الرئيسية / ثقافة وادب / حديث ” كثير عزه “

حديث ” كثير عزه “

السيمر / الأربعاء 09 . 08 . 2017

هند بشير يونس

فلما قضينا من منى كل حاجة .. ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا .. وسالت بأعناق المطي الأباطح
وشُدتْ على حدب المهاري رحالنا .. ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

تناول الكثير من النقاد هذه الأبيات المنسوبة الى (كثيّر عزّة) بالدرس والتحليل واتفقوا على جمالها, ولكنهم اختلفوا في منشأ الجمال فيها. فمن قائل بأنه اللفظ دون المعنى, ومن قائل بان جمالها هو جمال المعنى فقط. وهناك من يرفض الفصل بين اللفظ والمعنى ويرى بأن النص عبارة عن بناء فني متكامل في الشكل والمضمون.
بعض النقاد القدامى كأبي هلال العسكري يعطي أهمية لكيفية القول اي للفظ ولا يرى اهمية لمعنى الابيات حيث يقول: (ليس المهم أن توصل فكراً وإنما المهم أن تقيم معادلاً فنياً لهذا الفكر). و في رأيه ان أبيات كُثيّر لا تحمل معنى كبيرا وكل ما فيها هو: ( ولما قضينا الحج ومسحنا الأركان وشدت رحالنا على مهازل الإِبل، ولم ينتظر بعضنا بعضاً جعلنا نتحدث وتسير بنا الإِبل في بطون الأودية). وكما ترون فانه بهذا الشرح جرد الابيات تماما من جمالها. اما ابن جنّي فشرحها بهذا الشكل: (ان هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن امساك الأزمّة, فاسترخت عن أيديهم, وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الامور. ولما كان الأمر كذلك, وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير, فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته..). كما انه يرى بان عبارة (أخذنا بأطراف الأحاديث) وحدها تثير شجونا وتستدعي الى الذهن ذكريات وتحرك مشاعر تخفق لها قلوب العشاق. والحديث قد يشمل اي حديث, ومنه الغزل والنسيب الذي يتعاطاه المحبون تعريضا وتلويحا وايماءا دون التصريح. واستدل على ذلك بقول الشاعر (أحاديث) وليس (حديث). ابن الأثير يرى هو الاخر بعدا معنويا للاستعارة. ويرى في هذه الابيات من حسن المعنى ولطافته ما لا يخفى على احد. اما (عبد القاهر الجرجاني), صاحب نظرية النظم, فيرى في الابيات تلاحم الشكل والمضمون. وهو لا يفصل بين اللفظ والمعنى. وعندما يشرح البيت الاول:

ولمّا قضينا من منى كل حاجة .. ومسّح بالاركان من هو ماسح

يقول بان (كل حاجة) تعني قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها. والمسح هو الاشارة الى طواف الوداع وهو في الوقت نفسه يشير الى السير ويوحي به. اذ ان اخر ما يفعله الحاج هو طواف الوداع. واعتقد ان الشاعر اراد بقوله (ومسّح بالاركان من هو ماسح), ان يبعد عن ذهن المتلقي المعاني التي اشار اليها ابن جني. وقد أشار الجرجاني الى جمال الاستعارة في البيت الثاني: (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطح) وحاول كشف اسرارها الجمالية, وذكر دقة تأليف البيت واحكامه وترابط الشطر الثاني مع الشطر الاول من البيت. ويرى الجرجاني ان السير السهل السريع (الذي يظهر اثره في حركة اعناق الابل) زاد من نشاط الركبان فأخذوا بينهم بأطراف الحديث. وبذلك فقد جعل عبارة (وسالت بأعناق المطيّ الأباطح) هي المحور. في حين ان ابن الأثير جعل (أخذنا بأطراف الحديث) هي المحور, واعتبر ان الركبان انما شغلوا بلذة الحديث عن الاخذ بالازمّة فاسترخت عن ايديهم فأسرعت المطايا.
قراءة هذه الابيات القليلة توحي للمتلقي بانه يقرأ حكاية تتحرك شخوصها في فضاء قصصي يشتمل على اللمحة السريعة والاشارة العابرة والخصائص الدرامية. وان الذي يتردد فيها ليس صوت المتكلم وانما أصوات المتكلمين. وهذا هو الذي زاد في شعبيتها.

اترك تعليقاً