فيينا / السبت 26. 04 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
نجمة عمر علي / تونس
يحكى أن عربيا اشترى من خيال فرسا من سلالة عربية أصيلة …
كانت الفرس عنيدة لا تقبل أن يمتطي فوق ظهرها غير خيالها
ضاق الصبر بالمشتري وراح يضربها بسياط بلا رحمة ليرغمها على طاعته وكان يقدم لها علفا أخضرا نديا فتدفعه بعيدا عنها بقائمتيها ولا تقضم من الكلأ قضمة واحدة ولا تقترب من الماء لتشرب…كانت تشعر ..
هزلت الفرس وذبل جمالها حتى صارت بلا منفعة ولا جدوى من بقائها في مزرعة الرجل الثري .
كانت لا تزيد من جمال ممتلكاته فأعادها لمالكها الأول وكله حسرة على خسارتها…كان يظنها سلعة للتجارة…
ذهل مالكها من حزنها و من ذبولها ونحولها واقترب منها مرتعبا محاولا المسح على شعرها الذي فقد نعومته.
ابتعدت الفرس عنه خطوتين وأنزلت بوجعها نحو الأرض وكأنها ترويها بدمع الندم…
حاول أن يعيد إليها الشعور بالأمان فلم يفلح..كانت تنفعل وأضرب الأرض بقائمتيها في غضب شديد وتعب ..
لم يبارح مكانها وظل جوارها أياما لتعتاد عودته ولكنها لم تأبه لبقائه وكانت لا تسمح له بترويضها …
كانت لا تقترب من المأكل والمشرب..كانت تقترب من ساعة رحيلها بخطى بطيئة..عادت الفرس الجامحة…
كان الفارس يجهل ما سيفعل ليعيدها لسابق عهدها العادية
المبتهجة…تلك التي تحنو عليه بقربها وتقبيل جبينه …
كان قد جعل منها اليتيمة ولم يشعر وجعل منها المتسولة وقهر قلبها ودفن عطر روحها .. وأد ضحكتها وخيط ثغرها ..
وذات صباح تفاجأ أنها تقضم العشب وتشرب الماء ففرح وأسرع نحوها ..لكنها ابتعدت عنه وحذرته من الإقتراب بصهيل يملؤه الشجن ..كانت قد تعودت أن تنتفض من رمادها وحدها وتعلمت العيش بدون رأفته …
ظن المسكين أنه ربح في تجارته لما باعها فإذا به قد خسر كل ما كان يملك من حبها…
بدد ما اقتنته من الزمان في لحظة طمع …
صنع منها وحشا لا يثق في جناح الطير…
سرق أحلامها وحطم آمالها ..
كانت تشتهي الركض تحت المطر …
فصنعت من الهواء وحرارة أنفاسها غيمة واللآلئ نثرها ..
عليها كيف تكون الباقية في وجه الريح..
وتعلمت أن الحب ذخيرة الصادقين وأن جراب الزمن ينفذ بلا وقت وأنها قد تكون أنثى الوقت الكل إلا له كانت درعا يمنع الإحساس والشعور…
كبر الطفل الذي تعلم منها الحب وصفعها ورحل…
كان الوقت كفيلا يجعلها اتمنى لو أنها ريح وأن للريح وجوه ليصفعها الوقت…كانت مياه النهر الصافية مرآتها …
كانت تسمع الليل يعني:
” بئر يوسف أنا لك فٱرتمي في قاعي ولا تهابي .”..
كانت أرض البئر اليابسة تهشم عظامها فتستفيق من الغرق في وهم الذكريات والوعود الزائفة…
صارت الفرس تركض على امتداد السهول وتينع وتزهر ويزداد جمالها ويذيع صيتها بين العرب فيعلو مقامها ويزداد ثمنها
حتى أصبحت تلقب “بالمتمردة الآسرة” فجمالها كل يأسر كل الناظرين وتتمرد على الخيال فلا تسمح لأحد بركوبها …
وتتالت الأيام وهي لا تلتفت لمن باعها ..فقط تخفض رقبتها وتنشغل في قضم الكلأ…
كان صاحبها يعلم أنه خذلها لما باعها و أكل فؤاده الندم
وكانت قد ندمت لأنها وثقت به وأحبته …
الفرق كان شاسعا حيث أنه توقف عن الحياة وأنها واصلت هي العيش ..وبين الحياة والعيش كان الحب المسلوب والحضن البارد الذي خاف منه الخوف…
_ ……..يتبع…؟
_ لا سأكمل الكتابة الآن ….
ومرت الأيام والفصول تباعا…والأمر على حاله لم يتغير..
يستفيق الرجل مهرولا ليطمئن على حالها وترمقه هي بنظرات
معاتبة ..كانت بلون الحزن في كربلاء وكأنها بتلك الخصلات السوداء الفاحمة تلبس حجابا …عيناها كانت ككوكب النجوم المتلألئ وحاجباها كسيفي فارس مغوار وقوائمها برشاقة الروح ..سريعة في ركضها فتعدو وتسابق الريح وتترامى بجمالها بين السهول والروابي الخضراء كراية وطن منتصر..
دهماء كانت رمظاء بغرة بيضاء فوق الجبين بناصية الخير..
كمن ترفعت على حسن الأرض ونزلت من سماء ومعين ..
كماء زلال وزجاج جليل …
كبياض اللبن و عطر الياسمين …
كانت تضرب الأرض بخفة ونعومة وترأف بحال التراب فتمشي وكأنها فوق اللج….والروح تلفها كرداء من لؤلؤ جارح..كانت تشعر بوخز طفيف كإبرة تحيط جراحها التي تتفتق بمجرد صهيلها الذي يشبه تنهيدات الوجع الغائر…
آه يا وقتا ! ماذا صنعت مني وأنا أكتب وأقرأ ؟
كانت تندم على كل حبها لمن باعها و لم تحاول تجاوز مرحلة الخذلان والهشاشة ولكنها كانت القوية التي لا تسمح للعودة الماضي لرفوفه المغبرة…كانت الخائفة من طرق الأبواب ..
كانت تحمل وزرا …
كانت تجمع الكل بذنب رجل واحد…
وذات أصيل ،كانت شامخة بوقفتها فوق السهل رافعة عينيها نحو الغروب تنهل من جمال السماء والغيوم فترتسم على أنفاسها اللاهثة ابتسامة كالفجر…
في ذلك المشهد الفاتن مر بالمكان شاعر فذهل بما رأى وسبح الرحمن وقال:
“سبحان الذي جعل من العادية حورا..
كمن تلبس حجابا أسودا وتحمل حزن كربلاء كله .”
كانت قد سمعت تلك المفردات فسمعت روحا تنطق شهد الكلام…
تفطنت روح الشاعر لهدوئها ولعدم هروبها فزاد من عذب الكلام وجمال المنطوق المباح فبزغت شمس الأصيل ..
وقال:
” ومالي بمليحة القوام تحمل وزر من خذلها …
والدم يدفع فيها قبل المال …ولعل بتراب وطني وطنك..
والعادية تغطي قرص الشمس بشموخها…
عزيزة النفس العربية المتأصلة..
في لهثتها غضب يخافه البحر..
يا ليتني كنت أسمع شكواها…
وأضم روحها و أنسف أدمعها. …
وياليتني كخيمة أحتوي رمادها …
وأشعل من روحي لها نارا وأذوب في رمادها ..
وتذرينا الرياح وتحملنا مع الأيام والفصول…
ولا نعود لسفح الجبل ونرتقي كقنديل الغرام..”
رق قلب الحزينة وهدأت واقتربت من صاحب المقال.
زاد في شهد البوح وقال:
“ولو بعت روحي لأظفر بذات الحسن والشموخ
لقلت أن روحي فيها قليلة ولزدت دمي و زدت عظامي
ولزدت تراب وطني لأثقل كفة الميزان ولرجحت الكفة
لجمالها حتى لا أنتظر غير رضاها ..”
ثم سكت وهم بالرحيل..
فتبعته مطيعة منصاعة وفي رموشها أثقال الدمع …
فقال والنصر حليفه:
وما كنت بك يا جميلة الروح نسيا ولا جاهلا لعزة مقامك
جئتك من أقص الأرض ماشيا وكنت قد نويت العودة راكبا
فهلمي بين أحضان فارسك ولا تحزني فمثلك ما خلقه الرحمن ليحزن وما صور حسنك وأبدع ليذبل….وهاةقد حملت في طيات روحي رذاذا من غيوم ماطرة وحفنة من تراب الأقصى ….شموخك يا متمردة يليق به شموخ القدس …
هناك الفتح القريب والسيوف التي ستنحر الظلم …
شقي غباب الغيم يا عربية أصيلة وارفعي راية النصر..”
كان الشاعر قد أغدق عليها من الرفق حتى بكت فروت الأرض
وتجمعت الغيمات حولها لتذري الريح اللآلئ ….
وكانت تلك أسطورة الفرسةالمتمردة التي اختفت ذات يوم من مكانها ولم يعرف أحد لليوم أين هي ..فقط تناقلت الجدات الأسطورة بأن روحا كانت لها الرداء فجبرت بفؤادها المكسور وأن كل الكلمات تناقلتها النسمات ونقشت فوق قمة جبل شاهق يصعب الوصول إليه وأن دخانا كان يتصاعد من المكان بعطر الكافور وأصوات لأطفال تضحك كانت تخيف كل من يحاول الإقتراب وصوت لصهيل يشق غباب الغيوم الماطر يجعل من الأفئدة ترتجف من هول الشجن والحزن .
أسطورة من ذاع صيت جمالها وتمردها وشموخها وعزة نفسها بين القبائل وكانت العصية على الذل والهوان وأنها أصبحت بجناحين وطارت نحو أقصى الأرض حيث أرض العزة.
……انتهى.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات