السيمر / الخميس 15 . 11 . 2018
د. لبيب قمحاوي / الاردن
إعادة بناء المجتمع الأردني على أسس واضحة من المواطنة الناجزة وسيادة القانون والشفافية هي التحدي الحقيقي والشرط الأساسي للنهوض ببرنامج الاصلاح الوطني الذي يهدف إلى إعادة بناء الأردن الجديد ، وهو الوسيلة الأمثل والمدخل الصحيح لتجاوز الأزمات التي تعصف حالياً بالوطن الأردني بشكل عام والتي ستصيب نتائجها السلبية جميع الأردنيين دون تمييز .
الأردنيون بشكل عام يواجهون وللأسف مصيراً مشتركاً لا يكمن أساسه في الرخاء المنشود بقدر ما يكمن في الخراب والدمار الإقتصادي الحاصل والمتوقَّـعْ والذي يدق الآن أبواب كل مواطن أردني ، ربما بإستثناء طبقة الفاسدين المتنفذين أنفسهم .
وحدة المصير التي تجمع الأردنيين في واقع الضَرَّاء الذي يعيشونه ويعانوا منه الآن ، وسعيهم الدؤوب نحو السَرَّاء والانفراج الإقتصادي والسياسي ، هو ما يجب أن يُعيد اللُحْمة للمجتمع الأردني ويُوَحِّد أبناءه في ذلك المسعى .
الظرف التاريخي الذي دفع إلى الوحدة بين الضفتين ، و الظرف التاريخي الذي دفع إلى فك تلك الوحدة كلاهما لم يعد قائماً . أما الذي بقى قائماً فعلاً فهو ما نتج عن تلك الوحدة من حقائق مجتمعية فاقت في قوتها عوامل القهر السلبي التي حاولت جاهدة الانقضاض على منجزات تلك الوحدة وفَشِلَتْ لأن الواقع أقوى من الخيال والتخيلات والأوهام وأكثر منه ثباتاً وقدرة على الاستمرار .
الحديث هنا لا يتعلق بمقولة الحقوق المنقوصة فهذا كلام قديم قد عفا عليه الزمن، كما أنه لا يتعلق بالتمييز ولا يتعلق بالاصول والمنابت وغير ذلك من الشعارات التي تجاوزتها الأحداث . ما نحن بصدده يتعلق بحقائق أقوى وأثبت وأهم تؤكد على أولوية المبدأ الإنساني بأن الدولة هي لأبنائها جميعاً دون النظر إلى فرق اللون أو الدين أو الجنس أو العِرْق أو الأصول أو المنابت إلخ ، بل المواطنة الحقِّه المتكافئة التي تُجَمِّع ولا تُـفَـرِّق . الأَوْلى بالمواطن الشريف أن يتعلم الدرس من الفاسدين اللذين يجمعهم الفساد دون أي إعتبار للفوارق في الأصول والمنابت والدين والجنس . وإذا كان الفاسدون قادرين على تجاوز الفروقات فيما بينهم في سبيل مصالحهم المشتركة في الفساد ، فالأولى أن تكون المواطنة الحَقَّة هي القوة الجامعة لكل أبناء الوطن الواحد من أجل المصلحة العامة .
تعتبر الدعوة إلى الاصلاح ناقصة إذا لم ترافقها الدعوة إلى تكريس شمولية الهوية الوطنية كتعريف شامل وغير منحاز للمواطنة ، وتلك هي الطريقة الوحيدة للخروج من حالة الاستقطاب المجتمعي والجهوي والسياسي التي يعيشها الأردن . لا يوجد تعارض بين الهوية الفردية للمواطن والهوية الجماعية للوطن أو مابين الذاكرة الفرعية للمواطن والذاكرة الوطنية الجماعية للشعب . فالهوية الوطنية الجامعة للشعب هي التعبير عن المواطنة وهي المظلة التي تحتوي وتستوعب الهويات الفرعية . الهوية ليست قومية بقدر ماهي حالة إنتماء طوعي تسمح للمواطن بأن يعبر عن ذاكرته الشخصية دون أي تناقض مع ذاكرته الوطنية . فالأردني من أصول شركسية مثلاً يستطيع أن يستذكر أصوله وعاداته وتقاليده الشركسية دون أن يعني ذلك أي تناقض مع أردنيته ، ونـفس الشيء يـنطبق على الأردني من أصول شامية أو فلسطيـنية أو عراقيـة … الخ . والغناء والفولكلور والطعام الشركسي أو الفلسطيني أو البدوي أو العراقي أو الشامي قد يصبح جزاً من الوعاء الأردني الجامع والحاضن وبالتالي جزأً من الهوية الوطنية الأردنية . وهذا ينطبق على كل شعوب الأرض المتحضرة والتي ترفض أي تمييز بين مواطنيها على أساس الأصول والأعراق واللون والدين وتعتبره مخالفاً للمعايير الدولية والانسانية . فشرعية الهوية الوطنية الجامعة تُستَمد من كونها الوعاء الذي يحتضن كافة مكوناته ، ولا يوجد انتقائية في ذلك والا أصبح النظام الحاكم نظام تمييز عنصري بإمتياز .
يعاني الأردن حالياً من الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية وضعف سلطة الدولة ما يدفع بضرورة وأهمية البحث عن القواسم المشتركة الجامعة بين الأردنيين كمدخل للإصلاح ، بعكس الحقبة السابقة التي أدَّى فيها الخلط بين مفهوم الحفاظ على المكاسب الشخصية والجِهَوية وواقع المواطنة وأولوياته ، إلى البحث عن أسباب التمايز والفرقة وتكريسها كأساس لتصنيف المواطنة .
مرة أخرى يعود اللَّغَطْ والخلط ما بين الشعب الفلسطيني والمواطنين الأردنيين من أصول فلسطينية ، والحقيقة تبقى غامضة فيما إذا كان هذا الخلط عفوياً ويخلو من النوايا الخبيثة ، أو مقصوداً ويهدف إلى خلط الأواق بشكل يؤدي إلى خدمة أهداف ضيقة كارثية على حساب السلم الإجتماعي والوحدة الوطنية الأردنية .
والخلط هنا قد يكون مقصوداً بهدف توجيه أنظار واهتمامات المواطنين إلى الجهة الأخرى وإلى أخطار وهمية بعدما تبلور موقف وطني واحد وواضح معادي للخراب الإقتصادي المرتبط يسوء الادارة والفساد العام . إن محاولة خلق عدو وهمي جديد بهدف تمزيق الصف الوطني أمر تمارسه العديد من الأنظمة المأزومة حتى تتمكن من اختراق الموقف الوطني المُوَّحَدْ من خلال تحويل الأنظار عن الأزمة الحقيقية وتوجيهها إلى أزمة وهمية مصطنعة وخِلاَفِيَّة .
ما يتعلق بالأردن يخص الشعب الأردني كوحدة واحدة وما يتعلق بفلسطين يخص الشعب الفلسطيني وَحْدَه . ومحاولة خلق لُبس في تعريف من هو الأردني ومن هو الفلسطيني أمر يبعث على الشك في نوايا من يدعو إلى ذلك التعريف لأن المُعَرَّف لا يحتاج إلى تعريف .
إن تكريس سلطة الدولة يجب أن تأتي متلازمة مع سيادة القانون وعدالته كأساس لتعزيز المواطنة الحقة والناجزة وحمايَةً للدولة من الفوضى والتَّـسَـيُّب الناتج عن ضعف القانون أو إنحيازه في التطبيق بين المواطنين ، ومنعاً لتبلور دولة الاستبداد والفساد .
لا أحد يريد لهذا الهدف في اللُحْمة الوطنية والمواطنة الناجزة والإصلاح أن يُبنى على قاعدة سلبية تنحصر في رفض الخراب ومقاومة الفساد ، ولكن أيضاً وبالاضافة على السعي نحو الرخاء وبناء الوطن . فمطالبة الجميع بالوقوف في وجه الفساد والسعي للإصلاح تفترض أن الوطن وعافيته للجميع ، وأن خرابه ودماره على الجميع أيضاً دون تمييز .
الأردن قوي بأردنيته وبوحدة والتفاف الأردنيين حول هويتهم ووطنهم ، وهكذا يجب أن تكون الأمور وعلى هذا يجب أن تستقر . وكما تَصْنَع التحديات الرجال ، فإنها تَصْنَع الشعوب أيضاً. فلهيب التحديات يجب أن يكون الطاقة التي تَصْهَر مكونات أي مجتمع وتُحَوِّله إلى مجتمع متجانس متكامل . وبغير ذلك تصبح تلك التحديات المطرقة التي قد يستعملها البعض لتدمير أسس الأمن الإجتماعي ووحدة المجتمع التي تهدف إلى تعزيز عوامل التقارب وتمكين المجتمع من مواجهة تلك التحديات ، عوضاً عن تعزيز الفرقة كوسيلة للهروب منها .
إن عملية تطويع القانون وتفسيراته لاستخدامه في تبرير سياسات قادمة أقل ما يمكن وصفها به أنها مُرِيبة يجب أن تتوقف ، وإلا فإن ذلك سيفتح المجال أمام اجتهادات وإشاعات قد تعصف بالأمن والسلم الاجتماعي ، وتدفع بقوى سلبية كانت كامنه في كَنَفْ المجتمع المدني الأردني للعب أدوار لا يريدها أحد . فالأردن يموج الآن بالشائعات المرتبطة بصفقة القرن ونتائجها المتعلقة بمستقبل ” الضفة الغربية ” وعلاقة كل ذلك بمستقبل الأردن ودوره في المنطقة . وإذا ما كان هنالك من مخططات مشبوهة مرتبطة بتلك الصفقة فهذا مسار وخيار إسرائيلي وأمريكي ، والقبول بها سيكون خيار الحكام وليس الشعوب . كل ما سينتج عن صفقة القرن لن يكون في مصلحة الفلسطينيين أو الأردن أو العرب على الإطلاق ، ولا داعي أن نبدأ بتجريم وتخوين بعضنا البعض ونحن ، أي الشعوب ، براء من دم يعقوب ، بل علينا أن نتحد في مواقفنا الرافضة حتى نُمَكِّن الحكام من الرفض أو نمنعهم من القبول .
2018 / 11 / 15