السيمر / فيينا / الاحد 10 .01 . 2021
د. مصطفى يوسف اللداوي
لعل أغلب سكان الكرة الأرضية كانوا يتابعون على الهواء مباشرةً ما يجري في العاصمة الأمريكية واشنطن، يوم السادس من شهر كانون ثاني الجاري، وهو اليوم المخصص لاجتماع الكونجرس الأمريكي للمصادقة على انتخاب جوزيف بايدن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من أنه يومٌ وطنيٌ أمريكي بامتيازٍ، إلا أن العالم كله كان ينتظر نتيجته ويترقب قراره، ففيه سيتم تسمية رئيس أعظم دولةٍ في العالم، وقد يحلو للبعض تسميته بأنه يوم المصادقة على “رئيس العالم”.
فقد كان يوماً مشهوداً في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لما سبقه ورافقه من خلافاتٍ ونزاعاتٍ حول شرعية نتائج الانتخابات، رغم أنه في أصله يومٌ مميزٌ له رمزيته ومكانته، وله شأنه الكبير بالنظر إلى مهمته ووظيفته، وللأثر الناشئ عن قراره، لكنه كان من أسوأ أيام حياتها، ومن أكثرها بؤساً وخزياً، فكان ثلاثاءً أسوداً، ويوماً معيباً في تاريخ الشعب الأمريكي، إذ قلب الأفراح إلى أتراح، والاحتفالات إلى مآتم، والمهرجانات إلى اقتحامات، والتهاني إلى عزاء، والغناء إلى عويل، وكأنه كابوسٌ من الماضي وحلمٌ مزعجٌ ما كانت تتمناه، وقد كان مرشحاً لما هو أسوأ وأكثر خطراً، لولا أن تداركتهم رحمة ربهم فأنجتهم وحمتهم.
غدت دولة الديمقراطية الأولى في العالم في هذا اليوم غابةً تجوب فيها الضواري وتسكنها الغربان، ويحتلها اليمينيون المتطرفون والمحافظون العنصريون، ويعبث فيها الغوغائيون والمجرمون، الذين دخلوا مقر التشريع الأمريكي الأهم في العالم، واستباحوا مبنى الكابيتول هيل وعاثوا فيه خراباً، وعبثوا بمكاتب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، وأرادوا تغيير النتائج والانقلاب على الديمقراطية، انتصاراً لرجلٍ أهوجٍ مجنونٍ، أضر بسمعة أمريكا وأفسد علاقاتها، وشوه صورتها وعاب ديمقراطيتها، ورفض الاحتكام إلى صناديق الانتخابات، وأصر بالبلطجة والتشبيح أن يبقى سيد البيت الأبيض والرئيس الفعلي للولايات المتحدة الأمريكية.
نظر العرب، أنظمةً ومواطنين، إلى الأحداث الجارية من أكثر من زاويةٍ، كلٌ حسب فهمه ورغبته، فغالبية المواطنين العرب وجدوا أن نصير الأنظمة الديكتاتورية العربية وحاميها الأول يقلدهم ويسير على هداهم، فها هو ينقلب على الديمقراطية ويتمسك بالسلطة، ويرفض الخضوع للقانون والاحتكام إلى صناديق الانتخابات، ويأبى التنازل عنها والتفريط بها، ولهذا دعا أنصاره ومؤيديه ليقفوا معه ويساندوه بالبلطجة والقوة والعنف، والتهديد والتخريب والتكسير، والاقتحام والاجتياح والاحتلال.
لكنه انكسر بسرعة وهزم على عجل، وباءت جهوده بالفشل، فاضطر خائباً إلى التراجع والانكفاء، والاعتراف بالهزيمة والتسليم بالخسارة، ففرح غالبية المواطنين العرب بالطاغية الذي هوى، وبالظالم الذي سقط، رغم أنه ليس رئيسهم، وأمريكا ليست بلادهم، لكن ذهابه بالنسبة لهم نصرٌ وكرامة، إذ سقط من ناصر حكامهم الظلمة، وأيد حكوماتهم الفاسدة.
أما بعض الأنظمة العربية فقد استبشرت بمسعاه، وفرحت بحشوده، وأيدته في زحوفه، وناصرته في دعواه، فقد ظنت أنه بغوغائيته سينتصر على خصومه، وبعنصريته سيتغلب على الشرعية، وبتغريداته الحمقى سيغير المعادلة وسينقلب على القانون، فهم في أمس الحاجة إليه، وبدونه قد يصبحون أيتاماً على موائد شعوبهم الأصيلة، فمن ذا الذي سيحميهم من بعده، ومن الذي سيضمن بقاء أنظمتهم إذا سقط، فقد أعطوه كل شيء، وتجردوا له من ثيابهم الداخلية ليرضى، وسلموه ما يحب ويتمنى، وتنازلوا له عما يملكون وعما اغتصبوا وسرقوا، اعتقاداً منهم أنه الباقي والخالد، وأنه ساكن البيت الأبيض إلى الأبد، وأنه سيبقي عليهم نوقاً يحلبهم، وحميراً يركبهم، فقد صدقوه الوعد، وأعطوه العهد، وارتضوا أن يكونوا عنده أجراء مدى الدهر.
يأمل المواطنون العرب من الشعب الأمريكي ومن إدارته الجديدة، وقد رأوا جنون رئيسهم وسفه عقله وقلة وعيه، أن يدركوا أنه وإدارته الحمقى قد أساؤوا إلى الشعوب العربية، وأخطأوا في حقهم يوم أن ناصروا أنظمتهم وأيدوا حكامهم، وساعدوهم على الظلم والبغي والعدوان، وأنهم ارتكبوا أفظع الجرائم وأشدها فحشاً ضد الشعب الفلسطيني، عندما تجنى رئيسهم المهووس على حقوقهم ومقدساتهم، وأيد الكيان الصهيوني في عدوانه عليهم، ومنحهم شرعيةً مزورةً، وغطاءً أمريكياً ظالماً، ليمضي قدماً في قضم الأرض الفلسطينية، وتوسيع الاستيطان وطرد السكان والسيطرة على الحقوق والمقدسات، فهل ينتبه الشعب الأمريكي وإدارته الجديدة إلى أنهم قد أسسوا لما واجهوا من أزمةٍ أخلاقيةٍ، ومهدوا بسياستهم لها، أم يمضوا على ذات السياسة التي أضرت بهم وبسمعتهم، وأساءت إليهم وأفسدت حياتهم.
من جانبٍ آخر فقد فرحت الأنظمة العربية بما رأت، وسعدت كثيراً بما شاهدت، فها هي عاصمة الديمقراطية الأولى في العالم تقلدهم وتتبع خطواتهم، وتشبههم وتتصرف مثلهم، وتتأسى بهم وتتعلم منهم، فلماذا ينتقدون سياستهم ويعترضون عليهم إذا تمسكوا بالحكم وأصروا على البقاء في السلطة، ورفضوا الاحتكام إلى الانتخابات أو زوروا نتائجها.
ربما كانوا سيكونون سعداء لو استشارهم الخائب ترامب وطلب مساعدتهم، ولجأ إليه واستنصرهم، فخبرتهم في تطويع الشعوب وتغيير صناديق الانتخابات كبيرة، وتجربتهم واسعة وعميقة، وعندهم من الخبرات والقدرات ما يجعلهم الأوفر حظاً والأكثر فوزاً، ولكنه أثبت لهم أنه يجعجع ولا يطحن، ويبعبع ولا يفعل، بينما هم يفعلون ما يريدون، ويحققون ما يتمنون، وويلٌ لمن يعارضهم ويقف في طريقهم، أو يقاومهم ويتصدى لبغيهم.
لسنا شامتين ولا نحب أن نعيش على أحزان الآخرين، ولا نقبل أن نبني آمالنا على آلامهم، ولكنها فرصة نستغلها لنرفع الصوت عالياً في وجه الإدارة الأمريكية، أن تكف عن سياساتها الظالمة، وأن تنأى بنفسها عن نصرة الظالمين ومساعدة المعتدين، فما أصابهم عبرة، وما حل بهم درسٌ، فهلا استفادوا منه وآبوا، وتعلموا منه وتابوا، وأدركوا أن احترام الشعوب حق، والاعتراف بإرادتهم واجب، ونصرتهم فضيلة، والاعتداء على حقوقهم رذيلة، ومناصرة أعدائهم نقيصة.
بيروت في 10/1/2021
*كاتب من أرض فلسطين العربية المحتلة