السيمر / فيينا / الاحد 10 . 01 . 2021
د. نضير الخزرجي
من المناهج الدراسية العالقة في الذهن من ايام المرحلة الإبتدائية والثانوية هو درس الجغرافية، ففيه يتنقل التلميذ في أطراف الأرض، فيجوب البلدان ويقطع الفيافي والصحاري ويتسلق التلال والجبال ويعوم في سواحل الدول ويمخر عباب البحار والمحيطات ويتحول من جزيرة صغيرة إلى أخرى أكبر حالما برؤية عروس البحر!
إن قرأ التلميذ كتاب الجغرافية المحلى بالصور الملونة حلم بالسفر إلى هذه البلدان والتسكع في شوارعها وأزقتها، وإن استمع إلى مدرس المادة سرح مع السارحين الحالمين بامتطاء بساط سندباد ودعك فانوس علاء الدين، والحط في هذا البلد أو ذاك.
تلك من أمنيات عالم المراهقة، فما من تلميذ إلا ومرّ عليها وحلم بها .. وهو حلم مشروع ربما تحقق بإرادة ذاتية أو بدفع ظروف ليس للواحد منا دخل مباشر في حوادثها، ولكنها واقع حال تقذف به إلى هنا او هناك، فيقطع البلدان من اجل مستقر آمن.
ومن ذكريات رحلة الدراسة في مادة الجغرافية هو حرص المعلم أو المدرس على ايصال المعلومة إلى ذهن الطالب بأقصر الطرق وبخاصة تشكيل هيئة خارطة الدول والقارات، لأن رسم الخارطة يعتبر من أساسيات مادة الجغرافية وهي محل ابتلاء الطالب في الإمتحانات الدورية أو النهائية، ولأنها كذلك فإن المعلم يجهد في إيصال المعلومة بصورة سلسة باستخدام وسائل الإيضاح وكأن التلميذ في مختبر فيزياء أو كيمياء، وأقرب وسائل الإيضاح في مادة الجغرافية وأكثرها شيوعاً هي تشكيلة أصابع كف الإنسان أو استحضار الصورة العالقة في الذهن من أمور يومية مشاهدة، فعلى سبيل المثال كان أمثل صورة لرسم خارطة إيطاليا هو استحضار صورة حذاء نسائي ذي كعب عالي وذي رقبة طويلة أو ما يُعبر عنه ببعض اللهجات (البوتين) أو (البوت) تحتذيه المرأة ويستوعب ساقها إلى قرب الركبة، وحيث إن البوتين عالق في الذهن فإن رسم خارطة إيطاليا يسهل حينئذ.
ومن وسائل الإيضاح استخدام أصابع الكف أو عموم الكف، فكان معلم الدرس يشكل الأصابع لبيان خارطة بعض الدول، ومنها على سبيل المثال قارة استراليا التي كان يشبهها لنا بكف مقبوضة بأصابع غير مستوية، فيسهل حينئذ استذكار خارطة استراليا وهذا التلازم هو جزء من عملية الإستحضار والإستذكار التي يرسخها المعلم في ذهن الطالب محببا إليه درس الجغرافية ومسهلا له رسم خارطة الدول الداخلة في المنهاج الدراسي، وهو بالتأكيد من عوالق الذهن مهما كبر الإنسان.
تماهي الصورة الذهنية بعوالقها هي التي جعلتني استحضر درس الجغرافية وأنا أتابع قراءة كتاب “الإسلام في أستراليا” للمحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا في 104 صفحات من القطع المتوسط عن بيت العلم للنابهين في بيروت الذي قدّم له الأديب والطبيب الأخصائي الدكتور محمد باسم الانصاري المقيم في سيدني الذي يمثل واحداً من الشخصيات العراقية المهاجرة التي استطاعت أن تتخذ من الهجرة محطة للرقي والتألق وإظهار الصورة الناصعة للشخصية المسلمة المهاجرة الفاعلة التي لها أن تترك بصماتها الإيجابية الطيبة أينما عرَّست أو حلَّت.
أستراليا على مراحل
يمثل كتاب “الإسلام في أستراليا” أحد فصول الجزء الثاني من كتاب “معجم المشاريع الحسينية” من دائرة المعارف الحسينية للمحقق الكرباسي الصادر في طبعته الأولى سنة 1436هـ (2015م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 638 صفحة من القطع الوزيري، تابع فيه المؤلف واقع المسلمين في البلدان التالية حسب التسلسل الهجائي: إريتريا، إسبانيا، أسترالياـ إستونيا، أفريقيا الوسطى، أفغانستان، الإكوادور، ألبانيا، ألمانيا، الإمارات العربية المتحدة، أمريكا، وإندونيسيا.
الدكتور محمد باسم الأنصاري المولود في مدينة النجف الأشرف بالعراق سنة 1981م، أعدَّ الفصل للطباعة في كتاب مستقل تناول في مقدمة مستفيضة مقرونة بأرقام مفيدة مراحل اكتشاف أستراليا والمحطات الرئيسة في حياة المسلمين في هذه القارة الجنوبية، وقسمها إلى المراحل التالية: (1) مرحلة الإكتشاف، (2) مرحلة البناء، (3) مرحلة الإستقلال، (4) مرحلة إعادة البناء، (5) مرحلة التعددية الثقافية، (6) مرحلة الإسلاموفبيا.
وعكس الدكتور الأنصاري في إحدى وثلاثين صفحة من الكتاب (9- 39)، العقلية التي حكمت هذه البلاد العريضة، والسياسة التي اتبعتها خلال قرون عدة، وموقفها من السكان الأصليين (الإبريجين) حتى الوصول الى مرحلة الإعتراف بتعدد الثقافات والديانات التي فرضتها المتغيرات الدولية والمحلية وعملية إعادة بناء القارة التي مهدت لاستقبال قوافل العاملين والمهاجرين من البلدان القريبة والبعيدة، وقوافل اللاجئين التي تحملهم السفن الصغيرة حتى باتت القارة تضم 70 ديانة ومعتقداً ومذهبا، وصار الإسلام الديانة الثانية بعد الكاثوليكية، حيث يمثل المسلمون 27 جنسية عربية ومسلمة حتى بات عدد المساجد حسب إحصاءات هيئة الإذاعة الأسترالية سنة 2012م 340 مسجداً في عموم أستراليا بعد أن كانت أقل من 20 مسجداً في مطلع الثمانينات من القرن العشرين الميلادي، بيد أن المحقق الكرباسي يشير إلى (375) مسجداً بعد أن كانت 76 سنة 2004م.
ولا يخفى أن ازدياد عدد المساجد فضلا عن المصليات الموضعية هو مظهر من مظاهر الإنتشار الواسع للمسلمين في المدن الأسترالية.
جزيرة الواق واق
تضرب “جزيرة الواق واق” الواردة في الكتب التراثية والتاريخية مثلا على البعد عن مركز الجزيرة العربية، ولأنَّ الأجداد لا يعرفون عنها الكثير فإنهم يضربون بها مثلا لكل أمر غريب، وحتى يومنا هذا فهي تدخل في أدبياتنا وكتاباتنا للإشارة إلى كل مفارقة عجيبة حتى يظن المرء أن الجزيرة قائمة في الخيال الذهني، ولكن الدراسات القديمة والحديثة تشير إلى قارة أستراليا بوصفها جزيرة الواق واق، وبتعبير الدكتور الأنصاري: (ولعلَّ ما اشتهر على ألسنة الرحالة العرب، من وجود جزيرة في أقصى الأرض، وسميت بجزيرة الواق واق، هي هذه الجزيرة الكبيرة بعينها –أستراليا- وقد أشار إليها وبإسمها، وإلى جهتها الصحيحة في خريطة العالم التي رسمها العالم العربي المسلم الشريف إبن إدريس الإدريسي المتوفى سنة 1166 ميلادية، وهو أحد مؤسسي علم الجغرافية، ولعلّ تلك الكلمة كانت تعريباً لكلمة “واكا واكا”، ومن المناسب أن يُذكر أنَّ كلمة “واكا واكا” في بعض لغات السكان الأصليين “الإبريجين”، المسماة بـ “ورا ديجوري” تعني المكان الذي توجد فيه الغربان الكثيرة، وفي لهجة أخرى هي إسم لرقصتهم الرسمية)، ويؤكد الدكتور الأنصاري بوجود أماكن عدة في عموم استراليا تحمل هذا الإسم منها مدينة واكا واكا في ولاية نيوساوث ويلز (New South Wales).
وإذا أخذنا بنظر الإعتبار ما ذكره العالم الإدريسي، فإن المسلمين أقدم معرفة بالقارة من غيرهم من الأوروبيين، وهي معرفة الإحتكاك والمقاربة التي تعتمد على التجارة وليس على الإحتلال وتسخير الشعب الأصلي واستعبادهم، وهو ما يؤكده المحقق الكرباسي عند المقارنة بين اكتشاف القارة الأميركية والقارة الأسترالية مفيداً: (وكانت هجرة المسلمين إليها –أستراليا- قبل هجرة الغربيين إليها، حيث بدأت هجرة المسلمين بشكل عام قبيل الإكتشاف المنسوب إلى كريستوفر كولومبوس عام 897هـ (1492م) لأميركا وذلك من خلال إبحار التجار والصيادين الإندونيسيين إليها، وقد فوجئت الأفواج الأولى المهاجرة بوجود عدد قليل من العوائل التي لا تتجاوز أعدادهم ألف نسمة على هذه الجزيرة والتي كانت معتنقة للإسلام مما يُنبئ بأن الإسلام كان وقد وصلها قبل هذا التاريخ، أعني القرن الثامن الهجري).
الأفغان كانوا هنا
ما من باحث يتناول تاريخ أستراليا إلا ويمر على قوافل الجمال التي كان يقودها المسلمون الأفغان التي جابت صحارى القارة ووديانها من شمالها لجنوبها مما حتّم على الحكومة المركزية أن تطلق على خط القطار العابر للقارة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بخط غان أو خان إشارة إلى حوادير العيس الأفغان.
ولأنهم طافوا المدن، فكانوا أينما حلوّا أقاموا مسجداً للصلاة، ومن المساجد المسجلة تاريخيا هو مسجد مدينة موري (Moree) في جنوب استراليا المقام سنة 1277هـ (1861م)، ومسجد مدينة أديلايد (Adelaide) القائم حتى يومنا هذا الذي تم بناؤه سنة 1305هـ (1888م)، بل وكشفت المؤرخة الأسترالية سوزانا ريكارد (Suzanne Rickard) المولودة في سيدني سنة 1950م في تقرير نشرته صحيفة السيدني مورنينك هيرالد (Sydney Morning Herald) الصادرة يوم الجمعة 4/11/2014م وهي تشير إلى تاريخ الشعائر الحسينية في قارة أستراليا بقولها: (ومن المفاجئ للبعض أن يعرف إنه في شهر آذار من عام 1807م (محرم 1221هـ) غطت صحيفة سيدني جازيت “Sydney Gazette” شعائر إحياء العزاء، من خلال تقرير صحفي تناول الأسبوع الطويل الذي صادف ذكرى الإحتفال بالحسين، إذ تمّ إحياء مراسم يوم الأربعين من حداد الإمام الحسين بكل إحترام، كما أشار إلى تغطية هذه الواقعة وتدوين حوادثها، وتم تداولها على صدر الصفحات الأولى، من الصحف الصادرة في سيدني في ذلك العام 1806م).
ولا نعرف بالضبط متى توقفت هذه الشعائر، وربما كان مع السياسة البيضاء التي اتبعتها الحكومة الاسترالية مع بداية عصر الإستقلال الذي بدأ في الأول من كانون الثاني يناير 1901م، وكما يؤكد الدكتور الأنصاري: (صدر أحد أكثر القرارات تعسفاً في تاريخ البلاد، إذ أعلن الوطن الجديد سياسة أستراليا البيضاء، فطُرد كثير من العاملين من غير البيض، وهُجِّروا قسراً، وتبنَّت الحكومة مساعدات ودعم إضافي لكل تاجر يستبدل عمّاله الملوَّنين بذوي البشرة البيضاء. أعقبت هذه الفترة، فترة عصيبة أشدّ، وهي فترة سياسة أخذ الأولاد قسراً من أهلهم الابريجين لينضجوا بثقافة بيضاء نصرانية. وهنا ضاع كل تاريخ المسلمين في هذا البلد الفتي، إما رغبة أو رهبة، حتى إنا لا نرى اليوم الكثير من أجيال المسلمين الأوائل في أستراليا، من المهاجرين أو السكان الأصليين، من باقية، واستمر الحال خلال الحربين العالميتين، ومع الركود الإقتصادي العظيم).
وإذا كانت المصادر التاريخية أشارت إلى احتفالات مسلمي أستراليا بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) في القرن التاسع عشر الميلادي، ولم تشر إلى تاريخ توقفها، ولكن من المؤكد أن الزعيم الديني في أستراليا آية الله الشيخ محمد حسين الأنصاري المولود في بغداد سنة 1951م وهو والد الدكتور الأنصاري كان له قصب السبق في إعادة هذه الشعيرة إلى الشوارع الأسترالية عبر مسيرة انطلقت في إحدى ضواحي سيدني في محرم سنة 2004م لتنتقل بعد سنوات قلائل إلى قلب سيدني عند معلم الأوبرا هاوس الشهير (Sydney Opera House)، وحيث بدأت بموالين قلائل فإن محرم 2020م سجل حضور نحو أثني عشر الف مشارك من شيعة وسنة من جاليات عربية ومسلمة مختلفة.
ويعتبر التسامح الديني من نتائج مرحلة التعددية الثقافية التي أشار إليها الدكتور الأنصاري والتي بدأت مع سنة 1972م عندما تم إلغاء سياسة أستراليا البيضاء وتكلّلت الجهود في سنة 1975م بإقرار مجلس النواب الأسترالي أول قانون مناهض للعنصرية، وقد كلّف هذا القانون رئيس الوزراء حينها إدوارد غوف ويتلم (Edward Gough Whitlam) الإقالة من قبل ممثل الملكة، وهو الذي أكد في احتفال بالمناسبة قوله: (بهذا القانون سنبذل قصارى جهدنا لإصلاح الظلم الماضي، وبناء مستقبل أكثر عدلاً وتسامحاً)، ولكن القرار مضى رغم الإقالة، وقد شهد عام إلغاء السياسة البيضاء القاتمة إقامة مسجد الإمام علي بن أبي طالب (ع) في سيدني، وتبعه مسجد الزهراء (ع) والجمعية الجعفرية الذي رعاهما القادم من لبنان الفقيد الشيخ فهد مهدي العاملي المتوفى سنة 2005م، كما سجلت سنة 1990م قراراً رسمياً بتدريس الدين الإسلامي في المدارس الحكومية، كما سجّل سنة 2009م الإعتراف رسميا بمنصب “المفتي” ومن بعد منصب “آية الله” إلى جانب منصب الكاردينال في الإجتماعات الدينية الرسمية.
وتوالى إقامة المراكز والمساجد والجوامع والحسينيات والمدارس والكليات مع توالي الهجرات المتعددة للمسلمين إلى هذه القارة، وحيث حلّ المسلمون المسالمون في بلد حلّ التسامح فيه، رغم أبواق الإعلام المسَّس إسلاموفبياً، وجهل بعض المسلمين وتطرف بعضهم.
الرأي الآخر للدراسات- لندن