فيينا / الثلاثاء 18 . 02 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
أنس / كاتب سوري
عندما يُكتب تاريخ الهزائم، ستُذكر سورية كأكبر درس في كيفية تدمير الأوطان ليس من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً.
لا تحتاج الدول العظمى إلى جيوش جرارة لإسقاط أمة، كل ما تحتاجه هو شعب مستعد للانتحار الوطني، و”نخب” تبيع الأوهام بسعر الجوع والدم. اليوم، نقف أمام خراب لم يأتِ بضربة واحدة، بل كان سقوطاً على مراحل، وكل مرحلة كان لها بطلها، وخائنها، وغبيها الذي ظن أنه يعرف كل شيء.
كانت سورية ذات يوم دولة بمشاكلها، لكنها كانت دولة.
كانت هناك مشاكل سياسية؟ نعم.
اقتصادية؟ بالتأكيد.
اجتماعية؟ كغيرها من الدول.
لكنها لم تكن بلداً منهاراً كما أصبحت اليوم. السؤال هنا: لماذا لم نكن نطالب أنفسنا بنفس المعايير التي كنا نفرضها على دولتنا؟
لأننا شعوب متخلفة، مذهبية، عشائرية، لا تفكر إلا بمنظارها الضيق، وحين تحين لحظة الحقيقة، نبحث عن شماعة نعلق عليها مصائبنا: الفساد، الرئيس، زوجته، الطقس، الحظ العاثر، أي شيء إلا أنفسنا!
اليوم، ما نشهده في وطننا هو نمط متقن من تدمير الذات، عبر تشويه الهوية الوطنية، وخلق أعداء وهميين لا نرى منهم إلا السراب. هذا يشبه تمامًا ما أكده نعوم تشومسكي حين قال: “الأنظمة الاستعمارية لا تكتفي بالسيطرة على الأرض والموارد، بل تسعى لتدمير عقول شعوبها، وتفكيك الهويات الوطنية لتبقى الشعوب بلا قدرة على المقاومة.” وها نحن نرى أنفسنا في قلب هذا المشروع، ضحايا وفاعلين في نفس الوقت.
وعن تدمير الأوطان، يضيف المفكر الهندي ل. ناتاراجان في كتابه “الخطة الأميركية للسيطرة على العالم”: “الاستعمار الحديث لا يهدف فقط إلى السيطرة على الأرض والموارد، بل إلى الهيمنة على عقول الشعوب من خلال نشر الفوضى الاجتماعية والاقتصادية. تدمير الوطن ليس فقط عبر الحرب العسكرية، بل من خلال تفكيك المجتمع وتحويله إلى كتلة من الأفراد الممزقين.” وبالفعل، نحن نعيش في زمن تُباع فيه الأوطان وأبناء الأوطان في أسواق المصالح العالمية.
وفي نفس السياق، يشير ويليام بيكر في كتابه “سرقة أمة” إلى أن: “الهدف الحقيقي لاقتصاد الاستعمار الجديد هو تدمير الدول الوطنية، ودفعها نحو انهيار اقتصادي واجتماعي حتى تصبح رهينة القوى العالمية. عندما يُستنزف الوطن اقتصاديًا، يصبح المواطن مجرد آلة في يد القوى المتحكمة.” وهذه هي الحكاية التي نعيشها اليوم، مع تفاوتات طبقية صادمة وازدياد أعداد النازحين والمشردين في وطنهم.
وفي كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” لجون بيركنز، الذي يكشف كيف تستخدم القوى العظمى الاقتصاد لإخضاع الدول، جاء ما يلي:
“إذا لم نستطع السيطرة على دولة عبر القروض والاقتصاد، فإن الخيار التالي هو زعزعة الاستقرار السياسي. وإذا لم ينجح ذلك، ننتقل إلى التدخل العسكري المباشر.”
هل لاحظتم التطابق المذهل بين ما قاله بيركنز وبين ما جرى في سورية !!!
لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا سقطنا، بل لماذا الآن؟ لماذا لم نُسحق قبل عقدين أو ثلاثة؟ لماذا لم تُمرر هذه الخطط منذ زمن بعيد؟
الجواب في الأوراق القديمة، في التقارير السرية، في محاضر الاجتماعات المغلقة، في المخططات التي أُعدّت منذ زمن طويل، لكنها لم تكن قابلة للتنفيذ، لأننا كنا نمانعها و نقاومها و لا نمررها، حتى سقطت سورية.
الأرشيف الأسود: ماذا كانوا يقولون؟
لنقرأ ماذا كانوا ينشرون ويقولون:
منذ عام 1982، نشرت مجلة “كيفونيم” التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية وثيقة بعنوان “استراتيجية إسرائيل في الثمانينات”، جاء فيها:
“يجب تقسيم سورية والعراق إلى مناطق طائفية ودينية، تمامًا كما حدث في لبنان، وسيكون تفكيك سورية والعراق لاحقًا هدفًا رئيسيًا لإسرائيل على الجبهة الشرقية.”
وفي محضر اجتماع سري في واشنطن عام 2003، قال مستشارة الأمن القومي كونداليسا رايس:
“سورية أكبر عقبة أمام إعادة تشكيل الشرق الأوسط. ما لم تسقط، فإن مشاريعنا ستظل معلقة.”
(نعم هكذا وبكل وضوح.)
وفي وثيقة سرية سربها موقع ويكيليكس، أرسل دبلوماسي أمريكي تقريرًا إلى وزارة الخارجية الأمريكية عام 2006 جاء فيه:
“نقاط الضعف السورية يجب استغلالها بذكاء: المشكلات الاقتصادية، الانقسامات الطائفية، والضغوط الدولية. علينا أن نُبقي الدولة في حالة توتر مستمر، حتى لا تتمكن من مقاومة مشاريعنا في المنطقة.”
هل قرأتم جيداً؟ يجب أن تبقى الدولة السورية بحالة توتر مستمر!
لقد نفذوا الأمر بدقة!
هل كان الفساد هو السبب؟
يُقال إن الفساد هو السبب، وإن الحكام هم المشكلة، وإن كل ما جرى مجرد نتيجة طبيعية لنظام سيئ. لكن هل هذا وحده السبب؟
فلننظر إلى بعض الدول التي تعاني من فساد عميق، لكنها لم تنهَر:
الهند: بلد يعاني من فساد مزمن، تمييز طبقي حاد، ومشكلات اقتصادية، لكنه رغم ذلك لم ينهَر، بل أصبح من أقوى الاقتصادات الصاعدة في العالم.
البرازيل: دولة أنهكتها الحكومات الفاسدة، لكنها لا تزال قوة صناعية وزراعية كبرى.
كوريا الجنوبية: في الستينات، كانت دولة فقيرة تحكمها أنظمة قمعية، وبقيت تعاني من الإنقلابات والفساد الشديد حتى عام 1998، لكنها اليوم قوة اقتصادية وتكنولوجية. لماذا لم تنهَر؟
أما في سورية، فقد تفنن الجميع في خيانة الجميع. من نخب سياسية باعت نفسها، إلى معارضة تحولت إلى أداة بيد من يدفع أكثر، إلى جزء من شعب انجرف بلا تفكير نحو وهم الثورة، ثم بلا تفكير نحو كابوس الحرب، ثم بلا تفكير نحو سراب الحلول الخارجية.
هل تظنون أن هناك دولًا بلا مشاكل؟
كثيرون يعتقدون أن الدول المزدهرة تعيش بلا مشاكل، وأن أي دولة متقدمة تعيش في “النعيم المطلق”. لكن لنأخذ مثالين:
1. سويسرا: الفردوس الذي ليس فردوسًا
سويسرا تُعتبر من أكثر الدول استقرارًا وازدهارًا، لكنها تعاني من مشاكل لا يتحدث عنها أحد:
معدلات انتحار مرتفعة: رغم الرفاهية، تعاني سويسرا من واحدة من أعلى نسب الانتحار في أوروبا بسبب الضغوط المجتمعية والمهنية الشديدة.
العنصرية المتزايدة: يعاني بعض المواطنين من معاملة قاسية وبشكل مختلف حسب أصولهم العرقية والدينية!!.
الضغوط الاقتصادية: رغم كونها مركزًا ماليًا عالميًا، فإن تكلفة المعيشة مرتفعة للغاية، والكثير من الناس يجدون صعوبة في تأمين منازل بأسعار معقولة، ويبقون طيلة حياتهم يعيشون رعب التشرد!!!
2. الولايات المتحدة: القوة العظمى الممزقة
رغم أنها أكبر اقتصاد في العالم، فإن أمريكا تعاني من مشاكل هائلة:
عدم المساواة الاقتصادية: حوالي 1% من السكان يملكون أكثر من 40% من ثروات البلاد، بينما يعيش الملايين تحت خط الفقر.
أزمات الإسكان والصحة: ملايين الأمريكيين لا يستطيعون تحمّل تكاليف العلاج أو الإيجار، رغم أن بلادهم تُسمى “أرض الفرص”.
العنف الداخلي: معدل الجريمة والعنف المسلح في أمريكا يفوق بكثير أغلب دول العالم المتقدم.
إذن، لا توجد دولة بلا مشاكل. لكن الفارق بين دولة تنهار وأخرى تستمر، هو أن بعض الشعوب تقاتل للحفاظ على بلادها، بينما شعوب أخرى تهرول لتدمير أوطانها بأيادٍ مرتجفة وقلوب ممتلئة بالكراهية.
عندما يصبح “الذكاء” غباءً وطنيًا!!!
اليوم، بعدما خسرنا كل شيء، يأتيك بعض العباقرة ليقولوا لك: لا مشكلة، سنعيش حياة أفضل! نعم، كما يعيش المصري في “رفاهيته”، أو الأردني في “ازدهاره”! فقط انتظر… ستأتيك الرفاهية على يد الدردري وأمثاله أو عبر قرض من صندوق النقد!
لكن دعونا نتحدث بصراحة: هل الازدهار هو مجرد حياة شخصية جيدة؟ هل يكفي أن تحصل على وظيفة جيدة، وسيارة، وسفر إلى أوروبا، لتكون في بلد مزدهر؟ لا. الازدهار ليس فرديًا، بل هو نتيجة لازدهار الدولة بأكملها.
انظروا إلى اللبناني الذي كان يفاخر بأنه أغنى من السويسري في السبعينات، ثم انهارت دولته، فأصبح لا يستطيع تأمين الكهرباء إلا ذاتياً .
أو العراقي الذي عاش على عائدات النفط ثم وجد نفسه يتمنى أن يجد ماءً صالحًا للشرب ، أو ضوء يأتيه من مصباح كهربائي رغم أنه يعيش فوق بحر من النفط!!
الازدهار الشخصي قد يكون سرابًا، لكنه لا يصبح حقيقة إلا إذا كان الوطن مزدهرًا أيضًا. فلا تفرح كثيرًا إن كنت تعيش حياة جيدة الآن، لأن خراب البلد سيطرق بابك يومًا ما، وستكتشف أنك كنت مجرد بيدق في لعبة أكبر منك، لعبة بدأت وانتهت… وأنت لا تزال تنتظر.
انتظروا فقط… الجنة قادمة… قريبًا جدًا… ربما بعد جيلين أو ثلاثة!
يا لخيبة من يعتقد أن الخير سيعم بسرعة
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات