السيمر / الاثنين 19 . 02 . 2018
د . لبيب قمحاوي / الاردن *
قبور الأردنيين قد تكون الملاذ الأخير للحكومة الأردنية في جهودها العنيدة المستمرة و الرامية الى استنباط وسائل وطرق جديدة لجباية الأموال من جيوب الأردنيين التي أصبحت شبه خالية . وفي القريب العاجل قد لا يتمكن الفقراء من الأردنيين ، وهم كثرٌ، من دفن موتاهم لضخامة الرسوم التي قد تفرضها الحكومة على عملية الدفن وعلى القبور كملاذ أخير للجباية إذ لم يبقى في الواقع أمام الحكومة الأردنية سوى الأردنيين الموتى بعد أن قامت بالسطو على جيوب الاحياء منهم الى حد الثمالة . فسياسة القنص ولوي الذراع التي تتبعها الحكومات المتعاقبة في التعامل مع المواطن الأردني قد تؤدي في نهاية المطاف الى استعمال مرارة الموت لإجبار الأردنيين على دفع المزيد من الرسوم و الضرائب حتى عن موتاهم لتمويل سياسة الجباية .
ماهي خيارات الأردنيين ؟
مايجري الآن لا يشكل فقط استخفافاً بالأردنيين ولكنه يعكس أيضاً قناعة المسؤولين بأنهم ، مهما فعلوا بالشعب ، فهو شعب إما مسالم إلى حد الإنتحار طوعاً، أو خائف الى حد التسليم قهراً . ولكن تبقى النتيجة واحدة وهي أن المسؤولين الأردنيين لم يعودوا يحسبوا أي حساب للمواطنين الأردنيين و اللذين حسب إعتقادهم سوف تقف معارضتهم لما يُفرض عليهم من أتاوات وضرائب ورسوم وغلاء عند حد الاحتجاج اللفظي و التظاهر السلمي .
لقد قامت الحكومات الأردنية العتيدة مراراً وتكراراً بالتعدي على مبادئ دستورية هامة وتَجَاوزِها بواسطة القانون الذي يفترض به أن يترجم روح الدستور ونصوصه وليس الإلتفاف عليها ومخالفتها مثل مخالفة المبدأ الدستوري بأنه ” لا تفرض ضريبة أو رسم إلا بقانون ” وبأن “الضريبة يجب أن لا تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء ” ( المادة 111 من الدستور الأردني ) . وحتى يتم تجاوز الدستور ، تقوم الحكومات بإعطاء أوجه الجباية المتزايدة أسماء أخرى غير الضريبة . هذا مع العلم أنه قد تم إخضاع السلطة التشريعية لأهواء السلطة التنفذية بعد أن فقد المجلس النيابي قدرته على مساءلة الحكومة أو إسقاطها ، و الأمثلة على ذلك عديدة .
واقع الضريبة في الأردن يتناقض في حقيقته مع ما صَرَّحَ به رئيس وزراء الأردن قبل أيام قليلة من أن الأردنيين مُتْرَفين لأنهم من الشعوب التي تدفع ضرائب قليلة وأن حولي 95% من الأردنيين لا يدفعون ضرائب ، وأن هنالك حاجة لزيادة تلك الضرائب وتعميمها !!! كلام غريب عندما يصدر عن رئيس وزراء الأردن بحق الأردنيين اللذين يكاد القاصي قبل الداني أن يسمع أنين معاناتهم . الأرقام تؤكد عكس ماقاله الرئيس حيث أن ما يقارب من 70% من الايرادات المحلية هي ايرادات ضريبية و أن 15% فقط من مجموع هذه الإيرادات الضرائبية هي من الشركات وأن 85% هي من أفراد الشعب وهم دافعي الضرائب الحقيقيين . أي أن 60% من مجمل الإيرادات المحلية السنوية تأتي من أفراد الشعب الأردني على شكل ضرائب مباشرة تشمل ضريبة الدخل على الأفراد وضريبة المبيعات و الرسوم الجمركية فقط .
أما الضرائب الأخرى في الأردن وبغض النظر عن مسمياتها ، تشمل الضرائب غير المباشرة و ضرائب أخرى لم تُحْتَسَبْ ضمن رقم 60% من مجمل الايرادات المحلية السنوية مثل الضرائب على المشتقات النفطية و الكهرباء و المياه والإتصالات و الطوابع ( 200 مليون دينار في السنة ) و الرسوم على تسجيل الأراضي و العقارات …الخ ناهيك عن مخالفات السير الجبائية و التي يتساءل الأردنيون عن مصيرها، و الغرامات بأنواعها و أسبابها المختلفة والتي تقترب نِسَبُها من الربا الذي حَرَّمَهُ الإسلام الحنيف .
وهكذا، وفي المقياس العام للأمور قد يكون الأردنيون ، نسبة الى مداخيلهم ، من أكثر الشعوب دفعاً للضرائب و الرسوم المباشره وغير المباشرة مع العلم أن الضرائب تتناسب في العادة مع الدخل . و الدستور الأردني ينص على أن الضريبة تصاعدية بمعنى أن ذوي الدخل الأعلى يدفعون الشريحة الأعلى من الضرائب وبشكل تصاعدي، والعكس بالطبع صحيح ( المادة 111 من الدستور الأردني ) ولكن الحكومة الأردنية في مخالفة واضحة للدستور لا تأخذ ذلك بعين الإعتبار . وهذه ليست المخالفة الوحيدة ، فزيادات الأسعار و الرسوم على السلع و الخدمات و المشتقات النفطية وغيرها تصدر بقرار حكومي وليس بقانون كما ينص عليه الدستور وذلك بعد أن سمح مجلس النواب للسلطة التنفيذية بأن تسلبه ذلك الحق الدستوري .
إن العذر الذي تتذرع به الحكومات الأردنية المتعاقبة لتبرير إستفحال سياسة الجباية هي ضرورة الإعتماد على الذات وتغطية العجز الدائم في الموازنة خصوصاً بعد نضوب المساعدات الخارجية حسب إدعاء تلك الحكومات . ولكن هذه السياسة هي نصف الحقيقة لأن النصف الآخر يتطلب الحد من الإنفاق العام والتسيب و الفساد خصوصاً و أن أوجه الإنفاق للمساعدات التي كانت ترد للأردن تبقى غامضة وتأثيرها على معادلة الموازنة يبقى مجهولاً وأثرها مشكوكاً به نظراً لغياب الشفافية والمحاسبة .
إن التلاعب بالحقائق لن يُجدي في النهاية وسوف يؤدي الى تفاقم الغضب الشعبي والى نتائج قد لا تُحمد عقباها. ففي الوقت الذي يوافق فيه معظم الأردنيين على أن الأردن يجب أن يعتمد على نفسه بشكل متزايد ، فإن أوجه الإنفاق العام المعلنة وغير المعلنة و المخصصات العلنية والخفية تبقى كما هي أو في إزدياد مما يؤكد للشعب عدم صدق النوايا الرسمية ، وأن الحكومة تكيل بمكيالين أساسهما أن التقشف هو على الشعب ومن مسؤوليته ، وأن الإنفاق هو حق للحكم و الحكومة تفعل ما تشاء دون مساءلة ، علماً أن الإنفاق الحكومي عقيم وعابث كونه أبعد ما يكون عن الإنفاق الاستثماري أو الرأسمالي أو لتعزيز البنية التحتية للأردن . ومثالاً على ذلك مبنى وزارة المالية الفخم الجديد ومبنى وزارة الصحة الفخم جداً وكل منهما كَلَّلف مايزيد عن خمسين مليون دينار من أموال الخزينة أي أموال دافعي الضرائب وليس من أموال المساعدات القادمة من الخارج . كما أن هنالك إنفاقاً هائلاً على مؤسسات للدولة لا تخضع لأي رقابة فعلية من أحد .
يُطالب الأردنيون تحت ضغط الغلاء واستفحال سياسة الجباية وضعف مدخول الفرد، بتغيير الحكومة وحل مجلس النواب. إن هذه المطالب تعكس إما أدباً جماً في توجيه اللوم أو جهلاً بحقيقة الوضع وموازين القوة ومراكز القرار في الأردن .
مراكز القرار و السياسات في الأردن لا تنبع من الحكومة التي أصبحت عبارة عن جهاز تنفيذي لقرارات تسقط عليها بالمظلات، بعد أن فقدت ولايتها الدستورية ولم تعد حكومة بالمعنى الدستوري المقصود بل جهازاً تنفيذياً من موظفين بدرجة وزير لا يملكون من أمرهم شيئاً . تغيير الحكومة إذاً هو مطلب جماهيري عقيم وهو أقرب مايكون الى ” فشة الخلق ” لأن المطلوب هو تغيير السياسات ، والسياسات لا تنبع من الحكومة ، وحكومة جديدة بنفس السياسات القديمة لن تغير من الواقع المرير شيئاً .
إن أهمية إختيار المسؤول الأول في أي قطاع أو مؤسسة بما في ذلك رئيس الحكومة و الوزراء هي مسؤولية وطنية تزداد أهميتها بإزدياد حجم المشاكل و التحديات المرافقة لها . وإختيار المسؤولين للمنصب العام ، خصوصاً رئاسة الوزراء يجب أن تحكمها قواعد و أسس تكون ، في ظل الغياب القهري لعملية الإختيار الديموقراطي البرلماني ، هي الضمانة لتولي المنصب الأشخاص الأكثر كفاءة وقدرة على العطاء و الأكثر نزاهة و أمانة في موقفهم السياسي وذمتهم المالية و الأخلاقية . أما إذا أصبح المنصب مكافئة على الإنصياع الأعمى و الإستسلام الكامل ، فإن مسؤولية المحاسبة و الضبط و الرباط قد تتحول إلى أزمة وطنية ، لأن إكتساب رضا الحاكم من خلال الإنصياع و الإستسلام التام يصبح في هذه الحالة بديلاً لبرنامج عمل الحكومة ولمسارها الفعلي في مختلف المجالات السياسية و الإقتصادية و المالية والتنموية ، وهو ما يحصل الآن في الأردن . فرئيس الوزراء لا يشعر بأن مرجعيته هي الشعب من خلال صندوق الإقتراع ، بل إن مرجعيته هي رضا الحاكم عليه بإعتبار إختياره للمنصب و بقاءه فيه بيد ذلك الحاكم . وهكذا تتمادى الحكومات في قراراتها ومنها الجباية إذا ماشعرت أن ذلك سيلبي ما هو مطلوب منها في نظر الحاكم وهو الأمر الأهم بالنسبة لها ، وليس مايريده الشعب أو يرفضه .
الأردنيون لن يَقبَلوا أن يستمر الوضع القائم على ماهو عليه . وإذا كان من الضروري التوصل الى حل سلمي لهذه المعضلة ، فعلى نظام الحكم أن يفسح المجال الدستوري أمام الشعب ليتمكن من محاسبة الجميع من منطلق مبدأ تلازم السلطة مع المسؤولية . أما أن تكون هنالك سلطة دون توفر القدرة على محاسبتها فهذه دعوة الى تفاقم الفساد و التسيَّب مما قد يؤدي إلى الإنفجار.
الحكومة الأردنية في واقعها إذاً هي عنوان أجوف دون محتوى حقيقي ، و المطلوب فعلاً هو التغيير الحقيقي وليس المظهري ولا يتم ذلك إلا بالعودة الى أصول الدستور الأردني و إعادة الولاية الدستورية للحكومه كما ينص على ذلك الدستور. فالشعب يجب أن يكون قادراً على محاسبة السلطة التنفيذية ، ومجلس النواب يجب أن يستعيد السلطة والقدرة على محاسبة صاحب الولاية الدستورية أي الحكومة . فالملك ، طبقاً للدستور ، غير مسؤول ولا يمكن محاسبته مما يجعل من عودة الولاية الدستورية المفقودة للحكومة ضرورة قصوى . وبخلاف ذلك لا يستطيع أحد محاسبة حكومة لا تملك من أمرها شيئاً وكل من تفعله هو تنفيذ سياسات تم وضعها لها .
إن تعاون كافة الأطراف على الخروج بحلول سلمية ودستورية شفافة للمعضلات التي تجابه الأردن الآن هي مسؤولية جماعية لا يوجد فيها كبير وصغير لأن الوطن واحد ، وجميع من فيه يعانون من سوء الحكم وسوء الإدارة و التخبط والفساد بأشكاله وألوانه المختلفة . وعلى أولئك المسؤولين اللذين ثبت فشلهم وعدم قدرتهم على خدمة الوطن وإنحصر إنجازهم في إرضاء الحاكم ، التنحي جانباً و التوقف عن التعامل مع الوطن الاردني باعتباره مزرعة لهم وحكراً عليهم وعلى أبنائهم .
________________________________________
*مفكر وسياسي
19 . 02 . 2018