السيمر / فيينا / الأحد 11 . 12 . 2022
د.ماجد احمد الزاملي
أنّ التجربة الاقتصادية في الصين قطعت أشواطاً مهمة من النجاح والتحدي عن طريق نموذج تنموي صنع الاستثناء عن طريق الفصل بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، والاعتماد على الذات واستثمار رأس المال البشري، وتحوّ لت الصين في ظروف أقل من أربعة عقود إلى أهم مركز للجاذبية الاقتصادية في العالم، ومن أهم الأقطاب في شرق آسيا والعالم كلّه، فتاريخ الصين العريض يلقي بضلاله الطويلة على حاضرها، والازدهار الاقتصادي والعلمي الذي تشهده الصين إنما هو عميق في التقاليد والقيم للفرد الصيني. الصين تسعى إلى التغيير في النظام الدولي القائم على الهيمنة والانفراد الأمريكي بالشؤون الدولية، فالصين مازالت تتمسّك بمباديء نظام وستفاليا بالرغم من أنها لم تساهم في تأسيسه أو أحد أقطابه في تلك المرحلة. وعليه الصين تؤكد على محورية الدولة الوطنية في العلاقات الدولية ,ولا تتوانى الصين في استعمال القوة العسكرية بأمنها القومي خاصة إن تعلّق الأمر بقضية تايوان، كما أنّ نظراتها إلى حقوق الإنسان تقوم على أسبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على السياسية والمدنية. صعود الصين إلى تفاعلات السياسة الدولية كان واحداً من أهم الأحداث في فترة الحرب الباردة، وكان المراقبون وصنّاع القرار يراقبون وضع عملاق الشرق، والبعض أكّد أنّ تقدّ م الصين يمكن السيطرة على مفاتيحه ,والبعض من تشائم، ويرون أنه يشكل تهديدا عسكريا وإيديولوجيا واقتصاديا. كما تتطلّع الدول والشركات العملاقة للارتباط بالاقتصاد الصيني لخصوصية السوق الصينية و ميزتها التنافسية. بيد أنّ الصين باتت من أهم اللاعبين الدوليين خاصة أنها ثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة ألأمريكية وتشير الكثير من الدراسات المستقبلية أنه بحلول 2025 يتعادل مع الاقتصاد الأمريكي وسيتفوّق عليه بحلول 2050 .أنَّ الصين تعتّزُ بنفسها كقوة كبرى غير استعمارية تدافع عن حقوق المحرومين، أو من يطلق عليهم الذين لا يملكون سنداً في النظام الدولي، والملاحظ أنّ اقتراب بكين الخاص بآليات لتحقيق الامن الإقليمي تم تحديده من خلال ثلاثة أهداف رئيسية تبتغي الصين الوصول إليها من خلال دبلوماسيتها المتعلقة بالأمن الإقليمي ،أولها القضاء على التوترات الناشئة في المناخ الإقليمي الخارجي من أجل التركيز بصورة أفضل على التغيرات الداخلية، وثانيها طمأنة دول الجوار بشأن الصعود الصيني ونتائجه، وثالثا: محاولة إحداث نوع من توازن القوى الحذر مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق مصالح الصين الأمنية ، ما يعني أنّ العقيدة هي توازن القوى من أجل تحقيق مصالح الصين الأمنية تقوم على أبعاد إقليمية لضمان استقرار البيئة المحاذية وليست عقيدة ذات أبعاد عالمية وعلى العكس من العقيدة الامنية الأمريكية.ويمكن العودة في هذا السياق إلى الثقافة الصينية وتعاليم الفلاسفة الصينيين وعلى رأسهم “كونفوشيوس” والتي تؤكد أفكار السلام والاستقرار، ونبذ فكرة الاعتداء بالإضافة إلى تجربة بناء سور الصين العظيم. و في ظل التخوف الأمريكي خاصة في ظل تنامي القدرات العسكرية الصينية والتشكيك في سلمية الصعود الصيني خاصة مع الحساسية العسكرية حيث قررت الصين رفع شفافية الشؤون العسكرية بصورة متزايدة تعزيزاً للثقة العسكرية المتبادلة في مختلف بلدان العالم.
والصين تسعى إلى إرساء قواعد دولية في إطار هيئة الأمم المتحدة على أساس السلم والأمن الدوليين وحماية مصالح الدول النامية، وأن السلوك الخارجي الصيني لا يتنافى ومعايير الشرعية الدولية وبنود القانون الدولي، كما أنّ الصين تبنّت برنامج تحديث اقتصادي بالاعتماد على الذات و تعزيز العلاقات مع دول الجوار دون إثارة النزاعات أو المساس بالسلم والأمن الدوليين، ومن المعلوم أنّ الصين دخلت هيئة الأمم المتحدة عام 1971 لتحل محل تايوان من نفس السنة، وقد سعت في المراحل الأولى لمساندة حركات التحرر والتصويت لصالحها، غير أنّ تأثير ذلك كان محصورا في الأمم المتحدة. وعلى صعيد الأمم المتحدة يبدو أن الصين عازمة على أن تحقق دورا أكثر فاعلية في المجتمع الدولي وخاصة من خلال تفعيل دورها في مجلس الأمن والحد من الهيمنة الدولية، هذا فضلاً عن أن الصين لديها قوة سياسية تتمثل في كونها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فهذه العضوية تمكنها من استخدام حق النقض “الفيتو” ضد القرارات التي لا تلائم مصلحتها، والتي تعرقل صعودها إلى قيادة النظام العالمي. وبالنظر للوزن الاقتصادي للصين انعكس مباشرة على خريطة التحالفات والشرا كات في المنطقة والتي افضت في الاخير الى دور امريكي متزايد و تعاون اسيوي-اسيوي اقترن بالجانب الاقتصادي لاغير وهو الامر الذي يجعل المنطقة الاسيوية بعيدة عن واقع التجربة الاوربية وتدور في حلبة شرا كات بدون تحالفات. لكن رغم ذلك يبدو ان المرحلة القادمة لن تبقى في نمط الاحادية القطبية بالرغم من الامكانيات الامريكية ومن المرجح ان تتجه نحو نظام الكتل او حالة اللاقطبية كانعكاس لحالة التقارب في القوة بين القو ى الصاعدة والقوى الكبرى.
أنَّ ما تعنيه عبارة “التعايش السلمي” للولايات المتحدة هو بقاء وضمان الهيمنة الأمريكية، والاستمرار في تعزيز الانفصال عن الصين وعزلها، وقطع الإمدادات، ورفع الضرائب، وزيادة الاحتواء العسكري ضد الصين، وإغراء دول ومناطق أخرى لمواجهة الصين. وفي محاولة لاحتواء الصين أو على الأقل تقييد حركتها، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، وشكلت تحالفا من الدول المجاورة للصين، وزادت التعاون الدفاعي مع الهند وأستراليا واليابان. أن الأمور الاقتصادية والسياسية الأساسية في آسيا لم يَعد يتم تداولها خلال لقاءات القمم السياسة فقط الصين واليابان وكوريا الجنوبية وبلدان جنوب شرق آسيا.
أنَّ من السهل نسيان الهيئات الدولية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أسستها مجموعة صغيرة من الدول بقيادة الولايات المتحدة. هذه المنظمات الاقتصادية تتمتع بنفوذ عالمي، لكن ذاك العالم كان يخضع لهيمنة القوة العظمى الأمريكية وسياساتها كانت مشبَّعة بالقيم الأمريكية. عندما كانت بكين لاعباً صغيراً، لم يكن قادتها راضين دائما عن الهيكلية، لكنهم تعايشوا معها، لدرجة أنهم واجهوا حتى معارضة شعبية شديدة لانضمامهم إلى منظمة التجارة الدولية. وتشکل التعددية القطبية أساسًا هامًا لتحقيق سلام دائم في العالم حيث أنها ستؤدي إلى بناء نظام سياسي واقتصادي عادل وستضع إطار عمل سياسي دولي مستقر نسبيًا وتعزيز التبادلات والتعاون، إذ يجب أن تکون الدول جميعًا أعضاء متساوون في المجتمع الدولي دون الهيمنة مع اتباع نموذج للتنمية المشترکة في إطار من الثقة المتبادلة والمساواة والجوار ومحاولة تسوية المنازعات من خلال السبل السلمية والحوار، وهو النهج الذي تمسکت به الصين. وبذلك، رفضت السياسة الخارجية الصينية فکرة الأحادية القطبية، داعية إلى بناء نسق دولي جديد يحقق مصالح جميع الدول ولا يسمح بانفراد دولة بقيادة العالم حيث ترى الصين أن التعددية القطبية تمثل قاعدة مهمة للسلام العالمي، وأن إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية ضمان أساسي لهذا السلام، ولابد أن تستفيد کافة الأمم على قدم المساواة من الآثار الجانبية للعولمة بأبعادها المختلفة خاصة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.وعلى مدى عقود عرّفت الولايات المتحدة وحلفاؤها السياسة بتحديد من هو العدو، فمع صعود الولايات المتحدة التي ورثت الإمبراطوريات الأوروبية السابقة عُرّف الاتحاد السوفييتي كعدو، وبعد انهياره حلّت مكانه مجموعة متنوعة من التهديدات الصغيرة تحت مسمى “الإرهاب الإسلامي”، حيث شنت الولايات المتحدة حملات وحروباً طالت أكثر من خمسين دولة، وغزت أفغانستان والعراق، وفي هذه الأثناء كانت الصين تتقدم بثبات وترسِّخ من مكانتها الإقليمية والدولية.
وعلى خطا الولايات المتحدة، لعبت الصين في السنوات الأخيرة دورًا رائدًا في إنشاء مؤسسات مالية دولية تحت قيادتها، کإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وهو بنك تنمية متعدد الأطراف يهدف إلى دعم تطوير البنية التحتية في منطقة آسيا والمحيط الهاديء منذ أن اقترحه الرئيس “شي جين بينغ” في عام 2013، ثم بدأ عمله رسميًا في الأول من يناير 2016، وکذلك ساهمت الصين في إنشاء بنك التنمية الجديد التابع لمجموعة البريکس ، في منتصف عام 2014، من قبل دول البريکس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)؛ لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة داخل البريکس ، الذي تم اقتراحه من قبل الهند عام 2012، وتم الإعلان عن إنشاءه في قمة البريکس في البرازيل في يوليو 2014 في الذکرى السبعين لمؤتمر بريتون وودز في عام 1944، والذي تم تفسيره على أنه تحدٍ لنظام بريتون وودز، بجانب تأسيس صندوق الاحتياطي الطاريء للبريکس وبنك تنمية منظمة شنغهاي للتعاون الذي لا يزال قيد المناقشة ، وصندوق طريق الحرير، بالإضافة إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وهم يمثلون جميعًا ثقلًا موازنًا إقليميًا للکيانات التي يقودها الغرب مثل صندوق النقد الدولي, والبنك الدولي ومؤخرًا البنك المرکزي الأوروبي (IMF)
الذي هيمن على النظام المالي العالمي منذ إدخال نظام بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، ويمکن القول إن الصين هي الدولة الثالثة فقط في التاريخ، بعد بريطانيا والولايات المتحدة التي لديها القدرة على تشکيل وقيادة نظام عالمي للمال والتجارة . وقد بدأت الحرب التجارية تلقي بظلالها على تعافي الاقتصاد العالمي، وقد خفَّضت منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي مؤخرا من توقعاتهما حيال نمو الاقتصاد العالمي ، وذلك بفعل الاحتكاكات التجارية بين الصين وأمريكا، وقد تراجعت أسعار الأسهم للعديد من شركات التكنولوجيا العالية في أوروبا بعد إعلان الجانب الأمريكي منع تصدير التكنولوجياالأمريكية إلى شركة هواوي الصينية، وفي الوقت نفسه عبَّر العديد من المحللين الاقتصاديين الأفارقة عن قلقهم حيال تداعيات هذه الحرب على تباطؤ وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي، مما سيؤثر سلبيا على الصادرات الإفريقية من المواد الخام، واستقرار أسعار صرف العملات المحلية لهذه الدول ؛ لذا فإن مصلحة البلدين تكمن في تعزيز تعاونهما أما مواصلة تأجيج الصراع فلا تؤدي إلا إلى إلحاق الضرر بمصالح البلدين.
وتعد مبادرة الحزام وطريق الحرير أحد مظاهر التنافس الأمريکي الصيني، ويتمثل رد الفعل الأمريکي في استراتيجية المحيط الهاديء، کما أن الولايات المتحدة أعلنت صراحةً أنها لن تسمح بقيام إمبراطورية صينية في بحر الصين الجنوبي، وهو ما يعد شکلاً من أشکال التنافس حاليا، وقد يمتد هذا التنافس في المستقل القريب لقيادة النسق الدولي. وفي الوقت نفسه، تعيد مبادرة الحزام والطريق هيکلة سلاسل القيمة العالمية حيث تؤدي ممرات النقل والطاقة الجديدة إلى الصين، والتي يتم تمويلها من خلال الأدوات المالية الدولية بقيادة الصين، وقد تنظر الولايات المتحدة إلى نماذج اتصال بديلة، والتي يمکن أن تتنافس مع الحزام والطريق، وقد تظهر تحديات أخرى إذا شارکت الصين بشکل أکبر في مبادرات التنمية الدولية مثل قضايا العمل والاهتمامات البيئية، وتواجه المبادرة اتهامات دولية عديدة بأنها تعد شکلاً من أشکال سلطة الاستعمار بشکل جديد، وسط تشبيه بأنها بمثابة خطة مارشال الصينية.
الصين لا تريد حربا تجارية مع أمريكا، فبعد اربعين عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تضاعف حجم المبادلات التجارة الثنائية أكثر من 300 مرة، وقد شهد البلدين اندماجا اقتصاديا عميقا، و ترابطا تجاريا وثيقا، وهوماعاد عليهما وعلى الشعبين بمصالح جمّة ملموسة. وهذا الارتباط الاقتصادي والتجاري المتداخل يجعل من نشوب نزاعات تجارية بين الجانبين أمرا طبيعياً، كما يجعل من السعي إلى تقليص النزاعات، وحل المشاكل، وتوسيع المصالح المشتركة على أساس الاحترام المتبادل والمساواة والمنفعة المتبادلة، والوفاء بالتعهدات، والحفاظ على علاقات التعاون الاقتصادي التجاري الثنائي، والحفاظ على نمو مستقر للاقتصاد العالمي مهمة البلدين، وتحقيقًا لهذه الغاية أظهرت الصين كامل صدقها وحرصها فقد أرسلت وفودًا رفيعة المستوى وأجرت عدداً من الجولات المتتالية من المفاوضات الاقتصادية والتجارية مع أميركا.
والمرحلة الراهنة تشمل حضورا صينيا قويا بالإضافة إلى باقي الدول الصاعدة، وتحاول الصين احتواء كل عناصر القوة الشاملة بالرغم من أوجه القصور التي تشوب العامل التكنولوجي والعسكر ي، إلا أنّ الصين لها من مقومات القطبية ما يجعلها قوة فاعلة في مجريات العلاقات الدولية وموازين القوى و حتى هرمية النظام الدولي، ويكفي أن نرى أنّ الخطابات السياسية الأمريكية لا تخلو من الحديث عن حجم التحدي الصيني على المكانة الدولية والامتداد الجيوإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن المصالح الأمريكية المنتشرة في كل مكان: آسيا، المحيط الهادي، إفريقيا والشرق الأوسط والتي حديقتها الخلفية أمريكا الجنوبية، والتي باتت الصين من أشدّ المنافسين لها في هذه المناطق. ومن ناحية أخرى عمدت الصين إلى تطوير قدراتها العسكر ية، ففي المرحلة الراهنة قامت الصين بتطوير صواريخها الباليستسة ونوعية وتقنية غواصاتها البحرية، كما نجحت في احتلال نظم تسلّحية وتكنولوجيا متقدمة في مجال الدفاع الجوي فضلا عن قوتها النووية وتعاونها المطرد مع روسيا في المجال العسكري.