السيمر / فيينا / السبت 04 . 04 . 2020
عربي بوست
الدول الكبرى في العالم كالولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي تعاني من أجل احتواء تفشي وباء كورونا وتكرّس كل مواردها الهائلة لمواجهته، فما بالنا ببلاد الرافدين التي تواجه أزمة سياسية منذ شهور، وكارثة تفشي الفيروس، في وقت توقف التجارة وانهيار أسعار النفط؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً تناوَل الوضع الكارثي في الدولة العربية، إذ عندما سجّل العراق أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا، طلب وزير الصحة من الحكومة دعماً بقيمة 5 ملايين دولار من أموال الطوارئ. لكن صندوق الطوارئ لم تكن به أموال ليحصل عليها.
الوضع يتداعى على كل الجبهات
اتجه وزير الصحة، جعفر صادق علاوي، بعد ذلك إلى أحد القادة الدينيين [مقتدى الصدر] الذي يفرض سيطرته على مزار شيعي يدرُّ كثيراً من الأموال، مناشداً: “لا توجد نقود، ونحن في وضع صعب”.
العراق يتداعى على كل جبهة تقريباً. فقد تراجعت عائدات النفط، التي كانت مصدر الدخل الرئيسي للحكومة، مع انهيار الأسعار العالمية للنفط، لتلجأ الحكومة إلى طلب التبرعات؛ لمساعدتها في تجاوز هذا الوباء.
صحيح أنَّ حظر التجول المفروض على مستوى البلاد قد حال دون انتشار الفيروس، لكنه أيضاً أدى إلى إغلاق الأنشطة التجارية وتسريح الغالبية العظمى من العاملين غير الحكوميين من وظائفهم، كما أن النظام العراقي ذاته يعاني من حالةَ تشتتٍ كبيرة، بعد أن أطاحت الاحتجاجات المناهضة للحكومة برئيس الوزراء في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وعجز البرلمان عن الاتفاق على قيادة جديدة.
العراق يعاني من أزمات متعددة تجمعت معا
وعلاوة على هذا وذاك، ما تزال الميليشيات المدعومة من إيران تشن هجماتها الاعتيادية على القوات الأمريكية، آخرها يوم الخميس الماضي عندما سقط صاروخان بالقرب من السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وهو ما يهدد بانجراف العراق أكثر فأكثر إلى عاصفة الأعمال العدائية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة.
الفترة الأسوأ على الإطلاق
يقول رياض الشيحان، وهو عسكري مخضرم يبلغ من العمر 56 سنة، إن “هذه أسوأ أيام عشناها في العراق. لقد عشت الحرب العراقية الإيرانية، والانتفاضة الشعبانية، وصدام حسين، لكن هذه الأيام أسوأ من كل ذلك”.
حلَّ صمت غريب على جزء كبير من بغداد، وهي العاصمة التي تضم ثمانية ملايين نسمة، وتكاد الطرق السريعة خارج المدينة تخلو من السيارات، غالباً بسبب القيود المفروضة على السفر، وحتى في يوم الجمعة الذي يكون إجازة عند معظم الناس، خلت الحدائق المزدحمة عادةً، بسبب الحظر المفروض على التجول.
وحتى يوم الأحد، كان عدد الحالات المؤكدة إصابتها بالفيروس في العراق قد بلغ 547 حالة، ومع ذلك فإن البلاد أجرت عدداً محدوداً للغاية من الاختبارات، وهو ما يدعو إلى اعتقاد أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بعدة مرات، ويقول باسم أنطوان، وهو خبير اقتصادي مقيم في بغداد، إن ما يزيد الوضع قتامةً على نحو خاص، هو أن مزيج الأزمات ذلك قد اكتسح فعلياً القطاعات الاقتصادية بأكملها تقريباً.
“الأوضاع الاقتصادية الحالية أسوأ مما سبق أن رأيناه من قبل، لأننا نشهد تعليق جميع القطاعات الإنتاجية، فليست ثمة صناعة ولا سياحة ولا وسائل نقل، وحتى الزراعة تأثرت أيضاً. إننا نشهد شللاً شبه كامل في الحياة الاقتصادية، وهي موضوع رئيسي في الاحتجاجات المستمرة. علاوة على أن حركة التنقل مقطوعة، سواء بين المحافظات العراقية وبعضها أو بين العراق والدول الأخرى”.
حرب أسعار النفط
يُباع النفط حالياً بنصف السعر تقريباً، أو أقل مما كان عليه قبل ثلاثة أشهر، بسبب حرب الأسعار الجارية بين السعودية وروسيا. فقد انخفض من نحو 60 دولاراً للبرميل في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى أقل من 30 دولاراً.
ويقول فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية التي يقع مقرها في باريس، إن انخفاض أسعار النفط وجّه ضربة شديدة للاقتصادات المعتمدة على النفط، غير أن العراق من المتوقع أن يكون الأكثر تأثراً بتلك الضربات.
ويؤكد بيرول أن “العراق هو الدولة رقم 1 من حيث التأثر، لأنه ليست لديه احتياطات مالية، ولأن 90% من عائداته تأتي من النفط. كذلك فإن تلك الضغوط الاقتصادية كلها تأتي في بيئة سياسية شديدة التوتر بالفعل”.
يشير أنطوان إلى أن احتياطات العراق النقدية تبلغ 62 مليار دولار، وهو ما يعتبره صندوق النقد الدولي غير كافٍ للوفاء باحتياجات البلاد، ويقول سيد جاياشي، عضو مجلس الأمن الوطني العراقي وهو أيضاً عضو في اللجنة العراقية الخاصة بمكافحة فيروس كورونا والتابعة لرئاسة الوزراء، إن الحكومة أنشأت صندوق تبرعات لدعمها خلال تلك الفترة، والذي جمع تعهدات بمبالغ تقل عن 50 مليون دولار من التبرعات.
وحتى في حال الوفاء بتلك التعهدات، فإن ذلك المبلغ لن يكون ذا تأثير يُذكر، إذ تعاني الحكومة الحالية عجزاً يتجاوز ملياري دولار شهرياً وذلك فيما يتعلق بالنفقات الجارية فحسب، كما أن القطاع الخاص العراقي قطاعٌ محدود، وبعضه مدعوم بعقود حكومية، بالإضافة إلى اقتصاد غير رسمي متنامٍ. ومع ذلك، فإن القطاعين العام والخاص كليهما تعرض لضربة قوية في أعقاب انتشار فيروس كورونا، بسبب حظر التجول المفروض يومياً على مستوى البلاد، والذي جرى تمديده مؤخراً إلى 11 أبريل/نيسان المقبل.
كما أجبرت الأوضاع عمالَ البناء والباعة الجائلين وخدَم المنازل وسائقي سيارات الأجرة على البقاء في منازلهم، إذ يعيش معظمهم على مكاسبه اليومية ويفتقرون إلى مدخرات يستندون إليها؛ ومن ثم سيعانون الجوع قريباً، وفي بعض الأحياء، تفرض الشرطة غرامة تبلغ 80 دولاراً على أي شخص يحاول بيع السلع على الرصيف، وهو مبلغ يفوق بكثير ما يجنيه معظمهم في اليوم الواحد.
أزمة سياسية ممتدة
يقول العراقيون إنه من الصعب معرفة إلى متى يمكن تحمل مثل هذه المعاناة الاقتصادية الهائلة، غير أنها تزداد ضراوة، خاصةً في ظل الافتقار إلى قيادة سياسية، وكان العراق يواجه بالفعل أشد أزماته السياسية منذ سنوات، قبل أن يجتاح الفيروس العالم وتنهار أسعار النفط، فمنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع، مطالبين بحكومة جديدة ووضع حدٍّ للفساد وكبح النفوذ الإيراني في البلاد.
ومع تضاؤل أعداد المحتجين في الشوارع بحلول الشتاء ببرودته وأمطاره، لم يُفرض حظر تجول صارم في مواقع الاحتجاج، وبقي بضع مئات من المتظاهرين بالساحات الرئيسة في بغداد ومدن أخرى، ومع ذلك فإنه في الوقت الذي يواصلون فيه الضغط على الحكومة، فإنهم باتوا يشكلون الآن خطراً صحياً محتملاً فيما يتعلق بانتشار الفيروس.
فقدان الثقة بالحكومة
وعلى الرغم من مناشدات الحكومة بالبقاء في المنازل، فإنَّ حسن علي، البالغ من العمر 20 عاماً، ذهب مؤخراً لزيارة ضريح شيعي مقدس في بغداد، فهو يرفض تحذيرات الحكومة لأنه لا يثق بها، ويقول: “هذه الأزمة أشد صعوبة علينا، لأننا بصراحة ليست لدينا حكومة حقيقية”.
“الحكومة ضعيفة للغاية، بائسة للغاية، ليس لديها حل للأزمات، ولا حل للشباب الذين ليست لديهم وظائف. ومع انتشار الكورونا، فإن الأمر أشد صعوبة، لأنه ليس بإمكان أحدٍ الاعتماد على الحكومة”.
وقد يكون عليّ محقاً في كلامه من نواحٍ كثيرة، ففي منتصف شهر مارس/آذار، قال وزير الصحة العراقي إنه يحتاج 150 مليون دولار شهرياً لشراء المعدات التي يحتاجها لمكافحة الفيروس، ومع ذلك فإن صندوق التبرعات الذي أعلن عنه لم يجمع سوى جزءٍ صغير من المبلغ الذي تعتقد الوزارة أنه مطلوب لحماية العاملين في مجال الرعاية الصحية وإيواء وعلاج المرضى.
لم يتوجه سياسي واحد حتى الآن بحديثٍ مباشر إلى الجمهور حول العقبات المالية التي تنتظر البلاد. وخلال التصريحات الأخيرة التي كانت معنية في المقام الأول بحثِّ المواطنين على اتباع تعليمات وزارة الصحة، أشار كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبدالمهدي والرئيس برهم صالح إلى الاقتصاد عرضاً، دون توضيح أو تناول للوضع الاقتصادي القائم.
قلة حيلة النظام
يقول اقتصاديون إن أحد أسباب ذلك افتقارهم إلى شيء يبعث بالراحة في نفوس الناس، فالعراق ليست لديه سيطرة على أسعار النفط العالمية، وعلى الرغم من أن مستشارين وحكومات أجنبية دأبت على حث القادة العراقيين على تنويع اقتصاد البلاد، فإن ذلك التنويع لم يحدث، لأسبابٍ بعضها عملية، وعلى رأسها النزاعات المسلحة في البلاد، لكن بعضها متعلق بثقافة سائدة أيضاً.
إذ لأكثر من 60 عاماً، سيطرت الحكومة القائمة على اقتصاد العراق: فشركات النفط معظمها مملوكٌ للحكومة، وكذلك المصانع، وكثير من شركات البلاد. حتى إن بعض الشركات الخاصة تقوم على العقود الحكومية، وهو ما يجعلها تعتمد في الغالب وعلى نحو غير متناسب، على القطاع العام.
ويذهب كثير من الناس إلى أن الوظيفة الوحيدة التي يُعوَّل عليها هي الوظيفة ذات الراتب الحكومي. ويقول باسم أنطوان، الذي كان مستشاراً اقتصادياً لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، إن نحو 4.5 مليون عراقي، أي نحو 30% من القوة العاملة في البلاد، إما أنهم موظفون حكوميون بأجر وإما أن لديهم عقوداً مع الحكومة.
يقول مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، إن الحكومة لم تخفض المرتبات حتى الآن، رغم أنها تشكل أكثر من 40% من ميزانيتها، لكنها اضطرت إلى النظر في إمكانية تخفيض أجور الموظفين في المستويات المتوسطة والعليا.
ويشير صالح إلى أن الاحتمال الآخر قيد النظر هو خفض الدعم ومطالبة العراقيين بدفع فواتير الكهرباء على نحو أوسع، إذ قلة من المستهلكين من يفعل ذلك الآن، بحسب كلامه.
عندما انهارت أسعار النفط في عام 2014، حصل العراق لدعم اقتصاده على قرضٍ بقيمة 4.5 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. لكن في ظل الأوضاع الحالية وجائحة فيروس كورونا، فإن هناك عدداً كبيراً من الدول التي تأمل دعماً ضخماً من صندوق النقد الدولي.
يقول بيرول: “في عام 2014، كان العراق يقاتل داعش وكان بإمكانه الاستناد إلى دعم شركائه ودعم دول أخرى، أمَّا الآن فالعالم كله مشغول بفيروس كورونا وقد يصعب جمع أموال والحصول على دعم من تلك الدول”.
وختم كلامه بالقول: “إن القضية الأهم في الوقت الحالي هي القطاع الصحي. إذا لم يتمكن القطاع الصحي من الحصول على تمويل من الحكومة المركزية، فإن ذلك ستكون له آثار خطيرة فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا، وعواقب شديدة الوطأة على الاستقرار المجتمعي في البلاد”.