عبدالكريم صالح المحسن*
البصرة المدينة الحالمة على ضفاف شط العرب والمعانقة أطرافها لسواحل الخليج ، الحاملة لروح وعبق التاريخ فهي ضمن مديات حضارة ودولة (سومر) فعاصمة ومدن سومر الرئيسية مثل ( لاغاش Lagash وآور Ur ) غير بعيدة عن البصرة سوى سبعين كيلومتر الى الشمال الغربي،موقعها على الضفة الغربية لنهر شط العرب وهو المعبر المائي الذي يتكون من الالتقاء العظيم بين نهري دجلة والفرات اكسبها أهمية استراتيجيه كبيرة كما أن إطلالتها المتواضعة على البحر(الخليج العربي) من جهة مدينة الفاو زاد من تلك الأهمية لتكون محط الأنظار على مر العصور والأزمنة ،للبصرة حدود دولية مع المملكة العربية السعودية والكويت جنوباَ وإيران شرقاَ ،فمنها انطلق السندباد البحري لخوض رحلاته العجيبة ضمن أساطير ألف ليلة وليلة .وهي أيضا أحدى المواقع المحتملة وفقاَ للأساطير السومرية والتوراتية الغربية لجنة عدن والتي يعتقد أنها في منطقة الأهوار العظيمة والتي تصل مساحتها الى عشرين ألف كيلو متر مربع فقد تكونت هذه الأهوار نتيجة الفيضان الهائل في نهري دجلة والفرات في العام السابع الهجري الموافق للعام الميلادي 628، أن أهوار البصرة هي الموقع الذي يُطلق عليه العهد القديم “جنات عدن” كما أسلفنا حيث تشير الدراسات والبحوث التاريخية والأثرية إلى أن هذه المنطقة هي المكان الذي ظهرت فيه ملامح السومريين وحضاراتهم وتوضح ذلك الآثار والنقوش السومرية المكتشفة.
للأهوار تأثير إيجابي على البيئة فهي تعتبر مصدر جيد لتوفير الكثير من المواد الغذائية من الأسماك والطيور والمواد الزراعية التي تعتمد على وفرة وديمومة المياه مثل الرز وقصب السكر. يعيش سكان الأهوار في جزر صغيرة طبيعية أو مصنعة في الأهوار، ويستخدمون نوعا من الزوارق يسمى (بالمشحوف) في تنقلهم وترحالهم. وقد تعرضت للتجفيف في التسعينيات من القرن الماضي وتحديدا بعد انتفاضة العام 1991 م أو ما يعرف بــالانتفاضة الشعبانية، عقابا لسكان الأهوار الذين انتفضوا ضد نظام صدام حسين. ولم يتبق سوى 4% من أجمالي مساحتها بعد تجفيف 96% منها،حيث تعد الأهوار من أجمل المناطق السياحية لو كان الاهتمام بها بالمستوى المطلوب.والبصرة الموطن الأول لأول عمله عربية أسلامية حيث ضرب أول درهم في سنة 40هجرية/660 ميلادية حيث تحتفظ المكتبة الوطنية بباريس بهذا الدرهم وقد نشره (لافوكس) سنة 1887م.
في البصرة يرقد نبي الله العزير، عليه السلام، أحد أنبياء الديانة اليهودية، وذكر المؤرخون ومن بينهم (الكسندر اداموف)، في كتابه (ولاية البصرة بين حاضرها وماضيها)، أن نبي الله العزير عليه السلام دفن في بلدة صغيرة كانت تسمى (زمزوم) على نهر دجلة، وأن السفن كانت تنقل الزائرين إلى المرقد، حيث كان يقصدها الناس من مناطق بعيدة، ويرى المؤرخ (شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي 574 – 626 هـ ) ، أن اليهود العراقيين لا يشكون في صحة وجود القبر في مكانه الحالي، بناحية العزير، التي يؤمها أيضا المسلمون من العرب وغيرهم، ويعلل بعض المؤرخين أن كثرة اليهود العراقيين في البصرة والعمارة يعود إلى وجود المرقد، حتى شاع اسم (عزرا) بين أولادهم، تيمنا باسم النبي العزير عليه السلام، إضافة إلى أقدم دير، حيث أطلق على المدينة بالاسم ذاته (40 كم) شمال المدينة. ارتبط اسم البصرة بالنخيل والتمر منذ القدم، حتى أصبحت موطنا لأجود أنواعه، وبه اشتهرت، حيث تمتد على ضفاف الأنهار وتنتشر بساتين بمحاذاة الشاطئ، الذي يبلغ طوله 241 كم، وتزداد كثافة وتوسعا من منطقة أبي الخصيب حتى نهاية اليابسة العراقية في رأس الييشه بالفاو.
البصرة بحق وريثة الحضارات فقد تعاقبت عليها منذ أقدم العصور العديد من الحضارات بدءاَ بالحضارة السومريّة (ت. 4،250-960،1 ق.م.)، والّتي جاءت من بعدها الحضارة البابليّة القديمة (ت. 960،1-600،1 ق.م.)، ثمّ الحضارة القسّيّة-الآشوريّة (ت. 600،1-200،1 ق.م.)، ومن بعدها الحضارة الآشوريّة-البابليّة الوسطى (ت. 200،1-700 ق.م.)، وانتهاء بالفترة البابليّة-الكلدانيّة الجديدة (ت. 700-538 ق.م.).([1])
سادت حضارة السومريين معظم الجنوب العراقي والكويت خلال العصر النحاسي وبداية العصر البرونزي أما البابليون وهم من الأقوام السامية الناطقة باللغة الاكدية والذين أسسوا دولتهم في وسط وجنوب العراق وكانت عاصمتهم (بابل) وقد قام الملك (حمورابي) بإقامة إمبراطورية مؤلفة من عدد من المقاطعات والتي كانت جزءاَ من الإمبراطورية الأكادية ،أما الأشوريون فهم أول دولة قامت في مدينة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين، وتوسعت في الألف الثانية ق.م. وامتدت شمالا لمدن نينوى، نمرود وخورسباد. ولقد حكم الملك شمشي مدينة آشور عام 1813 ق.م. واستولي حمورابي ملك بابل على آشور عام 1760 ق.م. إلا أن الملك الآشوري شلمنصر استولي على بابل وهزم الميتانيين Mittani عام 1273 ق.م ثم استولت آشور ثانية على بابل عام 1240 ق.م. وفي عام 1000 ق.م. استولي الآراميون على آشور، لكن الآشوريين استولوا على فينيقيا عام 774 ق.م. وصور عام 734 ق.م. والسامرة عام 721 ق.م. وأسر سارجون الثاني اليهود في أورشليم عام 701 ق.م. وفي عام 686 ق.م. دمر الآشوريون مدينة بابل وثار البابليون على حكم الآشوريين وهزموهم بمساعدة ميديا عام 612 ق.م. شن الآشوريون حملاتهم على باقي مناطق سوريا وتركيا وإيران. وما بين سنتي 883 ق.م. و612 ق.م. أقامت إمبراطورية من النيل للقوقاز، ومن ملوكها العظام: آشوربانيبال، تغلات فلاصر الثالث، سرجون الثاني، سنحاريب، آشورناصربال، واسرحادون (والد آشور بانيبال) الذي كان مهووسا بحب إذلال الملوك حيث كان يجبر الملوك التابعين له على المجيء إلى عاصمته والعمل في ظروف قاسية لبناء قصوره في نينوى، وآخر ملوك آشور المدعو آشور أو باليط الذي أقام مقر قيادة مؤقت في حران (الجزيرة الفراتية) بعد سقوط نينوى بيد البابليين بقيادة نابو بولاصر الكلداني محاولا تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. وكانت كتابة الآشوريين الكتابة المسمارية التي كانت تكتب علي ألواح الطين، وأشهر مخطوطاتها ملحمة جلجماش التي ورد بها الطوفان لأول مرة. وكانت علومهم مرتبطة بالزراعة ونظام العد الحسابي السومري الذي عرف بنظام الستينات وكانوا يعرفون أن الدائرة 60 درجة، كما عرفوا الكسور والمربع والمكعب والجذر التربيعي، وتقدموا في الفلك وحسبوا محيط خمسة كواكب، وكان لهم تقويمهم القمري وقسموا السنة لشهور والشهور لأيام، وكان اليوم عندهم 12 ساعة والساعة 30 دقيقة. وكانت مكتبة الملك آشور بانيبال من أشهر المكتبات في العالم القديم حيث جمع كل الألواح بها من شتى مكتبات بلاده.
الآشوريون هم من الأكديين الذين قطنوا المنطقة الشمالية من حوض نهر دجلة، بعد الهجرة من منطقة بابل خلال العهد الأكدي. اختلط الأشوريون مع الشعوب الجبلية الحيثيين والحوريين واستعدبو الآراميين (قبيلة الأخلامو والنبط) وقبائل العريبي أو الأعرابي (قبائل قيدار وقيدم وجندبو وسبأ وثمودي) والكلدان. مايهمنا هنا هو البحوث الحديثة التي توصل إليها علماء التاريخ والآثار الغربيين والتي تشير الى أن الأصول المبكرة في التاريخ لمدينة البصرة الحالية تتطابق مع مدينة (طريدون) الأشورية القديمة أي أن البصرة الحديثة قد بنيت على أنقاض مدينة (طريدون) والتي أسسها الملك الأشوري العظيم (نبوخذ نصر) وقد أسسها خلال القرن الثامن قبل الميلاد وقد استند هؤلاء العلماء الغربيين على مجموعة الآثار واللقى الأشورية التي اكتشفت في قضاء الزبير وما يحيط بها والّذي يبعد مسافة ثلاثة وعشرين كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من (البصرة الحاليّة). وخلال الفترة البابليّة-الكلدانيّة، أستوطن عدد من قبائل الأعراب النبطيّة موقعاً قريباً من (البصرة) الحاليّة، يقع على مسافة ثلاثة وعشرين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي منها، حيث أسّسوا مدينة أسموها (الأبله). وهؤلاء الأنباط تعود أصولهم إلى جنوبي شبه الجزيرة العربيّة، ولكنّهم أقاموا ممالك قويّة في شمال شبه الجزيرة العربيّة، وبلاد (الشام). وقد أصبحت (الأبله) خلال هذه الفترة النبطيّة إحدى أهمّ النقاط المحوريّة والرئيسيّة للتجارة العالميّة في المنطقة، حيث استقطبت تجّاراً من بلاد قاصية ودانية، مثل بلاد (فارس)، و(الهند)، و(الصين)، و(بيزنطة).
والبصرة هي خزانة العرب وقبة الإسلام وهي دار العلم ومعدن المجتهدين والفضلاء وهي بحق فينيسيا الشرق (لكثرة أنهارها) وهي تاج الخليج او لؤلؤة الخليج حتى أن الخليج كان يسمى بأسمها (خليج البصرة )حسب الوثائق والخرائط العثمانية ،ويقول إبراهيم الحيدري البغدادي عن أهلها :”ا ن أهل البصرة من أكرم الناس ومن ذوي الطبائع السليمة والأخلاق السهلة الأنيسة ،الغريب لديهم مكرم والنزيل عندهم محترم ،إمارة النجابة العربية عليهم ظاهرة ودلائل الشيم العربية عليهم باهرة ،إذا أوذوا تحملوا وان كلفوا بما لاطاقة لهم به قبلوا وان غدروا سامحوا وان ظلموا سكتوا صفاء الخاطر فيهم موجود”([2])
يمكن تقسيم تاريخ (البصرة) ألإسلامي وما بعد الإسلامي، والّذي بدأ مع الفتوحات الإسلاميّة ل(العراق) وبلاد (فارس) في مطلع القرن الميلادي السابع، وحتّى قيام الدولة العراقيّة الحديثة عام 1921م، إلى عشرة أقسام، يعكس كلّ قسمٍ منها تعاقب القوى المسيطرة الّتي تحكّمت فيها والمناطق المجاورة لها خلال ثلاثة عشر قرناً من الزمن. وهذه الأقسام العشرة هي كالآتي: 1-الخلافة الإسلاميّة الراشدة 638-661م؛ 2-الدولة الأمويّة 661-750م؛ 3- الدولة العبّاسيّة 750-1258م؛ 4-العصر “المغولي-المملوكي” 1258-1508م (وهي فترة تضم تشكيلة متنوّعة من السلالات والأنظمة الحاكمة، غالبيّتها ولكن ليس كلّها من أصول مغوليّة أو من خلفيّات أعدائهم، المماليك، كونها تشمل السلاجقة، والجلائريّين، والبويهيّين، وبعض السلالات الأخرى)؛ 5- العصر ألصفوي (الفارسي) الأوّل 1508-1533م؛ 6-العصر العثماني (التركي) الأوّل 1533-1623م؛ 7-العصر ألصفوي الثاني 1623-1638م؛ 8-العصر العثماني الثاني 1638-1914؛ 9-الغزو البريطاني 1914-1917؛ 10- الاحتلال البريطاني 1917-1921.([3])
عرفت البصرة على مدار تاريخ العراق المعاصر, بأنها نقطة البداية ( الانطلاق), أو الرفض، وإذا كان مترنيخ Metternich (وهو سياسي ورجل دوله نمساوي ومن أهم شخصيات القرن التاسع عشر. ينسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في أوروبا طوال الأربعين عاما التي أعقبت هزيمة نابليون بونابرت ) يقول : أذا عطست فرنسا أصيبت أوربا بزكام وأنا أقول على غرار ماقال :أذا عطست ألبصره أصيب العراق بزكام وإذا عطس العراق أصيب العرب بزكام. ونرى ذلك بشكل واضح على سبيل المثال أن أول حالة معارضة مسلحة انطلقت من أهوار البصرة, شرارة الانتفاضة الشعبانية اشتعلت جذوتها في البصرة([4])فقد عجت مدينة البصرة بآلاف العراقيين من مختلف المناطق والذين قصدوا هذه المدينة للاستفسار ومعرفة مصير أبنائهم من الجنود والضباط في الجيش العراقي بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت وكانت الأجواء في البصرة مشحونة ضد النظام والسلطة وسط دخان حرائق أبار النفط التي أضرمتها القوات العراقية في أبار النفط الكويتية وكان الناس ينتظرون ما يحفزهم على الانتفاض ضد النظام فكان قيام أحد الجنود العراقيين بإطلاق النار على تمثال صدام حسين في ساحة سعد في المدينة في يوم 1 آذار/مارس 1991م كافياً لحدوث انتفاضة شعبية كبيرة حيث خرج سكان المدينة إلى الشوارع وهم يهتفون ضد النظام وخرج بعض الشباب وهم يعلنون سقوط نظام صدام حسين مما زاد من الهيجان الشعبي فتوجهت مجاميع كبيرة نحو مراكز الشرطة والمباني الحكومية ومعسكرات الجيش وإخراج من كان فيها من السجناء الأبرياء والاستيلاء على مخابئ الأسلحة الصغيرة وحدثت اشتباكات بين القوات العراقية والمنتفضين في المدينة امتدت الانتفاضة في اليوم التالي إلى المناطق والقرى القريبة من البصرة,أن سقوط نظام البعث بدأ من البصرة, والفترة القصيرة التي تحقق بها أمن نسبي بالعراق بدأ كذلك من البصرة (صولة الفرسان نموذجاَ)([5])، التظاهرات الأخيرة التي عمت العراق والتي تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد قد انطلقت أيضا من ألبصره بتاريخ 2آيار/مايو2015 ([6]) بمعنى إنّ من البصرة تبدأ إحداث التغيير, واعتقد هذه المرة التغيير يشمل إعادة صياغة الدولة العراقية؛ فلو أبصر النور إقليم البصرة التي تدور رحى الأحداث حوله هذه الأيام نتيجة الشعور بالغبن والظلم والتهميش وسوء الخدمات الذي عانت وتعاني منه هذه المدينة، سيبدأ تغيير أكبر، إذن فهو الحلم الذي ينتظره جميع البصريين من اجل التغيير الذي طالما انتظروه وحلموا به لبناء حياة مستقلة وكريمة .ان من حق البصرة ان تتمتع بما حباها الله من خيرات وموارد وهي التي تبعد بضع كيلومترات عن دول الخليج ومدنهم بعدما كانت تلك المدن يباباَ صحراء قاحلة يقصد سكانها البصرة للتسوق والتزود بالحاجات الأساسية والضرورية فالبصرة عاشت المدنية منذ القديم
الحقيقة التي يجب التذكير بها أن البصرة واجهت حالة من المطالبة بشكل من أشكال (الاستقلالية) في وقت لم تكن فيه هناك (أفكار الفيدرالية) و(الحكم الذاتي) و(ثقافة اللامركزية) و(مصطلح الإقليم) قد انتشرت ،بعدُ، داخل الحركة السياسية أو الاجتماعية في البصرة و العراق أيضا، فقد ظهرت اولى بوادر حركة سياسية جديدة في البصرة خلال أجتماع بين السير برسي كوكس واثنين من كبار تجار البصرة وملاك الاراضي هما احمد الصانع وعبداللطيف المنديل في 7 نيسان/ابريل 1921م وطالبا خلال الاجتماع بأدارة منفصلة للبصرة تحت الحكم البريطاني المباشر([7]) و في ضحى الثالث عشر من شهر حزيران/يونيو العام 1921م تسلم المندوب السامي في البصرة السير برسي كوكس عريضة تحتوي ثلاثة وعشرين فقرة موقعة من أربعة آلاف وخمسمائة رجل في ذلك التاريخ يتزعمهم سبعة من كبار أعيان ووجهاء البصرة يترأسهم كل من عبداللطيف باشا المنديل واحمد باشا الصانع وسليمان بك الزهير وعلي بك الزهير وعبود حمود باشا الملاك وعبدالرزاق النعمة ويوسف عبدالأحد ويعقوب نواح وحاج عبدالسيد عويد وناجي بك السويدي “وهذا الأخير محامي ليس من أهالي البصرة أنما هو من أهالي بغداد وهو شقيق توفيق السويدي رئيس وزراء العراق فيما بعد وفي سنة 1921 رأس ناجي السويدي الوفد الذي استقبل الملك فيصل الأول في البصرة” ) ويذكر الدكتور حميد احمد التميمي في مؤلفه البصرة في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921م أن تتويج الأمير فيصل ملكاَ على العراق من اجل أنشاء دولة جديدة لم يكن آمراَ مقنعاَ لجميع الاتجاهات السياسية البريطانية ولا لكل القوى المحلية أيضا على اختلاف ارتباطاتها ومصالحها وقد برز ذلك بشكل واضح لما عرف تاريخيا بحركة الانفصال (بالرغم من أني أتحفظ على كلمة انفصال لأنه أساسا لم يكن هناك كيان أو دولة حتى يتم الانفصال منها فقد كان هناك ثلاث ولايات البصرة وبغداد والموصل وهذه الولايات لم تكن منتظمة بكيان واحد أنما قام الاحتلال البريطاني بضمها ضمن كيان واحد تمت تسميته المملكة العراقية لكني أوردتها نقلاَ عن الدكتور حميد احمد التميمي من اجل الإشارة التاريخية لهذه المطالبات )هذه الحركة التي دارت رحاها قبل مجيء الأمير فيصل بفترة زمنية قصيرة لا تزيد على بضعة أيام وقد ادعى المقدمون لهذه العريضة في الفقرة الأولى من هذه العريضة بأنهم يمثلون الأغلبية الراجحة من أهالي مقاطعة البصرة وقد أوضحوا بالنقاط الثلاثة التي تلتها عن عمق الارتباط الوثيق بين سكان مقاطعة البصرة والسلطة البريطانية مدللين بالذكر على ذلك بحسن سلوك أهل البصرة وامتثالهم للأنظمة والقوانين التي أصدرها ويصدرها الاحتلال البريطاني وعدم تأييدهم لثورة العشرين من خلال ماجاء في قرار مجلس أشراف البصرة بهذا الخصوص وقد طالبوا بالفقرة الخامسة من العريضة بحق تقرير المصير وأنهم يلتمسون من حكومة جلالته تطبيق هذه المبادئ بالدقة على مقاطعة البصرة وان تكفل لهم أدارة جيدة إما الفقرة السادسة فقد ذهبت الى بيان الفروق السكانية بين البصرة وبقية أنحاء العراق على اعتبار أنها متخذه ميناء يكثر فيه الأجانب دليلاَ على هذا التفريق واحتمال اتساعه في الجوانب الاجتماعية والثقافية ،أما في الجانب الاقتصادي فقد ورد في الفقرة السابعة أن موارد البصرة المادية سوف تصرف في حالة بقائهم ضمن الدولة العراقية على مشاريع لأتعود عليهم بالخير وهم الأقلية الغنية صاحبة الموارد وفي الفقرة الثامنة تعرض العريضة الى أوجه الشبه بين البصرة وبين مواقع البلاد التابعة لبريطانيا العظمى والمتمتعة بالحكم الذاتي حيث جاء فيها ما نصه : (وبهذه المناسبة نلتمس بخضوع أن نصور لكم موقع البصرة وما فيه من وجوه الشبه بينه وبين موقع البلاد التابعة لبريطانيا العظمى والمتمتعة بالحكم الذاتي فان تلك البلاد لبعدها عن مركز الحكومة الرئيسي ووجود الاتحاد في المقاصد السياسية بين سكانها قد سلم بما لها من المطالب الحقة في التمتع بحياة سياسية مستقلة اذ بهذه الكيفية وحدها نالت شؤونها ما افتقرت اليه من الاهتمام اللازم)عليه فقد بينت الفقرة التاسعة بان مسير البصرة وتقدمها يخالف مسير العراق ولذا يجب أن لا نجبر على قبول ما لا نرضاه ولا يضمن مصالحها ،كما عرضت بقية الفقرات بالشكل الصريح والواضح المطالبة بمنح البصرة استقلالاَ سياسياَ منفصلاَ ،قدمت بقية الفقرات مشروع أداري سياسي تكون فيه البصرة مقاطعة منفصلة يشرف عليها الأمير نفسه أو الملك الذي يحكم العراق وتحمل الدولة الجديدة اسم (ولايتي العراق والبصرة المتحدتين) وللبصرة مجلس تشريعي وحاكم خاص ينتخبه حاكم الولايتين من ثلاثة أشخاص ينتخبهم مجلس البصرة وسارت فقرات العريضة بالشكل الذي ينظم العلاقات الإدارية بين الطرفين بشكل اتحادي (فدرالي) والحقيقة فقد أثيرت ردود أفعال متباينة بين أهالي البصرة وقد أشار أليها لأول مرة بصورة رسمية وزير المستعمرات البريطاني (ونستون تشرشل) في خطاب له بمجلس العموم البريطاني في الرابع عشر من حزيران/يونيو العام 1921 عندما تناول مراحل القضية العراقية وجاء نصه : (وفضلاَ عما تقدم نعلم بحركة حديثة العهد ترمي الى طلب الاستمرار على الحكم البريطاني مباشره ،وجل هذا التغيير في موقف الشعب دليل ناصع على ثقته بالسير برسي كوكس ولكن لا أمل لنا أن نتمكن من الاستمرار على حمل التبعة مباشره وكذلك قد طلب البعض فصل البصرة عن العراق ووضعها تحت أدارة بريطانية تامة ولانرى أن هذا الأمر أيضاَ ممكن لأنه يخالف مصلحة الحكومة الوطنية أجمالاَ فسياستنا هي أنشاء حكومة عربية وطنية وإرشاد هذه الحكومة وتأييدها….وليفهم جلياَ أننا في أنشاء حكومة وطنية تنوي كل النية أن تقوم بأعباء التبعة التي ألقاها علينا الانتداب)([8]) وهكذا، على اثر مؤتمر القاهرة الخاص بالشأن العراقي والمنعقد في 12 آذار/مارس 1921 وبحضور وزير المستعمرات البريطاني (ونستون تشرشل) و (برسي كوكس) المعتمد السامي والجنرال (هولدن) قائد القوات البريطانية في العراق وجعفر العسكري وزير الدفاع في الحكومة العراقية المؤقتة وساسون حسقيل وزير المالية ، وبعض مستشاري الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة وهم بريطانيين وكذلك (المس بيل) السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد البريطانية. تم اختيار فيصل بن حسين بن علي الهاشمي لعرش العراق من بين عدة مرشحين هم: السيد عبدالرحمن النقيب وهو نقيب أشراف بغداد ورئيس الحكومة المؤقتة. السيد طالب النقيب وهو ابن نقيب البصرة ووزير الداخلية في الحكومة المؤقتة. عبد الهادي العمري رئيس الأسرة العمرية المشهورة في الموصل. الأمير برهان الدين نجل السلطان العثماني عبد الحميد. أغا خان زعيم الطائفة الإسماعيلية في الهند. الشيخ خزعل أمير المحمرة. غلام رضا أمير بشت كوه الإيراني. ابن سعود أو احد أنجاله. وبذلك انتهت فكرة الجمهورية التي تبناها ودعا إليها مستشار وزارة الداخلية (مستر فلبي) وبعض الشخصيات البغدادية المهمة لتكون نظاما للحكم في العراق. تمّ تتويج (فيصل) ملكاً على (العراق) في شهر آب /أغسطس من عام 1921، وعرف باسم “الملك فيصل الأوّل”. وفي عام 1932م، أصبح (العراق) دولة مستقلّة كاملة الأهليّة، وتمّ ضمّها كعضو كامل في عصبة الأمم (والّتي أصبحت لاحقاً “الأمم المتّحدة”). دارت دورة الأيام وجاء التاسع من نيسان 2003م واحتل العراق من جديد لكن هذه المرة من قبل أمريكا ومساعدة بعض الدول مثل بريطانيا واستراليا وأصبحت الأحداث السياسية داخل العراق تدور بشكل متسارع وبدأت الدعوات الى تحويل البصرة الى إقليم فدرالي تتصدر اهتمام قوى وشخصيات سياسية في البصرة على خلفية نية أعضاء في مجلس المحافظة بتقديم طلب الى رئاسة مجلس الوزراء بإجراء استفتاء حول تشكيل الإقليم وقد تبنت بعض الشخصيات السياسية الموضوع وبدأت بخطوات فعلية لتشكيل الإقليم المزمع، مدعين أن تشكيل الإقليم هو السبيل الوحيد لتخليص البصرة من الظلم الذي عانته طوال السنوات السابقة . أن سخط الشارع البصري من انعدام الخدمات في ألبصره بالإضافة الى تبني نواب عن البصرة المشروع مستندين في هذه الإجراءات على قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008، لكن هنا لابد من التوقف قليلاَ عند سؤال غاية في الأهمية وهو هل كانوا محقين أولئك القادة البصريين الذين تقدموا بعريضتهم في العام 1921م لقد مضى على هذا الموضوع أربعة وتسعين عاماَ ولا أجد أي فقرة من الفقرات التي نادوا بها هي ليست من مصلحة البصرة وأهلها لقد وجدت هذه المجموعة من قادة البصرة في ذلك الزمان أن استقلال مدينتهم عن بغداد (المركز) هو نوع من الضمان لتطوير مدينتهم تطوراَ حراَ سريعاَ وهم محقين في هذا فكل الأنظمة المتطورة في العالم هي أنظمة فدرالية اتحادية ، على الجميع أن يعترف أن مدينة البصرة لم تديرها أي أدارة في يوم من الأيام وأنصفت أهلها أو حافظت على حقوقهم رغم كل الأنظمة المتعاقبة التي تعاقبت على حكمها ولم يكن باستطاعة المواطن البصري أن يكون سيد قراراته،فقد عاش البصريون تحت ردح الضغوط والاضطهاد والتهميش منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى اليوم فقد كان ولازال المجتمع البصري مجتمع مقهور من أصحاب السلطة السياسية الشرعية وغير الشرعية محتلين أجانب أم من غير الأجانب.
البصرة المهملة في كل ألازمنه نتيجة إهمال وفساد الإدارات التي تولت أمرها هي اليوم في أمس ألحاجه الى مشروع تنموي استراتيجي شامل وبناء نظام أداري وسياسي وفق مفهوم الحكم الرشيد والذي يستند الى العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية المستدامة والشفافة بالأضافه الى ديمقراطية تشاركيه ترتبط بشكل مباشر باللامركزية الإدارية فقد أثبتت تجارب الأمم والشعوب بأن أساس أي تقدم اجتماعي وازدهار اقتصادي مرتبط بشكل وبأخر بالنظام الإداري اللامركزي أي أقامة الأقاليم (الولايات) وما المطالبة بإقامة إقليم البصرة إلا الخطوة الصحيحة بالاتجاه الصحيح من اجل تحقيق التنمية المحلية لكن لابد لهذه المطالبات أن تتبنى برنامج تنموي شامل يسموا فوق كل الميول والاتجاهات السياسية والمذهبية الطائفية والتعصب القومي الأثني وتضع نصب عينيها تحقيق الحاجات الحياتية الأساسية والضرورية لأهل البصرة ،بالتأكيد هكذا مشروع يحتاج الى تشكيل وتأسيس تنظيمات سياسية بصرية بدماء بصرية أصيلة وجديدة يكون الاكاديميون ذوي الخبرة الكبيرة حجر الزاوية في هذه الإدارة التي ستتولى أعباء المرحلة من خلال إيجاد المناهج والخطط والسبل التي تمكن المشروع التنموي الشامل الذي تعمل على تحقيقه وفق هذه المناهج والأسس العلمية الحديثة، فالساحة البصرية تحتاج المزيد من العمل والتوعية الجماهيرية ليكون الغد مفعم بالأمل بتحقيق الحلم الأزلي لتكون البصرة الفيحاء باسمة بحق مثلما يطلق عليها ثغر العراق الباسم.
…………………………………………………………………..
[1] ) دليل البصرة –ابحث من أعداد الدكتور أحمد باش أعيان؛ حزيران 2014 [2] ) عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد – إبراهيم فصيح بن سيد صبغة الله الحيدري البغدادي-دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع – لندن 1998 ص162-163. [3] ) نفس المصدر السابق ص20 [4] ) انتفاضة العام 1991 في العراق أو الانتفاضة الشعبانية هي مجموعة من عدة مظاهر للاضطراب وعدم الاستقرار في مناطق جنوب وشمال العراق وقعت مباشرة بعد حرب الخليج الثانية تسمى بالانتفاضة الشعبانية لقيامها في شهر شعبان من العام الهجري انطلقت من البصرة و شملت الاضطرابات قيام مواطنين عزل بمحاصرة المعسكرات والدعوة إلى إسقاط النظام وبعد قيام القوات العراقية بعمليات قمع للمواطنين تحول الأمر إلى انتفاضة شارك فيها مسلحون وعناصر من الجيش العراقي بأسلحتها والياتها العسكرية، إضافة لعناصر من فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى الإسلامي في العراق إضافة لقوات البيشمركة، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وكذلك مسلحون من المواطنين العراقيين في الجنوب واندلعت الانتفاضة في أربع عشر محافظة من أصل ثمانية عشر تعداد المحافظات التي يتكون منها العراق اي بمعنى خروج أكثر من 77% من الشعب العراقي منتفضاً على النظام الحاكم آنذاك واستمرت الانتفاضة إلى أن تم إبادتها بتدخل عسكري وإبادة بشرية كبيرة من قبل النظام الحاكم الذي كان يرأسه صدام حسين. [5] ) صولة الفرسان هي عملية عسكرية أطلقتها الحكومة العراقية برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي(في حينها) الذي أشرف عليها إشرافًا تامًا وذلك بعد مطالبات شعبية لرئيس الوزراء نوري المالكي بالتدخل لوقف سيطرة المليشيات الدينية, بدأت هذه العملية في يوم الثلاثاء 25 آذار/مارس 2008م. [6] ) خرج العشرات من سكان إحدى مناطق مدينة البصرة بتاريخ 2-5-2015، في تظاهرة غاضبة ، احتجاجاً على انقطاع الكهرباء عن منطقتهم منذ ثلاثة أيام، فيما أكدت لجنة الخدمات في مجلس المحافظة تدخلها لمعالجة الخلل الذي أدى الى انقطاع الكهرباء. “عشرات الشباب من سكان حي القائم الواقع ضمن منطقة القبلة في البصرة خرجوا في تظاهرة ليلية غاضبة احتجاجاً على انقطاع الكهرباء عن منطقتهم منذ ثلاثة أيام”، مبيناً أن “بعض المتظاهرين قاموا بقطع عدد من الطرق، كما أضرموا النار في إطارات سيارات أسفل أحد المجسرات، ولما حاولت قوات الشرطة التدخل تم قذف بعض عناصرها بالحجارة”. [7] ) Reidar Visser ,basra,the Failed Gulf State: Separatism and Nationalism in Southern Iraq, Lit Verlag,Berlin ,2005 P.P. 159-60 [8] ) البصرة في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921 – الدكتور حميد احمد التميمي – منشورات مركز دراسات الخليج العربي رقم 25 مطبعة الرشاد بغداد 1979م، ص 640 .* باحث ومؤرخ في الشؤون الدولية