السيمر / الجمعة 04 . 08 . 2018
رواء الجصاني
دعونا نتساءل، مشتركين، قبل البدء، هل نحن في مناسبة رثاء؟ .. ام انها استذكار لخالد لم يرحل؟… هل رحل ، حقاً، محمد مهدي الجواهري (1898-1997) ؟! وهو القائل:
أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟
– وإذا ما كانت ملحمة – اسطورة كلكامش، السومرية الغارقة في العراقة، وحتى اربعة الاف عام، قد تحدثت عن الخلود والموت، ذلكم هو الجواهري يجسد الامر حداثياً، وواقعياً، فراح يَخلـدُ، وإن رحلَ، وعن طريق اخرى، هي الفكر والشعر والابداع..
– أما صدحَ – ويصدحُ شعره – كل يوم في قلوب وأذهان كل المتنورين، العارفين دروبهم ومسالك حياتهم ؟.
– أما برحت الاطاريح الاكاديمية، فضلا عن الدراسات والكتابات، والفعاليات الثقافية والفكرية تترى للغور في عوالم شاعر الامتين، ومنجزه الثري؟! .
– الظلاميون ومؤسساتهم، وأفرادهم، وتوابعهم، المتطوعون منهم أو المكلفون ، وحدهم – لا غيرهم – ما فتئوا يسعون، لأطباق صمت مريب عن الجواهري، وحوله، ولا عتاب بشأن ذلك، فلهم كل الحق في ما يفعلون، فالضدان لا يجتمعان : تنوير ومواقف الشاعر الخالد، ودواكن الافكار والمفاهيم …
… في التالي مجموعة مساهمات – ننشرها على حلقات – جاد بها لـ “مركز الجواهري الثقافي” مبدعون ومثقفون وكتاب وأكاديميون، وسياسيون، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري الخالد، في 2017.7.27… وهنا الحلقة العاشرة، مما كتبه الذوات الأجلاء، مع حفظ الالقاب والمواقع: أ. سعد عبد الرزاق، أد. جوان عبد القادر، د. صباح الشاهر.. وعلى ان تصدر جميعها في كتاب عن “مركز الجواهري” في الاسبوع القادم:-
————————————-
24/ الجواهري…/ سعد عبد الرزاق (*)
ربما أنا لست الشخص المناسب للحديث عن شعر الجواهري، فأنا بإختصار لا أفهم بالشعر. لا يُثمن الجواهري بإعتباره شاعراً فحسب، فكثير من معاني شعره لها خلفيات فلسفية واجتماعية وسياسية.
وربما هذا هو إنعكاس للحياة التي عاشها شاعرنا الكبير، ”عشت حياة عاصفة، اختلطت فيها عوالم بعوالم، الفقه بالشعر، والشعر بالسياسة٫والسياسة بالصحافة، والصحافة بالحب، والحب بالصداقات، والبؤس بالنعيم، والتوطن بالترحل، والطفولة بالرجولة“ .
وقد تشبع الجواهري بالفقه والشعر واللغة العربية من الأجواء الثقافية التي كانت تسود مدينته التي ولد فيها، وهي النجف. وكثير من الحكايات التي يرويها الجواهري تعود الى ايامه الأولى في مدينته، ”فرغم انني نقلت رحالي من أرض لأرض، مسافراً أو متنزهاً أو شريداً، إلا ان جذوري بقيت في تلك المجدبة الواقعة بين الصحراء والبساتين ونهر الفرات“ .
ورغم اعتزاز الجواهري بالنجف وشخصياتها المتميزة وتقاليدها ومرقدها العلوي الذي جاور البيت الذي نشأ فيه، فأنه ينتقد الكثير من السلبيات التي كانت تسود في المدينة. وبهذا الخصوص يعاتب والده الذي ”يبدو انه لم يفهم الواقع المرٌ الذي آلت اليه زعامات العوائل النجفية، بل وكل بيوتات العراق وماشابهها، فقد اصبح المال والاملاك المتوارثة والقدرة على التحايل وعلى اعطاء الأبهات حقها من المظاهر، فضلاً عما يمتاز به الواحد عن الآخر من الدهاء في ذلك، اساس الزعامات الأولى،..“ .
وبالمناسبة فأن شخصية الجواهري ابعد ماتكون عن الفئوية او الطائفية، انه وطني عراقي بحق، لا يميز الناس على اساس خلفياتهم الدينية او المحلية او غيرها، بل ربما يصح القول عنه بأنه كان اممياً.
تعرفت على الجواهري في نهاية عام 1962 في براغ، والتقيته مراراً فيما بعد. جلساته ممتعة للغاية، وهو شخصية مفعمة بالحيوية، حساسة، ومنفتحة على الأخرين. وقد يتبادر الى الذهن إنحيازه الى اليسار السياسي، إلا انه يلتقي مع اليسار في كل الأمور الوطنية التي تعادي الأفكار الرجعية وتدعو الى التحرر بكل اشكاله، خصوصاً تحرر المرأة العراقية.
وفيما يخصني فأنا تعلقت ببيتين من ابيات شعر الجواهري التي تنطبق على اوضاع مجتمعنا ما بعد 2003.
لا تنس انك من اشلاء مجتمع، يدين بالحقد والثارات والخطلِ
يستنفر اليوم من امس على غده، على المذاهب والأديان والنحل
(*) كاتب وباحث اكاديمي
1/محمد مهدي الجواهري، ذكرياتي، الجزء الأول، دار الرافدين، دمشق، ص14
2/ نفس المصدر، ص 39. 3/ نفس المصدر ص45
25/ من كردستان الى الجواهري / د. جوان عبدالقادر (*)
ونحن نستذكر الذكرى العشرون لوفاة عملاق الشعر العربي الحديث محمد مهدي الجواهري الذي عُرف بمواقفه الجريئة, وتبنيه لأفكار العدالة الاجتماعية والمساواة, ، لابد لنا تحديدا نحن الشعب الكردي ان نقف وقفة وفاء وتقدير لهذا الشاعر الذي اتخذ الجواهري موقفـًا ثابتًا من القضية الكردية عبر عنه في العديد من المقالات والقصائد التي نشرت في الصحف التي عمل فيها في بغداد. وقد لازمت القضية الشاعر, ترافقه أينما حلَّ؛ في وطنه وفي غربته, لذا لم يكن اعتمار الشاعر للطاقية (المنقوش عليها اسم كردستان) اعتباطًا, أو من قبيل الصدفة, وإنما كانت هذه الطاقية تحمل رمزية تبني قضية شعب, آمن بها من كان يعتمرها, لاسيما وأن هذه الطاقية كانت هدية من صديق الشاعر المقرب, الزعيم الكردي/ الرئيس العراقي السابق (جلال الطالباني) _ الذي حاولت اللقاء به في السليمانية, لكنَّ مرضه حال دون ذلك _ فقد أهداه الطالباني الطاقية معلقـًا بقوله:
“هدية من العربي المستكرد جلال الطالباني, إلى الكردي المستعرب محمد مهدي الجواهري”.
ووقوف الجواهري مع القضية الكردية, كان نابعًا من إيمان حقيقي للشاعر بهذه القضية, فالقضية الكردية شأنها شأن بقية قضايا شعوب المنطقة التي كانت تعاني من الظلم والاضطهاد, لذلك فالشاعر مثلما وقف في قصائده مع القضية الفلسطينية وناصرها, فقد وقف مع القضية الكردية كذلك, بغض النظر عن أطرافها.
ومثلما نفـذت قضيـة الشعب الكردي إلى فكر وشعر الجواهري, وأثبتت حضورها في دواوينه, كـان لمثقفي الكـرد من سياسييـن وأدبـاء حضور بين ثنايا قصائده, فقد كان لسعة موهبـة الشاعـر, وسمـو ثقافتـه, ورحابة أفقـه, دور كبير في أن ينجو من ضيق؛ قاد الكثيرين _ وإن كانوا من الطبقـة المثقفة _ إلى التعصـب, بحيـث أغفلـوا حقـوق الآخريـن, بينما الجواهـري ظـل ثابتًا على مبادئه, وهو ينشد العدل والمساواة لكل المظلومين في كل بقاع العالم, بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الطائفية أو المذهبية…
فهو عربي, شيعي, عراقي, ومع ذلك تجاوز حدود ذلك كله, إلى أن يصبح اهتماما إنسانيا, يشغل نفسه بهموم ومشكلات الإنسانية جمعاء, وتحتاج إلى شيء من الجهد وكثير من التأمل لتدرك أن إبداعه إبمان لا يتزعزع بحتمية انتصار المناضلين المثابرين, وبهم أُغرم طول حياته المديدة, وجعل غاية إبداعه _ طول عمره كله _ تمجيد بطولات الشعوب وتضحياتها, وسما بحبه الحريةَ فوق الطوائف والأعراف والمذاهب والعقائد, وانتمى إلى الإنسانية نفسها.
وختامًا لا بد أن نذكر أن الجواهري هو أول شاعر عربي أشار صراحة للقضية الكردية وتبناها, وتغنى بالثورات الكردية وزعمائها, لذا من النادر أن تجد كرديًا يجهل الجواهري, ومن يزور كردستان سيرى أن الجواهري هو الحاضر رغم الغيــــــاب, حيث تقام له مهرجانات سنوية, وقد أقيم له أكثر من نصب تذكاري في كل محافظات الإقليم، واُطلق اسمه على العديد من الأحياء والمدارس, اعتزازًا وتكريمًا ووفاءً له, ولما قدمه من مواقف جريئة, سيظل بها الرمز الذي يجسد وحدة الشعب العراقي بكل قومياته, وفئاته, وطوائفـــــــه, فما قدمه الجواهري في دواوينه, عجز السياسيون العراقيـــــــون عن تقديمه. فقد كان شخصية ذات انتماءات متعددة.
(*) اكاديمية، تحمل دكتوراه عن الجواهري من جامعة القاهرة- 2015
26/ من جواهر الفقه إلى جواهر الأدب / صباح علي الشاهر (*)
ربما أكون من المحظوظين الذين قيض لي أن ألتقي بالجواهري العملاق أكثر من مرة، آخرها في لندن في حفل تكريمه الذي أقامته جريدة “القدس العربي” في تسعينات القرن الماضي، نحن جيل يفتخر أنه عاش في عصر الجواهري الخالد، والجواهري قصيدة، مكتوبة أم مسموعة أم مرئية ، عندما تكون في حضرة الجواهري فأنت في حضرة الشعر كله.
كنت وما زلت أتهيب الكتابة عن شعر الجواهري، فشعر الجواهري جبل سامق يصعب إرتقاءه، لكنني أود أن اشير إلى أن الجواهري ظاهرة شعرية عربية فذه يستعصي على التأطير الأكاديمي ، هو المدارس الشعرية كلها ، ويخطيء من يحشر شعر الجواهري في مدرسة أدبية ، ويخطيء أكثر ذاك الذي يصنفه كشاعر كلاسيكي إحتكاماً لعمود الشعر ، أي للشكل، علماً أن الشكل ليس هو من يحدد المدرسة الأدبية بل المضمون، ومضامين شعر الجواهري لا تؤطرها مدرسة، هو كلاسيكي الشكل، رومانسي الأحاسيس، واقعي التناول، إنساني النزعة، عراقي الإنتماء، عربي اللسان والهوى، ثوري المواقف، ملتحم بقضايا شعبه وأمته ، والإنسانية جمعاء.
وهو مجدد ومطور في المبنى والمعنى ، ومبدع معان ومفردات ، إسميها بلا تحفظ ( جواهرية ) ، ولا يسع المجال إحصاء مفردات الجواهري المتفردة التي لم يسبقه إليها أحد .
” جربيني” قصيدة كتبها في عشرينيات عمره سبقت ما كتبه نزار بعقود، و” أنيتا” معلم إبداعي متجاوز لزمانه مبنى ومعنى ، ولسنا بصدد شعره النضالي ، فذاك ميدان لا يضاهي الجواهري فيه أحد ، ولا أظن أن الشعر سيحضي لأمد غير منظور بشاعر يلتحم عضوياً بقضايا شعبه وأمته ويعبرعن نبض الناس كما عبر الجواهري الخالد.
لله درك يا أبا فرات، شرقوا وغربوا في محاولة تعريف ما لا يُعرّف، لكنك بلمسة عبقرية جواهرية أدهشتنا ( فواجد هم بث ما يجدُ )، وذلكم هو “أصل الحكاية” كما يقول أخوتنا أبناء وادي النيل، لقد حمل الجواهري همه، وهم الناس ، وهم الشعب ، وهم الأمه ، وهم الإنسانية ، ولم يتوان لحظة عن البوح مهما كانت الظروف والعقبات ، فأحتل بجدار موقعه في قلوب الناس ووجدانهم ، وحفر إسمه في سجل الخلود الأبدي .
(*) كاتب واكاديمي
* يتبع / مع تحيات مركز الجواهري www.jawahiri.net