السيمر / الأربعاء 19 . 04 . 2017
صالح الطائي
قتادة بن دعامة السدوسي؛ أحد رجال الحديث الكبار؛ الذين اختلف العلماء في توثيقهم بين مادح وذام. وصفه شمس الدين الذهبي بأنه: “من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ”(1). وقال الإمام أحمد بن حنبل: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه، قُرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها(2).
وقد أسهب المؤرخون في الحديث عن فضائله ولاسيما ملكة الحفظ لديه، إذ كان أوحد زمانه! ومن حقهم أن يفخروا بذلك
ولكننا نجد رواية عن خالد بن قيس، قال فيها: قال قتادة ما نسيت شيئا، ثم قال يا غلام: ناولني نعلي، قال غلامه: نعلك في رجلك(3). وهي حالة تبدو في ظاهرها بعيدة عن الحفظ والتذكر، هذه الحادثة كان من الممكن تجاوزها لو كانت وحيدة دون ما يعضدها ويدعمها، لكن قيام ياقوت الحموي بالنقل عن الشعبي بأنه وصف قتادة بقوله: “حاطب ليل”(4) وحاطب الليل مثلما هو معروف لا يميز بين العصا والأفعى، زاد الشكوك حول أقوال المديح التي كالوها إلى قتادة.
فضلا عن ذلك، أُتُهِم قتادة بأنه مدلس، قال يحيى بن سعيد القطان: قتادة مدلس، دلس في الحديث(5). وهذا دعم أقوال التوهين، فبدا قتادة من خلالها ضعيفا، فكيف يمكن أن نوازن بين تلك الأقوال؟ والكل يعرف أن قتادة أحد المكثرين، وقد حفظ الكثير من السنة النبوية، وحدث بها، فحدث عنه الكثير من رجال الحديث.
هل نترك ما عنده ونستغني عنه وفيه الكثير من النوادر؟
أم نأخذ بما جاء به على علاته، ونقبله كيفما يكون؟
وكيف نقنع المتزمتين المتشددين؛ وهم الذين وهنّوا، وضعفّوا الكثير من حفظة الحديث، وتركوا رواياتهم وأسقطوها، وحرقوا الكتب التي تحتويها لأسباب لا تستوجب ذلك، مثل قولهم: فلان ثقة، مأمون، ثبت، صحيح الحديث؛ ولكن فيه بعض التشيع، لذا يترك حديثه!
لقد أوقعت هذه الإشكالية الكثير من الجفاء بين الفرق الإسلامية، ودفعت بعضهم إلى التزمت القبيح دون اهتمام لما يسببه ذلك من ضياع لأحاديث مهمة وخطيرة، تفَّرد بها بعض من لم ينالوا حظوة عند رجال الجرح والتعديل.
وعجيب كيف أن التشدد المقيت، أدى إلى ضياع جزءً مهما من السنة النبوية، وهناك قاعدة استنبطها الإمام شمس الدين الذهبي، لو عملوا بها ما كانت أمتنا اليوم لتعيش مشروع الانحدار والانهيار والتفكك والضياع.
هذه القاعدة قالها الذهبي بخصوص قتادة نفسه دون غيره، حيث قال: “لعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة، يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حَكَم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه ووروعه وإتباعه، يغفر له الله”(6).
وأنا واقعا أعجبت بشدة بهذا القول، وما فيه من روح التسامح والبساطة والقبول، لكن لماذا مع قتادة وحده؟ لماذا أهملوا هذه القاعدة بما فيهم الذهبي نفسه عند تعاملهم مع الآخرين؟ وهناك من هم أحوج إليها من قتادة!
وأخيرا ألا ترون أننا الآن بحاجة أكثر من ماسة لتفعيل هذه القاعدة؟، عسى أن تسهم الأحاديث التي ستمر من خلالها في تخفيف أزمتنا، وتقريبنا من بعضنا، أم أن هناك من سينبري لتكفيري لأن رفعت لواء مثل هذه الدعوة في زمن التناحر والتباغض؟
الهوامش
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء ج6/ص90
(2) المصدر نفسه، ج6/95.
(3) الحموي، معجم الأدباء، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ج5/ص2234.
(4) المصدر نفسه، ج5/ص2233.
(5) ابن حجر، تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، ج1/ص43.
(6) ينظر: سير أعلام النبلاء، ج6/ص94. ترجمة: 746.