الرئيسية / مقالات / الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (61) / رصاصةٌ في جيب الضابط الفلسطيني

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (61) / رصاصةٌ في جيب الضابط الفلسطيني

السيمر / الأحد 13 . 12 . 2015

د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين

يظن البعض أن استشهاد المساعد في الاستخبارات العسكرية الفلسطينية الشهيد مازن حسن عربية لم ينجح في تحويل مسار الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، رغم أن الكثير من الفلسطينيين في الوطن والشتات، وغيرهم من العرب والمسلمين الذين يراقبون الانتفاضة، ويتابعون فعالياتها، ويرصدون يومياتها، كانوا يتوقعون أن استشهاد ضابطٍ في الأمن الفلسطيني سيؤدي إلى انقلاب الأمور، وتغيير الأوضاع، ودخول الانتفاضة في مرحلةٍ جديدة، ستكون بالتأكيد مختلفة عن المرحلة التي سبقت، والتي تميزت بالشعبية والفردية والارتجالية، وخلا أبطالها من الخبرة والكفاءة العالية، وكان ينقصهم التخطيط والتدريب والتأهيل والمراقبة والرصد وتحديد الأهداف وانتقاء الأنسب من بينها، فكانت عملية مازن وإن استشهد فيها بشارةً للبعض، وإيذاناً بتحولٍ قادم، سيكون له آثاره ومفاعيله على الأرض على كل الأطراف وعلى جميع الصعد.
كاد استشهاد المساعد في المخابرات الفلسطينية أن يدخل الكيان الصهيوني في مأزقٍ شديدٍ، وأن يعرض خطته في مواجهة الانتفاضة إلى الخطر، ويربك الموازين التي كانت قائمة، والمعايير التي على أساسها كان يبني خططه، ذلك أن سلطات الاحتلال ما زالت تعتمد في عملياتها الأمنية والعسكرية ضد الفلسطينيين في القدس ومختلف المناطق على التنسيق الأمني اليومي مع السلطة الفلسطينية، الذي تحرص المخابرات الإسرائيلية على بقائه ووجوده وتحافظ عليه، وتحذر حكومتها من مغبة إسقاطه أو انهياره.
فجاء استشهاد الضابط المساعد مفاجئاً للإسرائيليين وصادماً للأجهزة الأمنية، التي تعرف أبعاد استهداف عناصر ومنتسبي الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية، ونتائج انقلابهم عليها، واستفزازها لهم، وتعترف بأنها بدونهم عاجزة، ومن غيرهم ضعيفة، وبعيداً عنهم فإنها لا تستطيع السيطرة أو استكمال مساعي الاحتواء والإخماد، أي أن ظهرها بدونهم ينكشف، وخاصرتهم تضعف، فيسهل النيل منهم وإيلامهم أكثر.
لم تنس سلطات الاحتلال الإسرائيلي أزمتها وورطتها التي وقعت فيها في ظل انتفاضة القدس الأولى “الانتفاضة الثانية”، عندما استهدف شارون وجيشه المؤسسات الأمنية الفلسطينية، وقصف مقراتهم، ودمر ثكناتهم، وخرب مكاتبهم، واستهدف عناصرهم، ولاحقهم بقسوة، إلا أن الكثير من عناصر الأجهزة الأمنية لم يهابوه ولم يخافوه، ولم يصمتوا ولم تصدمهم المفاجأة، بل بل ردوا عليه وخرجوا إليه، وخاضوا غمار الانتفاضة، وانخرطوا في صفوفها، وشاركوا في فعالياتها، وساهموا فيها كأعظم وأشرف ما تكون المساهمة والمنافسة الوطنية الشريفة، حتى غدا عدد شهداء الشرطة والأجهزة الأمنية يفوق عدد غيرهم من الشهداء، وكانوا من خيرة الرجال وأبر الأبناء لوطنهم وشعبهم، في الوقت الذي فرض فيه الاحتلال الحصار على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وضيق عليه في مقر المقاطعة، وحاول منعه من التواصل مع شعبه، والتأثير في جمهوره، قبل أن يسممه بطريقته، ويغتاله بغدره المعهود ووسائله الخبيثة.
اليوم تخشى المخابرات الإسرائيلية أن يتورط جيش كيانهم مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وأن يستفزها ويخرجها عن صمتها، وأن يدفعها للثأر والانتقام، ويجبرها على الانخراط في فعاليات الانتفاضة إلى جانب شعبهم، ومع أسرهم وذويهم، وهي التي ما زالت حتى اليوم بعيدة عن الأحداث، ومعزولة عن المواجهات، فلا تتدخل نصرةً أو مساعدة، ولا تحاول صد العدو أو منعه من ممارسة جرائمه، والاستمرار في اعتداءاته المتكررة والقاسية ضد أبناء شعبهم من الشباب والأطفال من الجنسين، ذلك أن قيادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضابطة وحاكمة، ومسيطرة ومهيمنة، وقرارها واضحٌ وصريحٌ، أنها لن تدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولن تكون ضمن معادلة الصراع القائمة، رغم أن هذه المعادلة السلبية تعني اصطفافها إلى جانب العدو.
لكن الحقيقة أن الشهيد مازن عربية لم يكن عندما استشهد عابراً للطريق، كما لم يكن متفرجاً على الأحداث صامتاً أو سلبياً لا يتدخل، كما لم يكن يمنع أبناء شعبه ويصدهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى جنود الاحتلال، بل كان في مدينة القدس التي تدور حولها الأحداث، وفي بلدة أبي ديس فبادر بنفسه، وهاجم قاصداً ومتعمداً جنوداً إسرائيليين على حاجزِ بلدته، وأطلق عليهم النار من مسدسه، قبل أن يرد عليه جنود الحاجز مذهولين مما حدث، فأستشهد بينما أصيب فلسطيني آخر بجراح نقل على إثرها إلى المستشفى، لكن التقارير الإسرائيلية لم تتحدث عن الجندي الذي أصابه الشهيد بمسدسه، وأبقوا على حالته سريةً وإن كانوا يتحدثون عن إصابته بسلاح زملائه في الحاجز، مخافة أن يتأسى آخرون به، ويقلدون فعلته ويهاجمون مثله.
لعله من الصعب على الفلسطيني أياً كان انتماؤه وولاؤه، أن يرى أبناء شعبه يقتلون ويعتدى عليهم، وتصادر حقوقهم وتنتهك أعراضهم، وتدنس مقدساتهم، بينما يقف متفرجاً لا يحرك ساكناً، ولا يهب لنجدة إخوانه والانتصار لشعبه، فكيف بالعسكري الذي يحمل شرف الانتماء إلى المؤسسة العسكرية، التي لا تخلق إلا للدفاع عن الشعب وحماية الأوطان، وصيانة البلاد وحفظ مصالحها، وكذا كان الشهيد عربية، ومثله الكثير في صفوف السلطة الفلسطينية، الذين هم أبناء هذا الشعب، وأصحاب هذا الوطن، عاشوا فيه وانتسبوا إليه، وعانوا مع أهله، وتعرضوا للانتهاكات الإسرائيلية، ومنهم من سبق اعتقاله أو بعضاً من أهله وعائلته، ولكثيرٍ منهم شهداء وجرحى ومبعدين، مما يجعل نسيانهم للظلم صعباً، وتجاوزهم للعدوان مستحيلاً، ومسامحتهم له أو تعاونهم معه ضربٌ من الخيال بعيد المنال.
شعر العدو بالخطر الحقيقي، وبدأ بالاتصال بقادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وأخذ ينفخ في نار التنسيق الأمني بين الطرفين، إذ خاف من صحوة الضباط الفلسطينيين، ويقظة المنتسبين للأجهزة الأمنية، الذين يملكون أسلحةً نارية، وعندهم خبرة وكفاءة، ومعلوماتٌ وبيانات، ويستطيعون الوصول إلى ما لا يستطيع غيرهم الوصول إليه وتنفيذه، وما ظن العدو أن عناصر الأجهزة الأمنية هم من أبناء هذا الشعب الأصيل، الذي لن يفرطوا فيه، ولن يتخلوا عن أهله، ولن يوالوا عدوه، ولن يكونوا حراساً لمستوطنيه، وكما خرج مازن عربية ثائراً ناقماً فإن غيره سيقلدونه وسيكونون مثله، بل إن منهم من سيسبقه وسيتقدم عليه، ذلك أن هذا الشعب سيبقى فلسطينياً، وسيبقى أبناؤه إلى فلسطين ينتمون، وعنها يدافعون، وستبقى الرصاصة دوماً في جيوبهم يطلقونها على العدو في كل وقتٍ وحينٍ، ثأراً وانتقاماً، وعدالةً وإنصافاً، وأصالةً ووفاءً، وحباً وغيرة.