الرئيسية / تقارير صحفية وسياسية / كيف ظهرت “هالة القدسية” في الأديان؟

كيف ظهرت “هالة القدسية” في الأديان؟

السيمر / فيينا / الاثنين 28 . 06 . 2021 —– ظهرت الهالة بداية في الفن الديني الإيراني القديم، ثم تنقّلت عبر الثقافات بوتيرة مذهلة، بفضل التجارة على طرق الحرير. في هذه المقالة، يستطلع مات ويلسون كيف يمكن لرمز بسيط ان يربط بين يسوع وبوذا وأبولو.

عادة ما ينظر إلى المسيحية والبوذية والهندوسية والزرادشتية والأساطير اليونانية، على أنها ديانات متباينة تماماً، تعرّف إجمالاً بالاختلافات فيما بينها. ولكن، إن نظرت إليها بتمعّن، ستجد رمزاً يربط بينها: الهالة.

ترمز الهالة المستديرة حول رأس شخصية مقدسة إلى مجدها أو ألوهيتها، ويمكن العثور عليها في الفنون حول العالم.

وهناك أشكال متعددة بينها، منها الهالات المشعة (مثل الهالة حول رأس تمثال الحرية)، والهالات المشتعلة (كما في بعض الفنون الإسلامية العثمانية والمغولية والفارسي)، ولكن الشكل الأكثر بروزاً وانتشاراً هو شكل هالة القرص الدائري.

لماذا ابتكر هذا الرمز؟

يخمّن بعضهم أن الهالة في الأصل، تنويع على شكل التاج. قد تكون الدارة أيضاً رمزاً للهالة الإلهية المنبعثة من ذهن إله.

قد تكون مجرد عمل زخرفي بسيط. ومن التخمينات الطريفة أن الرمز مشتق من ألواح واقية كانت تثبت حول رؤوس تماثيل الآلهة، لحمايتها من فضلات الطيور.

التقصّي حول الوظيفة الأصلية للهالة الدائرية في الفنون الدينية، يعيدنا إلى القرن الأول قبل الميلاد، وليس أبعد. لم يظهر الرمز في أي ديانة سابقة لذلك التاريخ، ومع ذلك، أصحبت قطعة ثابتة في الأيقونات الدينية عبر أوراسيا خلال بضعة قرون.

ويعتقد أن الرمز تطوّر من تقاليد فنية مبكرة جداً. في مصر القديمة كان إله الشمس رع يصوّر وفوق رأسه قرص دائري يمثّل الشمس – مع أن القرص كان فوق الرأس وليس خلفه. في الفترة ذاتها، تظهر ملامح مشابهة لأشعة الهالة، في قطع أثرية عثر عليها في مدينة موهينجو دانو (في وادي السند)، ويعود تاريخها إلى ألفي عام قبل الميلاد.

ولكنها نَقشت حول جسد الشخصيات المقدسة بأكمله، وليس حول الرأس فقط. وكذلك الأمر في الفنون اليونانية القديمة، يَمكن أن نجد تمثيلات لتيجان نور مشعّة حول رؤوس الأبطال الأسطوريين، تشير إلى قواهم الإلهية الفريدة. لكن هالة القرص حول الرأس، ابتكار من تاريخ لاحق، ويفترض أنها نتيجة لأفكار دينية خاصة.

الاله المصري رع

رسم الإله المصري القديم رع وفوق رأسه دائرة تمثل الشمس

يمكن العثور على أشكال الهالة القرصية في بداياتها، في أعمال فنية دينية إيرانية، تعود للقرن الثالث قبل الميلاد. يَعتقد أنها ابتكرت كعلامة لتمييز ميثرا، إله النور في الديانة الزراداشتية. وهناك اعتقاد مشكوك بصحته بأن مفهوم المجد الإلهي في الزرادشتية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإشعاع الشمس، وأن الهالة كانت الوسيلة التصويرية لربط المجد بالإله ميثرا، تماماً كما كانت بالنسبة للإله رع عند المصريين.

من زاوية تاريخ الفن، فإن السرعة المطلقة التي تنقلت فيها هالة القرص عبر الثقافات، تجعلها جديرة بالملاحظة كأيقونة دينية. في القرن الأول بعد الميلاد، أي بعد نحو مئتي عام من ابتكارها، بات من الممكن العثور عليها في مواقع نائية، مثل مدينة الجم التونسية، أو في مدينة ساموساتا التركية، أو مدينة سهر بهلول الباكستانية. بحلول القرن الرابع، صارت الهالات جزءاً لا يتجزأ من الفن المسيحي في روما، والفن البوذي في الصين. بطريقة ما، تحولت الهالة خلال بضعة قرون، إلى الرمز الديني الأشمل للألوهية في قارة أوراسيا.

إذا كيف انتشرت الهالة حول العالم وبين الديانات؟ انطلقت حركة هذه الأيقونة الدينية باتجاه الشرق والغرب، ومن منشأها في إيران، على يد بعض أقوى الامبراطوريات في الماضي.

في القرن الأول، غزا الهنود السكثيون (رحّل من إيران) والكوشان (من أراضي باكتريا في أفغانستان)، المناطق الواقعة في جنوب شرقهم، أي باكستان وأفغانستان وشمال الهند اليوم. كانت هاتان الامبراطوريتان مشبعتان بالتاريخ الثقافي الإيراني القديم، وجلبت معها إلى مناطق نفوذها الجديدة عملات نقدية طبعت عليها صورة ميثرا محاط الرأس بهالة.

شعبية ميثرا

كان لذلك الإله الشاب بإشراقه القدسي، جاذبية واضحة عند أعداد متزايدة من الناس حول منطقة هندوكوش. كان تأثيره شديداً لدرجة أن أيقونات بوذا، حتى التمثيلات البصرية المبكرة له، تظهره محاطاً بهالة ميثرا، كما نجد في ذخائر بيماران العائدة لنهاية القرن الأول.

في الوقت نفسه، كسب ميثرا القلوب خلال الغزو الروماني، لدرجة تطورت عبادته إلى ديانة رومانية طاغية. وأثرت تمثيلات ميثرا على أيقونات إله روماني آخر، سول إنفكتوس، أو الإله الشمس الذي لا يهزم. جمع الإلهان خصالاً جسدية ذكريّة رشيقة، إلى جانب القوى الألوهية المرتبطة بإشعاع الشمس وسطوتها، لذلك كان أبرز أفراد المجتمع يقدمون الطاعة لهما، خصوصاً الأباطرة الرومان. أدرك الامبراطور قسطنطين (حكم بين 306-337) القوّة التصويرية للهالة، لذلك استحوذ عليها بغطرسة، وكذلك فعل خلفاؤه، واستخدموها في التمثيلات الفنية عن أنفسهم.

لاحقاً، مع اتساع قبول المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، بدأ الفنانون تصوير يسوع مع هالة، بات يُنظر إليها كأعلى رمز للسلطة الإلهية. هذا التجديد في الرسوم الأيقونية المسيحية، حدث في القرن الثالث، بعد نحو قرنين من ظهور البوذية. وكان ذلك دليلاً على تحول المسيحية من ديانة هامشية، إلى هيكل سلطة رسمي في الغرب.

جدارية قديمة للمسيح في سراديب الموتى في روما

جدارية قديمة للمسيح في سراديب الموتى في روما

التصقت الهالة بالفن المسيحي منذ ذلك الحين، رغم مرورها بعدد من الاقتباسات على مر السنين. ففي بعض الأحيان، يمكن رؤية الله الأب محاطاً بهالة مثلثة، ويسوع محاطاً بهالة على شكل صليب، والقديسين الأحياء بهالة مربعة.

تعايشت الديانات البوذية والجينية والهندوسية بسلام في الألفية الأولى بعد الميلاد، وتبادلت الديانات الثلاث أفكاراً ورموزاً فنية من بينها الهالات. وتظهر الهالات المنقوشة في أشكالها المبكرة لدى الديانات الهندية في مركزين لإنتاج الفنون، هما غاندارا (على الحدود بين باكستان وأفغانستان)، وماثورا (نحو 144 كيلومتراً جنوب دلهي).

مقايضة الأفكار

في العصور القديمة والوسطى، برزت غاندارا على تقاطع شبكة هائلة من الطرق التجارية الممتدة من الصين شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً. وظهرت الأديرة البوذية على طول المنعطفات الرئيسية للطرق التجارية السريعة، لتكون بمثابة نسخ دينية عن القوافل. وفرت تلك الأديرة مكاناً للتجار، من أجل الراحة الصلاة والتقاط النفس، وباتت مع الوقت محطات انطلاق لانتشار البوذية إلى البر الصيني، حيث نسخ الفنانون الأيقونات الدينية. مع بداية القرون الوسطى، ظهرت الهالات في كوريا واليابان، معلنة وصول البوذية إلى تلك المناطق أيضاً.

تظهر هالة حول رأس بوذا في عدة لوحات حول العالم، كما هذه الجدارية في أحد معابد كمبوديا.

تظهر هالة حول رأس بوذا في عدة لوحات حول العالم، كما هذه الجدارية في أحد معابد كمبوديا.

شهدت الهندوسية النموذج ذاته، مع انتشارها في آسيا عبر مسارات التجارة البرية والبحرية، جالبة معها التوجهات الدينية والأساليب الفنية إلى إندونيسيا، وماليزيا، وأقاليم جنوب شرق آسيا.

غالباً ما يشار إلى تلك الشرايين التجارية واسعة الانتشار، والتي ربطت الشرق بالغرب في أواخر العصور القديمة والقرون الوسطى، باسم “طريق الحرير”، لأن السلع الباذخة كانت تشجن على امتدادها.

إلى جانب البضائع، نقلت تلك الطرق أيضاً الأديان والمعرفة والأيقونات. وتمثّل الهالة رمزاً لذلك التبادل الديناميكي للأفكار في الماضي البعيد.

بدأ الهالة حياتها كعلامة لإله الشمس الزراداشتي، ولكنها انتشرت عبر أوراسيا من خلال امبراطوريات قديمة، وشبكات تجارية وصلت أطراف العالم المعروف. في القرن الحادي والعشرين، تعدّ أيضاً تذكيراً ساطعاً بالتراث الثقافي المشترك للإنسانية.

المصدر / بي بي سي

اترك تعليقاً