الرئيسية / تقارير صحفية وسياسية / “دويلة” الجولاني ومسار التقارب بين دمشق وأنقرة!
ابو محمد الجولاني وكيل انقرة وواشنطن على اراض سورية محتلة باسم الاسلام السياسي

“دويلة” الجولاني ومسار التقارب بين دمشق وأنقرة!

السيمر / فيينا / السبت 24 . 09 2022 ——- يعمل زعيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) أبو محمد الجولانين بهدوء وتأنٍ على ترسيخ ركائز “دويلته” في منطقة إدلب ومحيطها ضمن حدود ما يعرف بمنطقة خفض التصعيد الرابعة وفق مقررات آستانا، ساعياً إلى الانتقال بهذه الدويلة من عباءة الحكم الإسلامي المتشدد إلى صيغة أكثر اعتدالاً من حيث الظاهر، على نحو قد يزيد من فرص قبولها والاعتراف بها كقوة أمر واقع من بعض الدول والجهات.

واستفاد الجولاني في ذلك من مجمل التطورات الإقليمية والدولية التي ساهمت في إبعاد الأنظار عنه وتخفيف الرقابة عليه، في ظل انشغال معظم الأطراف الفاعلين بالملف السوري بقضايا أكثر سخونة وتأثيراً.
غير أن مسعى الجولاني، إذا نجح في تكريس نموذجه الخاص للحكم الذاتي، سوف يترك انعكاسات معقدة على المشهد السوري الذي يتعرض لتغييرات جذرية لا سيما في ظل تدشين مسار التقارب السوري – التركي وما يمكن أن يترتب عليه من آثار عميقة، وكذلك في ضوء ميل روسيا نتيجة انشغالها في أوكرانيا إلى الاتّكال على صيغة الشراكة في إدارة أدوارها في سوريا بالاعتماد على كل من إيران وتركيا باعتبارهما شريكين لا غنى عنهما، بعدما كانت تحاول احتكار المشهد بممارسة دور اللاعب الأوحد.
وقد يكون قرار إصدار بطاقات شخصية لكل من يقيم من السوريين والأجانب في منطقة إدلب ومحيطها، الصادر عن حكومة الإنقاذ التي تعد بمثابة الذراع الحكومية والإدارية لـ”هيئة تحرير الشام”، آخر تجليات مسعى الجولاني لإقامة “دويلة” تتمتع بحكم ذاتي مقتبساً من تجارب جماعات في دول أخرى، وحتى من تجربة “قوات سوريا الديموقراطيةط (قسد) التي تسيطر على منطقة شرق الفرات في سوريا، وتعمل بدورها على فرض حكم ذاتي خاص بها.
وسبقت ذلك خطوات أخرى قطعها الجولاني على المسار ذاته، منها إنشاء أكاديمية عسكرية لتخريج ضباط وضباط صف برتب عسكرية متعارف عليها عالمياً، متخلياً عن التراتبية الجهادية التي كانت فيها ألقاب “أمير” أو “والي” وغيرها من المسميات الإسلامية تشكل محور التنظيم والهيكلية العسكرية لجماعته. ويتوخى الجولاني من وراء تأسيس هذه الأكاديمية أن يصل إلى مرحلة يستطيع فيها تشكيل جيش بمعايير دولية لاعتماده كورقة قوة إضافية تمكنه من التفاوض على شطب جماعته من قوائم الإرهاب العالمية، أولاً، وثانياً تمكنه من إقناع بعض الدول والجهات بالاعتراف به كقوة أمر واقع لا غني من التعامل معها لحل الأزمة السورية.
ولم يكن ذهاب الجولاني في جولات مكوكية إلى مناطق الأقليات ضمن “دويلته” لكسب ودّهم وإبلاغهم بالتغيير الاستراتيجي الذي طرأ على سياسة الهيئة تجاههم، من النظر إليهم ككفار ينبغي أن يتوبوا ويعلنوا إسلامهم إلى اعتبارهم مواطنين متساوين مع المسلمين، سوى حلقة أخرى من حلقات سعي الجولاني إلى تلميع صورته أمام المجتمع الدولي باعتباره اصبح “تائباً” عن نهج التكفير وقادراً على أن يسير في طريق حماية الأقليات ورعايتها وفق معايير المجتمع الدولي وقوانينه.
وقد باشر الجولاني بمخططه لإقامة “دويلته” منذ عام 2017، وكان يسير فيه بخطى متدرجة وفق ما تسمح له الظروف والتطورات. وجاءت هدنة عام 2020 بموجب تفاهم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان لتمنح الجولاني فسحة واسعة من الوقت والهدوء من أجل المضي قدماً وبخطوات متسارعة نحو تحقيق مشروعه. فإذا كانت الفوضى والمعارك هي البيئة المواتية لنمو أي جماعة جهادية مثل “هيئة تحرير الشام”، فإن الهدوء وخفض التصعيد هي أفضل بيئة لتتحول فيها هذه الجماعة من مجرد تنظيم إرهابي إلى إطار “حكم ذاتي” يعمل على التأقلم مع المواثيق والقوانين الدولية التي كان في مرحلته الجهادية يصفها بـ”الكفر” والخارجة عن حكم الشريعة.
وكان لافتاً للانتباه، أن خطوات الجولاني الأخيرة لترسيخ ركائز “دويلته” جاءت متزامنة مع بداية تدشين أنقرة لمسار التقارب مع دمشق، وهو ما من شأنه أن يطرح العديد من التساؤلات حول العلاقة بين “دويلة الجولاني” ومسار التقارب، وما هي الانعكاسات التي يمكن أن يتركها نجاح الجولاني في انتزاع حكم ذاتي على خطوات أنقرة لتغيير استراتيجيتها في سوريا. بمعنى هل يمكن اعتبار ما يقوم به الجولاني إنما جاء بإيعاز خارجي لتسهيل التقارب مع دمشق أم لعله على العكس من ذلك تماماً يصب في خانة عرقلة هذا التقارب وعدم السماح له بالوصول إلى المحطة التي يتوخاها.
عملياً، يسير الجولاني في مسار متناقض، فصحيح أن الهدنة وخفض التصعيد اللتين كرسمهما اتفاق بوتين – أردوغان يشكلان البيئة الحاضنة لعملية تحوله إلى إطار “حكم ذاتي” بعدما كان جماعة جهادية. ولكن الصحيح أيضاً أن الهدنة مشروطة بالقضاء على الجماعات الإرهابية في منطقة خفض التصعيد بإدلب، وقد ذكرت مقررات آستانا “هيئة تحرير الشام” بالاسم كجماعة من الجماعات المطلوب القضاء عليها. لذلك يبدو الجولاني كمن يسير على طريق يمكن أن يصل به إلى محطتين مختلفتين، وهذا قد يكون أحد ابرز المعضلات التي تواجهه والتي يحاول أن يسابق الوقت من أجل إيجاد حل لها قبل أن يحين موعد التفاوض على حل الأزمة السورية برمتها.
ويميل بعض المراقبين إلى اعتبار أن الجولاني قام بخطواته الأخيرة نحو تركيز دويلته بالتنسيق أو بإيعاز مباشر من أنقرة التي تريد بحسب رأيهم أن تولّي الجولاني مسؤولية الإشراف على كامل المناطق الخاضعة لاحتلال قواتها في الشمال السوري وذلك عبر دمج مناطق درع الفرات وغصن الزيتون مع منطقة إدلب وتعيين حكومة واحدة للإشراف عليها، يكون الجولاني هو “العرّاب” وإن من خلف الستار.
ويميل البعض الآخر، إلى أن الجولاني الذي استطاع أن يرتقي بتنسيقه مع قوات الاحتلال التركي إلى درجات عالية جداً، بحيث أصبح هو الوكيل المعتمد للقوات التركية من أجل بسط نفوذها وحماية وجودها في مناطق سيطرته، ما زال عاجزاً على انتزاع الثقة المطلقة من الدور التركي، وليس بمقدوره أن يأمن طعنة الغدر من الظهر، لذلك فإنه عندما يسير بمشروع دويلته فإنه لا يحسم موقع ووظيفة هذا الدور بل يترك تحديدهما لطبيعة المتغيرات وتطوراتها، فإما أن يسير بها حسب الأوامر التركية إن حافظت أنقرة على موقعه وسلطته، وإما أن يستخدمهما للمشاغبة على المخططات التركية إذا حاولت الانقلاب على علاقة التنسيق بينهما.
المصدر / النهار العربي

اترك تعليقاً