السيمر / فيينا / الجمعة 05 . 01 . 2024
د . عادل عامر / مصر
يواجه الجانب العربي جملة من التحديات الاستراتيجية البعيدة الأثر، ومن أهمها: تصحيح الخلل في ميزان القوى بين العرب وإسرائيل؛ ضمان الالتزام الأميركي حيال التسوية السياسية؛ تطوير نظام عربي إقليمي جديد؛ تثبيت شرعية المخاوف العربية الأمنية؛ دمج دول الجوار في البنية الأمنية الجديدة؛ ضمان التوازن “الداخلي” في البنية الإقليمية؛ الحفاظ على المصالح العربية غير الأمنية.
أن الديمقراطية الإفريقية عانت إجمالاً من خللين بارزين هما: فساد النخب السياسية المدنية في بلدان لا يتوفر فيها هامش استقلال فعلي للقوى الاقتصادية والأهلية عن ريع الدولة بما يعزز شبكات الولاء لأنظمة الحكم القائمة فتتفرد بكل مقاليد القرار وتلغي مساحات المعارضة الشرعية ومراكز القوة غير التابعة، والعجز المتفاقم عن مواجهة التحديات الأمنية التي عصفت بوحدة واستقرار العديد من البلدان خصوصاً في منطقة الساحل والصحراء.
ثانياً: تراجع التأثير الغربي (الفرنسي على الأخص) لدى النخب السياسية والفكرية التي أصبحت أكثر ميلا لأدبيات الاستقلال الحضاري والنزعة الشعبوية الإفريقية في إطار المفهوم الجديد للجنوب الشامل الذي دخل بقوة إلى أجندة العلاقات الدولية. إن هذا التحول هو الذي يفسر مواقف المجموعة الإفريقية من الملفات العالمية الراهنة، مثل الحرب الأوكرانية الروسية، كما يفسر التقارب الإفريقي الروسي والدور الصيني المتزايد في القارة.
وإذا كانت النزعة القومية الإفريقية التقليدية التي بلورها في السابق زعماء معروفون مثل نكروما ولوموبا وسيكو توري قد انحسرت، فإن بعض الزعامات الشعبوية الجديدة في القارة بدأت تطرح هذه النزعة من منطلق مغاير يتسم أساساً بالهجوم على الهيمنة الغربية والدعوة إلى استراتيجيات التنمية والحكامة السياسية من منظور مستقل.لكن ما تأثير ذينك الرهانين على طبيعة الشراكة العربية الإفريقية؟
لا بد من التنبيه هنا إلى أن العلاقة بين المجالين، العربي والإفريقي، ليست علاقة ارتباط بين كتلتين منفصلتين، إذ غني عن البيان أن جل المساحة الإجمالية للعالم العربي توجد في أفريقيا، وأن أغلب العرب أفارقة، كما أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً في القارة.
ولا شك في أن التحديات الاستراتيجية المستقبلية تفرض الانتقال من مفهوم الشراكة العربية الإفريقية إلى مستوى التكامل العضوي الذي يمكن أن يتجسد في مشاريع كبرى، نكتفي هنا بالإشارة إلى نموذجين منها. المشروع الأول هو مبادرة تكتل البلدان المطلة على البحر الأحمر، الذي يشمل بالإضافة إلى دول القرن الإفريقي المؤثرة (ولا بد من إضافة إثيوبيا لها) بلداناً عربية من شبه الجزيرة والمشرق العربيين تتداخل جغرافياً واستراتيجياً مع المجموعة الإفريقية.
أما المشروع الثاني فهو تحويل اتحاد المغرب العربي إلى مبادرة استراتيجية جديدة تجمع بلدان الساحل والصحراء التي تتكامل من حيث المقومات الجغرافية والبشرية وتواجه نفس التحديات الأمنية الجيوسياسية. ما نريد أن نخلص إليه، هو أن تفعيل أو دفع الشراكة العربية الإفريقية قد يكون هو الشرط الضروري لإعادة الروح للنظامين العربي والإفريقي، مع توسيع المجال الحيوي للكتلة العربية في مرحلة تخضع فيها العلاقات الدولية لإعادة بناء متسارعة وجذرية.
مهما تكن محدوديات الدور الأميركي من وجهة النظر العربية، فهناك إدراك عربي عام أن الحفاظ على هذا الدور حيوي لدعم فرص السلام، ولإبقاء المجال مفتوحاً أمام إمكان تحقيق الحد الأدنى المقبول من الأهداف العربية المرجوة من التسوية. وإذا كان الجانب العربي (في ظل الخلل في ميزان القوى) غير قادر على تحقيق أهدافه، اعتماداً على قدراته الذاتية، فإن أحد التحديات الاستراتيجية الأساسية التي يواجهها، يكمن في ضمان التزام المشاركة والرعاية الأميركية المستمرة والفعالة للمفاوضات، وعدم تحولها إلى مجرد وجود رمزي وهامد، أو حتى خروج أميركا من مسار التسوية كلياً في أسوأ الحالات. ويمكن القول إن الاهتمام الأميركي الراهن بفضّ النزاع العربي – الإسرائيلي قد جاء نتيجة مباشرة لاندثار “الخطر السوفياتي”، وبالتالي زوال الجمود الناجم عن التنافس المزمن بين القوتين العظميين – ووكلائهما المحليين – في شأن مناطق النفوذ في المنطقة.
فمن فتح الطريق أمام الرعاية الأميركية المباشرة لعملية التسوية، وهندستها بما يتوافق مع التطلعات والمصالح الأميركية والغربية عامة، وعقب “نافذة الفرصة” المرئية بعد حرب الخليج، نشطت الدبلوماسية الأميركية نشاطاً لا سابق له من أجل بدء المفاوضات، وضمان شموليتها، وتثبيت أطرها التنظيمية والإجرائية. كما تبلورت مواقف أميركية عملية تجاه أطراف النزاع، كشفت عن نية وجدية غير معهودتين من أجل الوصول إلى حل للنزاع.
غير أنه على هذه الخلفية نفسها برز استقرار جديد في الوضع الإقليمي، من وجهة النظر الأميركية. وكان من نتائج ذوبان “الخطر السوفياتي” والحرب ضد العراق، تراجع التهديدات الفعلية والمفترضة للمصالح الأميركية الحيوية. فالإمدادات النفطية (وأسعارها) لا تبدو أنها مواجهة بأخطار حقيقية في الأوضاع الحالية والمرئية؛ وأمن إسرائيل الاستراتيجي يبدو مضموناً إلى أمد غير مسمى؛ وعلاقات أميركا بالدول العربية دخلت عهداً جديداً من التفاهم والتناغم أو، في أسوأ الحالات، الاستعداد للتعايش والبحث عن المصلحة المشتركة.
وعلى الرغم من الإدراك الأميركي لاحتمالات التحول السريع في الوضع العربي، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكامنة داخل أكثرية الدول العربية، وبغض النظر عما قد يبدو أنه خطر جديد من قِبَل الحركات الإسلامية الأصولية، فإن مدى القلق الأميركي الفعلي إزاء تفاعلات المنطقة وتقلباتها قد لا يكون عميقاً ضمن الأوضاع السائدة. وهذا، بدوره، قد ينعكس على مدى الاستعداد الأميركي للمضي في البحث عن تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي، وخصوصاً إذا تبين أن المجهود الأميركي المطلوب في هذا المجال لا يوازي المردود المحتمل، أو أن الحل ما زال غير “ناضج” نتيجة عدم قدرة أو استعداد الأطراف لتقديم المساومات اللازمة لإبرامه.
أدت حرب الخليج إلى تصدّع النظام الإقليمي العربي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنْ كان هذا النظام قد كشف عن هشاشة وضعف مزمنين خلال العقود الماضية. وأمام احتمالات السلام من جهة، أو احتمالات تعثر وانهيار عملية التسوية من جهة أخرى، وفي ظل بروز دور القوى الإقليمية غير العربية وأهميتها، ومع انحسار التيارات القومية العربية وإفرازاتها المختلفة وصعود الوجهات القطرية والكتل المحلية، فإن مسألة إحياء النظام العربي الإقليمي تشكل أحد التحديات العربية الاستراتيجية المركزية.
وتكمن أهمية النظام الإقليمي العربي في أنه يشكل، من حيث المبدأ على الأقل، أداة لضغط وتصحيح العلاقات العربية – العربية، والحد بالتالي من فرص الصراعات العربية الأهلية أو التدخلات الخارجية في الشأن العربي الداخلي. والسؤال الأكبر هو ما إذا بات هذا النظام، الذي لا يزال يعتمد في الأساس على جامعة الدول العربية وميثاقها، قادراً على استيعاب تحديات المستقبل أو مرشحاً للتطور في هذا الاتجاه، أم أن الأجدر إيجاد إطار آخر أكثر فعالية وملاءمة للأهداف المرجوة منه؟ لن نحاول هنا الإجابة عن هذا السؤال مباشرة، غير أنه يمكن تفحص بعض الانعكاسات المحتملة لعملية السلام على النظام الإقليمي العربي المستقبلي.
إن إحدى القضايا الأساسية المطروحة، في هذا المجال، هي كيف سيتم الدمج ما بين متطلبات ومستجدات البنية الإقليمية المتوقع نشوؤها، في حال فضّ النزاع مع إسرائيل، وبين النظام الإقليمي العربي المستقبلي، وماذا ستكون آثار المعاهدات الأمنية الثنائية والمتعددة الأطراف، التي لا بد من أن تكون جزءاً مركزياً من الترتيبات الأمنية الجديدة، في الوضع العربي – العربي. فعلى سبيل المثال، من الأرجح أن يكون أحد المطالب الإسرائيلية الأساسية أن تسقط جامعة الدول العربية من ميثاقها بنود معاهدة الدفاع العربي المشترك التي قد تفسر بأنها تمنح شرعية للعمل العربي العسكري ضد الدولة العبرية، وبحيث لا تتعارض أية معاهدات عربية مشتركة، قائمة أو محتملة، مع اتفاقيات السلام مع إسرائيل.
لكن، إذا كان من البديهي أن تسعى إسرائيل للحيلولة دون إمكان إحياء الخيار العسكري العربي ضدها، فإن إخضاع التحركات العسكرية والمصالح الأمنية العربية للرقابة أو للموافقة الإسرائيلية قد يشكل إشكالاً حقيقياً في أكثر من حالة: أولاً، في حال بروز خلاف عربي – أجنبي (مع إيران أو تركيا مثلاً)؛ ثانياً، في حال الموافقة العربية على حق دولة ما في نشر قواتها على أراضي دولة أخرى؛ ثالثاً، في حال إرسال قوات تدخل أو قوات “حفظ سلام” عربية إلى دولة شقيقة (في مواجهة وضع كالاجتياح العراقي للكويت مثلاً).
*دكتور القانون العام والاقتصاد