السيمر / الأربعاء 21 . 12 . 2016
أحمد الشرقاوي / مصر
لم تجر الرياح في لقاء موسكو الثلاثاء كما كانت تشتهي سفن روسيا وإيران، خصوصا بعد أن أُلغي الاجتماع الذي كان مقررا بين وزراء الدفاع، واكتفى وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا بإصدار إعلان عام هلامي بدل بيان واضح يوثق الاتفاق..
وهذا يعني أن البلدان الثلاثة لم يتوصّلوا إلى اتفاق حول الشق العسكري المتعلق بمحاربة الإرهاب، وقيل أنه ترك للخبراء العسكريين لبلورة مقترحات بشأن بنوده تناقش في مرحلة قادمة، لكن أيضا، لا يمكن القول أن الأطراف المجتمعة وصلت إلى اتفاق بشأن الشق السياسي نظرا للخلافات التي لا تزال قائمة بين روسيا وإيران من جهة، وتركيا من جهة أخرى، حول طبيعة وتركيبة النظام السياسي في دمشق.
وبعيدا عن اللغة الدبلوماسية التي تتحدث عن أن الاجتماع كان مهما باعتباره بداية صحيحة لتهيئة الأرضية المناسبة لإطلاق العملية السياسية بالتعاون مع الدول الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية، وبعيدا عن الحسابات الدولية والتجاذبات الإقليمية، فقد كان واضحا أن الاجتماع كان بروتوكوليا أكثر منه اجتماع عملي، لأنه لم يتم التوصل إلى رؤية موحدة حول الإستراتيجية الواجب اعتمادها في الحالة السورية المعقدة.
فموسكو وطهران كانتا تراهنان على انخراط عملي لتركيا في محاربة الإرهاب كأولوية بموازاة العمل على المسار السياسي، لكن تركيا التي أقرت بأن “داعش” و”النصرة” تنظيمين إرهابيين، كان لها تحفّظ بشأن بقية الفصائل المقاتلة وعلى رأسها “أحرار الشام” الذي يعتبر ثاني تنظيم من حيث القوة بعد “النصرة” في الشمال السوري، وتعمل على فصل المجموعات الإخوانية عن الوهابية فيه لضمها إلى “درع الفرات” قبل السماح بمحاربته.
وواهم من يعتقد أن تركيا ساهمت في الانتصار الذي تحقق في حلب كما يقول البعض، لأنها لم تدعم الإرهابيين بالسلاح والتزمت الحياد، والحقيقة أنه لم يكن في مقدور أنقرة ذلك، لأن الجيش العربي السوري وحلفائه حاصروا حلب الشرقية من كل جهة، فكان مستحيلا تمرير الدعم للتكفيريين، كما وأن تخلي تركيا عن حلب مقابل محاربة الأكراد في الشمال كان هدية قدّمت لأنقرة مقابل غلق حدودها في وجه تدفق الإرهابيين والسلاح، وهو ما لم تفعله لأنها استمرت في عهرها القديم في إدلب، كما وأنه لم يكن بمقدور تركيا عرقلة تحرير حلب عسكريا في الباب مثلا كما يروج البعض، فقد رأينا الرسالة الجوية السورية التي أدت إلى قتل ثلاث ضباط أتراك وجرح 9 آخرين، وإعلان دمشق استعدادها للحرب في حال تجاوزت أنقرة الحدود.
لكن وهذا هو المهم، فتركيا لا ترى نفسها في تحالف عسكري استراتيجي مع موسكو وطهران لمحاربة الإرهاب بسبب عدم قدرتها على الانسلاخ عن تحالفاتها القائمة مع واشنطن وحلفها الأطلسي بالإضافة لالتزاماتها مع الأدوات الإقليمية كـ”إسرائيل” و”السعودية” وقطر، ولا تريد توتير العلاقات معهم، وتفضل الاستمرار في محاربة الإرهاب على طريقتها بالتركيز على استهداف “الأكراد” و”داعش” اللتان تعتبرهما الخطر الداهم على أمنها القومي، من دون أن تقدم تنازلات تذكر بشأن الأمن القومي السوري أو الإيراني، وتفضّل التعاون الأمني في مجال الاستخبارات مع موسكو بدل التورط معها في الشق العسكري.
وفي الشق السياسي، ترى أنقرة أنه من الضروري إعلان وقف إطلاق النار في كافة التراب السوري مع استثناء “داعش” والنصرة”، كشرط ضروري للتحضير لاجتماع أستانا بكازخستان الذي يفترض أن يضم تمثيلا موحدا لكافة المعارضات والحكومة السورية، والتي تراه مناسبة لترجيح كفة أداتها الإخونجية للنفاذ إلى التركيبة السياسية المستقبلية في سورية والتأثير عليها في الوجهة التي تخدم مصالحها ومصالح أسيادها.. فهل تسلم لها “السعودية” بذلك؟.. لا أعتقد، وقد تمارس ضغوطا على جماعاتها لكي لا تحضر اجتماع كازخستان.
*** / ***
لكن وهذا هو المستجد الذي شكل مفاجأة من العيار الثقيل، فوزير خارجية تركيا وفي إطار الحديث عن وقف إطلاق النار في سورية، اشترط أن يشمل ذلك حزب الله وفصائل المقاومة الشعبية الداعمة للجيش العربي السوري في حربه ضد الإرهاب، وفي المقابل، لا تعتبر أنقرة “درع الفرات” المُشكُل من عناصر إرهابية متطرفة معنيّ بوقف إطلاق النار، ما دامت تراهن على ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال هذه القوات المتطرفة التي تسعى لقضم المزيد من الأرض السورية لاستكمال مساحة المنطقة الآمنة من جهة، وتطهيرها من العنصر الكردي من جهة أخرى لإجهاض مشروع الكيان المستقل على حدودها الجنوبية.
إلى هنا تبدو الأمور مفهومة والخلافات القائمة ثابتة، والرهان على انخراط تركيا في تحالف عسكري لمحاربة الإرهاب مع روسيا وإيران هو ضرب من الوهم كما كنا نتوقع ولا نزال، لأن تركيا لا تستطيع الانعطاف 180 درجة نحو روسيا ومحور المقاومة، الأمر الذي ستعتبره واشنطن وحلفها الأطلسي تمرّدا غير مقبول، قد يكون له تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار في الداخل التركي، لأنه إذا كان أردوغان قرر التقارب من الروس لمساعدته على محاربة الأكراد في سورية، فإن الولايات المتحدة تلقّفت الأكراد لتستعملهم كسلاح لتخريب الوضع في تركيا وتقسيمها في حال تجاوز السلطان أردوغان الخطوط الحمراء المرسومة له بدقة.. فأين يذهب أردوغان من هنا؟..
لكن ما ليس مفهوما بالمطلق، هو أن يطالب وزير خارجية تركيا من نظرائه في الاجتماع بقطع الدعم العسكري عن حزب الله مقابل انخراط تركيا في الحرب على “داعش” و”النصرة” دون بقية الفصائل الأخرى التي لا يزال هناك خلاف حول تصنيفها..
والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: – ما علاقة الدعم الذي تقدمه إيران وروسيا لحزب الله في مواجهة “إسرائيل” بمحاربة الإرهاب في سورية؟..
هذا يعني ببساطة، أن تركيا كانت حاضرة في الاجتماع أصالة عن نفسها ونيابة عن “إسرائيل” الغائب الحاضر في لقاء موسكو، وهو ما يعني إن الاجتماع كان رباعيا لا ثلاثيا، وكانت “إسرائيل” في صلب جدول الأعمال ضمنيا، ما يؤكد للمرة الألف أن الحرب التي أعلنت ضد سورية كانت بسبب “إسرائيل”، وأن السلام لن يعرف طريقه إلى هذا البلد العربي الممانع والمقاوم إلا إذا ضمنت “إسرائيل” أمنها من خلال قطع الدعم العسكري عن حزب الله ومنع إيران من الوصول إلى حدود الجولان.. وهذا ما أعلنته تل أبيب صراحة بعد تحرير حلب، وهذا هو معنى قول واشنطن وحلفائها الأوروبيين أن تحرير حلب لن ينهي الحرب في سورية.
موسكو كما أنقرة تجاهلتا الطرح التركي وكأنه لم يكن باعتباره خارج الموضوع والسياق، وأن المقايضة التي حاولت فرضها أنقرة مرفوضة جملة وتفصيلا لأنها تدخل في إطار ازدواجية المعايير كما أوضح الوزير لافروف.
وأمام هذا التطور، لم تجد تركيا بدا من التذكير أن سياستها تجاه مصير الرئيس الأسد لم تتغير، وأن روسيا تتفهم الموقف التركي، وأن ما حصل هو تغيير في الأولويات فقط، أي في التكتيك لا في الإستراتيجيا، بحيث لا يتم الحديث عن مصير الأسد في هذه المرحلة الحساسة التي يجب أن تقتصر على أولوية محاربة الإرهاب وإعلان الهدنة على كامل التراب السوري وانضاج الظروف الملائمة لعقد لقاء تمهيدي في أستانا بين المعارضة والحكومة السورية لوضع خارطة طريق للحل السياسي، والذي لا يجب أن يكون بديلا عن مؤتمر جنيف وقرارات الشرعية الدولية، كما لا يجب أن يستثني الولايات المتحدة من المشاركة في الحل.
وبالفعل، هذا ما أعلنه الوزير كيري خلال اتصاله بالوزير لافروف عقب انتهاء الاجتماع، حيث عبر له عن عدم رغبة بلاده بإقصاء واشنطن عن المسار السياسي، وأن اجتماع المعارضة في كازخستان لن يكون بديلا عن لقاءات جنيف أو غيرها، وأن روسيا لا ترى بديلا عن مظلة الأمم المتحدة للحل في سورية.
وتأجيل مناقشة مصير الرئيس الأسد هي المسألة الوحيدة التي اعتبرتها إيران نقطة تحول في التطورات السياسية للتحضير لأرضية الحل السياسي دون شروط مسبقة من قبل ما يسمى بـ”المعارضة” وداعميها الإقليميين.. لكن في العمق، لا شيئ تغيّر، ولا شيئ يُبشر بقرب نضوج الظروف لحل سياسي يصب في مصلحة السوريين في المدى المنظور.
والسؤال الذي يفرض نفسه إزاء هذه التطورات هو: – هل تتراجع موسكو عن قرار تصعيد الحرب مع الإرهاب الذي اتخذه الرئيس بوتين في لحظة غضب عقب تلقيه نبأ اغتيال سفيره في أنقرة، وتركز على مسألة الهدنة والمسار السياسي بما لا يجلب على روسيا المزيد من التعقيدات والمتاعب؟..
هذه النقطة تشكل مركز الاختلاف ولا أقول الخلاف بين إيران وروسيا، فإيران مقتنعة بأن رهان موسكو على أنقرة في محاربة الإرهاب رهان في غير محله بسبب ارتباط تركيا بواشنطن وحلفها الأطلسي من جهة، والمسألة الثانية أن إيران وحلفائها يرون في محاربة الإرهاب أولوية الأولويات، في ما روسيا تسعى من خلال الحل السياسي إلى توفير الجهد والوقت، واختزال المسافات بدل الغرق عميقا في حرب استنزاف قد تكون بلا نهاية، لكنها تدرك أن أي حل سياسي في سورية من خلال إشراك واشنطن وحلفائها لن يعيد سورية كما كان عليه الحال من قبل، ورهانها على تركيا قطعا لن يفضي إلى تعديل موازين القوى السياسية ما دامت واشنطن لا تزال تصر على أن أوراق الحل والعقد في سورية بيدها لا بيد تركيا التي هي مجرد أداة من أدواتها.
والمعضلة تكمن في أن الرؤية الروسية تنطلق من قناعة تقول، إن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تعطي أكلها من دون تعاون دولي واسع، وبوتين يعتقد أن مثل هذا التعاون قد يكون متاحا مع مجيء ترامب إلى سدة الرئاسة، لكنه لا يزال غير متأكد من نوايا فريق عمله حتى الآن، ويعلم أن ترامب سيعتمد على سياسة كيسنجر التي تقول بضرورة دق إسفين بين روسيا والصين من خلال التقارب مع موسكو وإعلان العداء مع بكين من مدخل دعم استقلال تايوان، ونفس الإستراتيجية سيعتمدها تجاه إيران بمحاولة التقارب مع سورية لدق إسفين بين دمشق وطهران.. وهذا هو جوهر السياسة البريطانية القديمة التي كانت تقوم على مبدأ فرق تسد.
أما إيران، فترى أنه يجب التركيز على دحر الإرهاب في سورية والعراق دون انتظار انخراط داعميه في محاربته، وأن الوقت كفيل بقلب الأولويات وتغيير السياسات، بدليل أن الإرهاب أصبح اليوم يضرب في كل مكان من العالم، وبدأت المؤشرات تؤكد انقلابه على داعميه، وأوروبا ستعرف انقلابات سياسية دراماتيكية بسبب دعم الحكومات القائمة للإرهاب، وشعوبها ستعاقبها في صناديق الاقتراع، وبالتالي، ستكون الحكومات القادمة مضطرة للتعاون في محاربة الإرهاب حماية لأمن شعوبها التي أصبحت تذبح بسبب سياسات أمريكا الخاطئة.
الرؤية الإيرانية رؤية دقيقة وموضوعية، لكنها تتطلب قليلا من الصبر وعدم تقديم تنازلات لا داعي لها في سورية، ما دام الغرب سيسارع لخطب ود روسيا لمحاربة الإرهاب في المنطقة بعد أن وصل إلى عقر داره، وروسيا مطالبة بإعطاء النموذج من خلال تحقيق النجاح في سحقه في سورية كما فعلت في الشيشان.
أما تركيا، فكل المؤشرات تؤكد أنها ذاهبة بسرعة نحو الهاوية، بعد أن دخلت في عهد جديد من الاضطرابات السياسية والتفجيرات الإرهابية وبدأت الحرب الأهلية تطل برأسها من نافذة سورية، وتصعيد أردوغان للحرب ضد “داعش” والأكراد في سورية لن يساعده على ترحيل أزماته الداخلية التي تنذر بانفجار شعبي قادم لا محالة، بسبب الظلم والطغيان وانتهاك الحقوق والحريات، وطموحات أردوغان الشخصية للاستئثار بالسلطة في الداخل، ومحاولة فرض نفوذ بلاده على المنطقة العربية بحذاء إخوان “إسرائيل” وأدوات الأطلسي..
هذه مُقدّمات موضوعية لنتائج كارثية قادمة نراها رؤية العين.. هذا ما تقوله دروس التاريخ وتؤكده سنن الله في الخلق.
*** / ***
وفي ما له علاقة باغتيال السفير الروسي في أنقرة، وكما توقعنا في مقالتنا السابقة، فقد سارع وزير خارجية تركيا وقبل حتى أن يبدأ التحقيق، إلى الاتصال بالوزير جون كيري ليبلغه أن لدى أنقرة معطيات تؤكد وقوف التنظيم الموازي التابع لفتح الله غولن وراء عملية الاغتيال، وهو ما يؤشر إلى رغبة أردوغان استثمار الحادث الإرهابي لإجراء تغييرات جذرية في الداخل التركي كما فعل بعد الانقلاب العسكري الفاشل.. وبذلك يكون أردوغان كمن يخرب بيته بيده ويعجّل بنهايته السياسية ونهاية عهد الإخوان.
وواضح أن الرسالة التي أرادت تركيا إبلاغها لواشنطن تقول، أن تركيا ستعمل على توجيه الاتهام السياسي في هذا الاتجاه، ولن تسمح بالكشف عن الفاعلين الحقيقيين الذين يقفون وراء العملية الإرهابية الجبانة، لكن اسمحوا لنا باستغلال الحادث كما نريد ولا تنتقدونا كي يصدقنا الشعب التركي.
لكن ما لم تكن تتوقعه حكومة أردوغان، هو ما نشرته الصحافة التركية صبيحة الأربعاء حول هوية القاتل وانتمائه، حيث تبين أن القاتل محل ثقة أردوغان، وأنه تولى حراسته الشخصية خلال 8 مهمات حساسة بعد الانقلاب، وأظهر إخلاصا للسلطان جعله من رجاله المؤتمنين بحيث لا يشك أحد في ولائه (؟؟؟).
وهذا هو اللغز المحير في العملية العقدة التي على موسكو تفكيكها.. نقول هذا لأن العمليات الإرهابية الاحترافية من هذا النوع، تشبه إلى حد بعيد البصلة، كلما نزعت طبقة اكتشفت طبقة أخرى تحتها، ولا يمكن الوصول إلى لبها إلا بنزع جميع طبقاتها، وهذا عمل يتطلب الكثير من البحث والتحقيق وسنوات من الجهد الذي قد ينتهي إلى الفشل..
وحتى عندما تعرف الحقيقة، فهناك حدود وسقوف يقف عندها الجميع مخافة الأسوأ، لأنه ليس في مصلحة الشعوب معرفة الحقيقة لما قد تؤدي إليه من تصعيد وحروب في حال كانت واشنطن وحلفها الأطلسي و”إسرائيل” هم من يقفون وراء العملية كما نعتقد بحكم أنهم المستفيدين من تخريب العلاقة التركية الروسية، وإرهاب بوتين للخروج من سورية، وإجهاض كل محاولة للاستفراد بالحل السياسي في سورية بعيدا عن المظلة الأمريكية.
بانوراما الشرق الاوسط