجنوب فقيل: كيدُ خوارج، وشكا الشمال فقيل: صنعُ جوارِ
وتنابز الوسطُ المدلّ فلم يدع، بعضٌ لبعض ظنةً لفخار
ودعا فريقٌ أن تسودَ عدالة، فرُموا بكل شنيعةٍ وشنار
إنها قصيدة كتبها الجواهري رثاءً للزعيم الاول “أبو التمن” في أربعينيته أوائل عام 1945، ولقد تنبأ الجواهري، والقول هذا لا أقوله على ما يسري الان فقط، بل منذ انتفاضة شعبنا عام 1991.
نعم لقد تنبّأتَ سيدي أبا فرات، وكانت لقولك وشعرك مصاديق على أواننا وأمسنا وغدنا المديد الكبير، ويصدق القول اذا قلنا: أنت الجواهري وأنت المتنبي.

(*) شاعر وكاتب

22/ الجواهري، قَرْنٌ من الشعر/ أ. حسان الحديثي(*)
لم يعرفْ الشعر العربي منذ قرون عديدة عبقريةً متفردةً كعبقريةِ محمد مهدي الجواهري ، وسيجد المتتبعُ لشعرِه الدارسُ لأدبِه أنه أمام أطوار شعرية تصاعدية تُمثل عقوداً من حياة محمد مهدي الجواهري ، ولعلنا نستطيع ان نلقي نظرة من بعيد على حياته لنزدادَ فهماً ودرايةً بحياتِه التي انعكست على فنِه وادبِه
فالجواهري هو الصبي المنطلق من أزقةِ وحواري النجف المُتعلم في مدارسها الدينية الضاربة في القدم، المتجرع شوك ألفية ابن مالك وجفاف كتاب سيبويه في صغره ثم الناهل من أمالي أبي علي القالي والمتمعن في نسيج ادب الجاحظ في البيان والتبيين، والجامع بين فقه اللغة وعلوم البلاغة والبيان إلى النقد في كامل المبرّد وأدب ابن قتيبة
الجواهري هو الطالبُ الذي نحت اللغةَ بآلةِ الدرس والإجتهاد ثم جمّلها من خلال الإطلاع على آداب وفنون الشرق والغرب والإحاطة بالتاريخ حتى تربع على عرشها فأصبح يقلّب المفرداتِ بقلب عارف وعقل عالم حتى غدت عنده أطوعَ من الطين في كف الكوّاز
الجواهري هو الحالمُ والطامحُ الى شرفِ الريادةِ في فنه وأدبه المتنقل بين بغداد ودمشق وبيروت وغيرها من المدن العربية حتى وسع افاقها واحتوى فضاءاتها وتشرّب عراقتها ثم المتغرب في مدنية آوروبا وحضاراتها حتى ايقن أن طول المسير من دون غايٍ مطمح خجل
الجواهري هو الشاعر والأديب الذي ظل يرمِقُ المعاني بإسجاح ولطف وترمقه بالف طرف فادرك دون مبالغة ولا تكلف انه شاعرٌ ولقد ولد كي يكون شاعراً ، وقدره ان يكون شاعراًحتى جلس على عرش الشعر فلقب عن جدارة بـ “شاعر العرب الأكبر”
الجواهري هو المتمكن في ثمانية عقود من الشعر أن يصلَ أوَّل الشعْرِ بآخرِه وأن يُعيدَه سيرتَه الأولى بعد أن شطَّ ومالَ كثيراً ، فهو الشاعر الذي ألبس الحَداثةَ بالتليدِ مستفيداً من حافظتِه العجيبةِ وإدراكِه لشعرِ الأولين وذكائِه الفريدِ في فهمِه لأساليبِ شعرِ المتأخرين، فهو -في ما أرى- إمتدادٌ طبيعيٌ لأربعة عشر قرناً من الشعرِ وحلقةٌ لا بدَّ من وجودِها في السلسلِة الذهبية للشعر العربي الذي ابتدأ بالنابغة وامتد بجرير والمتنبي والشريف الرضي وصولاً اليه فهو العباسيُ الذي ولد متأخراً بأثني عشرَ قرناً من الشعر وهو النافذةُ التي اطلّت منها عينُ الأدب الحديث على نهر تراثه من منبعه حتى مصبه وهو الناسجٌ بين لُحْمَةِ التليد وسَدى الحديث بين رصِّ الجاهليين وديباجة العباسيين وحداثة المتأخرين
وهو الشاعرٌ الذي جُمعت له قوة ومتانة البناء الى أناقة الالفاظ فجاء شعره شامخَ الطودِ ممردَ الصرحِ هائلَ المحتوى وهو الأديبٌ الذي أخذ مكانَه ومكانتَه بكلِ حزم ومقدرة فكان خير أديب يُبتدأُ ويختتمُ به القرن وهو الفيلسوف الذي البس الفكرة وشي الفهم حتى رفع طلاسم المثوى والمضجع وردها عن عَرَضِ المطمع .. الجواهري، هو قَرْنٌ من الشعر.

(*) كاتب وناقد ادبي

23/ مدخلي إلى معبـد الشعر/ د.حمـيد الخاقاني (*)
قَصَـدْتُ عوالمَ الجواهري وكاتدرائياته الشعريةَ، بوعيٍّ أولَّ مرةٍ، حين كنتُ طالباً في الصف الرابع الثانوي. دَلَّني عليها، آنذاك، استاذُنا في درس الأدب العربي، حينَها، الشاعر محمد النقدي، بعدَ أنِ اطَّلَع على محاولاتي الاولى في كتابة القصيدة العمودية. محاولاتٌ كان فيها من البؤس غيرُ القليل.
منذ ذلك اللقاءِ به أصبح (أبو الفرات) مدخلي إلى معبد الشعر قراءةً وكتابةً. لقد شعرتُ، مثلما أحَسَّ أقرانٌ لي عرفوا بعضَ شعره في الفترة ذاتها، بأنَّ في الجواهري شيئاً آخرَ مختلفاً، لا نكاد نعثرُ عليه لدى الرصافي والزهاوي، وكانا كبيرَيْ عصرهما، ورمزَيْن لايُستهان بهما من رموز (مدرسة الإحياء والتجديد). في الكثير من شعر الإثنين نثريةٌ غير قليلة. وفيه إحساسٌ بلغة القصيدة وصُوَرِها الشعرية وجماليّاتِهما لا يرقى إلى إحساس الجواهري بها. لقد كان جَلِيّاً، منذُ البَـدْء، أنَّ شـعرَ هذا الجواهري يأخذُ قصيدةَ العمودِ، أو ما اصطُلِحَ عليه بقصيدة الكلاسيكيين الجُدُد، إلى آفاقٍ جديدة حقاً، لا تعرفها قصائدُ الآخرين من أقرانه، أو ممن سبقوه.
الغالبُ من شعر الجواهري يمضي بقارئه العارفِ إلى لغتنا في صفائها وتوقُدِّها، وطاقتها التعبيرية، وتلقائية حضورها الى محراب الفنان الحاذق مختارةً مكانها في روحه وفي قصيده.
سماتُ لغته الشعرية هذه لفتت، في وقت مبكِّرٍ من حياته الأدبية انتباهَ كبار ذاك الزمان إليه. فهذا (الزهاوي) يقول في ديوانه الأول الصادر نهايةَ العشرينات (1928): “قرأت ديوان الاستاذ الجواهري، فإذا هو، كاسمِ ناظمِهِ، عقودُ جواهرَ ثمينةٍ، يُبْهِرُ العينَ لَأْلاؤها. وهكذا شِعْرُ الشعور يَمْلِكُكَ سحرُهُ، وهكذا شعرُ الشباب الناهضِ تَهزُّكَ روعتُهُ …”.
أما (الرصافي)، كبيرُ زمانه هو الآخر، فقد عارضَ، فيما بعدُ، قصيدةً للجواهري بقصيدةٍ له جاء في مطلعها:
أقـولُ لربِّ الشعر مهدي الجواهري،إلى كَـمْ تُناغي بالقوافي الزواهرِ
وكأنَّي به يتخلَّى، بهذا، له عن ربوبيَّتَهُ هو للشعر في عصره.
ثمَّ عادَ (الرصافي) وأجابَ، قبل وفاته، بفترة قصيرة، على قصيدة للجواهري، أراد لها شـاعرُها أنْ تكون أنيساً للرصافي في عزلته ووحشته في شهور عمره الأخيرة. ومما جاء في القصيدة ـ الأنيس هذه:
تَمَرَّسْتَ بالأولى فكنتَ المُغامِرا، وفكَّرْتَ بالأخرى فكنتَ المُجاهِرا
وفَضَّلْتَ عَيْشـاً بين تلك وهـذه،بهِ كنتَ، بل لولاهُ ما كنتَ شـاعرا
عن هذه القصيدة يجيبُ (الرصافي) مخاطباً أبا فراتٍ:
بكَ اليـومَ لا بي أصبحَ الشعرُ زاهرا، وقد كنتُ، قبلَ اليومِ، مثلكَ شـاعرا
كأنَّ الرصافي يشيرُ، مرةً أخرى، إلى أنَّ الشعرَ لم يَعُدِ اليومَ سواكَ يا جواهري.
وما أنْ طَوَتِ الأربعيناتُ أوزارَها حتى كان الجواهري قد غَدا ساحرَ القصيدة الكلاسيكية الجديدة وسيِّدَها دونَ مُنازع. ولم يعُدْ تفَرُّدُه بين الشعراء، قديمِهم وحديثهم، موضعَ خلافٍ يُذْكَر.
حتى حركة الشعر الحديث والقصيدة الحرَّة التي غَيَّرتِ الكثيرَ من المفاهيم بشأن الشعر والشاعرية، وألقتْ بالكثير من شعراء التقليد، ممن كان لأسمائهم، لمعانٌ وبريقٌ يوماً، في زوايا النسيان، لم تستطعْ أنْ تهبطَ بالجواهري من عليائه، ومرَّتْ سَيْلاً هادراً أمامَ قمَّةٍ ظلّتْ شامخةً حتى رحيل سـيِّدها.
وبعدَ عشرين عاماً على رحيلهِ مغترباً عن العراق الذي غنّى له، وذادَ عنه، وتوحّدّ معه فانياً في مياه فراتَيْه، وغِرْيَنِها البابلي، كما يَفْنى عاشقٌ صوفيٌّ بمعشوقِهِ. أليسَ هو المُنْشِـدُ:
أنا العراقُ لساني قلبُهُ ودمي ، فراتُـهُ وكياني منه أشـطارُ
أما نزالُ نُرَتِّلُ، إلى اليوم، معه آياتِ (دجلة الخير)، آياتِ آلهتَيِّ الخصب والنماءِ (إينانا) وحفيدتها (عشتار)، ساكبينَ أرواحَنا في مياهه: أصلِ الخلق، منادينَ نهرَنا البعيدَ ـ القريبَ مع شاعرنا وأبينا:
يا دجلةَ الخيرِ، ما يُغليكَ من حَنَقٍ، يُغْلي فؤادي، وما يُشْـجيكَ يُشجيني
أقولُ بعد هذه العشرين يظلُّ ثمةَ الكثيرُ مما يُمْكِنُ قولُهُ في الجواهري الكبير حقاً. ثمةَ الكثيرُ مما ينبغي، ويجدُرُ، بحثُهُ فيما أورثنا من سِفْرٍ شعري متنوعٍ وغنيٍّ، لا يُمكن تَصُوَّرُ تاريخَ العراقِ الحديثِ دونَهُ.

(*) شاعر، واكاديمي

* يتبع / مع تحيات مركز الجواهري www.jawahiri.net

اترك تعليقاً