السيمر / الاثنين 05 . 06 . 2017
ضياء الشكرجي
هذه هي الحلقة التاسعة والتسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل».
مخالفة الأحكام الشرعية طاعة لله يثاب عليها مرتكبها
مقالة نشرت باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).
قبل كل شيء أقول إني أحترم كل أصحاب العقائد، إذا توخوا طلب الحقيقة، واعتمدوا المنهج العقلي، وابتعدوا عن دعوى احتكار الحقيقة، سواء كان هؤلاء دينيين، أو ملحدين، أو إلهيين لادينيين، أو لاأدريين، فالمهم أن يكونوا عقليين أو لا أقل عقلانيين، وأن يكونوا إنسانيين، فهذه تمثل عندي القاعدة التي ألتقي عليها مع الآخر، سواء الموافق أو المخالف، لما أذهب إليه من عقيدة. فإني لا أهتم بمدى التقائي مع الآخر في النتائج، بقدر اهتمامي بما نلتقي عليه من منطلقات.
بعد هذه المقدمة، أقول مع احترامي لإخوتي وأصدقائي وقرائي الملحدين، إني مؤمن بالله، موحد له، منزه إياه عما نسبت إليه الأديان الإبراهيمية الثلاثة وغيرها، مع احترامي كذلك لإخوتي وأصدقائي وقرائي عقلاء الدينيين، وإن قلوا، فهي أي أديانهم هذه، بتقديري أشركت به سبحانه، من حيث أرادت أن توحده، وعرضته عرضا لا ينسجم مع جماله وجلاله وعدله ورحمته، من حيث ادعت تسبيحه، أي نفي النقص عنه.
إن الأديان التوحيدية، والتي لم توحد الله، كما سيتبين، حق توحيده، جاءت لتحطم الأصنام، لكنها نصبت أصناما معنوية مكان تلك الأصنام المادية، أو بتعبير آخر أصناما مجازية مكان الأصنام الحقيقية، وكانت هذه الأصنام المعنوية البديلة أخطر على عقول الناس، لأن اكتشاف حقيقة أنها أصنام لا يتأتى إلا للقليلين، بعكس ما عليه الحال مع الأصنام الحقيقية. من هنا وبسبب تخبط هذه الأديان، حصلت ثنائية غريبة، هي إما الإيمان بالله وفقا للنموذج الديني، مهما غرق هذا النموذج في الخرافة، أو انتزع عن صورة الله كل أثر للرحمة، بل وحتى العدل والحكمة، ومهما عطل المؤمن عقله وأهانه واحتقره، والثنائية هذه التي أقصدها هي إما الإيمان الديني، وإما الإلحاد، أو لنقل إما الإلهية الدينية، وإما اللاإلهية، إما الإيمان الخرافي، وإما اللاإيمان، بحيث غفل أكثر الناس عن حقيقة وجود الخيار الثالث، هو الإلهية اللادينية، أي الإيمان العقلي، الذي يتخذ من الفلسفة أساسا له، فيفترق عن الدينيّين، الذين يتخذون الوحي والدين والنصوص المقدسة أساسا لفهم قضية الإيمان، وإن كان المنهج الفلسفي يلتقي على ثمة مساحة مع بعض الدينيين العقليين، كالمعتزلة وقسم من الشيعة الإمامية، هذا كمثال من الإسلام، ولكنه يفترق معهم، عندما يهجرون العقلية هاربين إلى التبريرية خوفا من (سوء العاقبة) بالارتداد، كما ويفترق عن الماديّين الذين يعالجون الميتافيزيقا على ضوء العلم، منكرين كون العقل يمثل مصدرا أساسيا للمعرفة الإنسانية، جنبا إلى جنب مع التجربة؛ هو يمثل القاعدة لها، وهي تسهم في تعضيده وتنميته.
لننظر لماذا أعتبر الدين، بما في ذلك الأديان التوحيدية، والإسلام على رأسها، لونا من الشرك والوثنية. يجب أن يكون واضحا أنه كما يكون السجود الحقيقي للصنم وثنية وشركا، فالسجود المجازي للدين والنبي والإمام والمرجع، وكذا السجود الضمني للفقه والفتوى وسيرة السلف موهوم القدسية، كل ذلك يعد وثنية وشركا، طبعا من حيث لا يقصدها ولا يشعر بها مزاولوها.
وكما يكون تحليل محرمات الله معصية له، يكون تحريم محللاته ومباحاته معصية، وكما يكون ترك واجبات الله وفروضه معصية لله، يكون إيجاب المرء، سواء على نفسه أو على غيره، وفرض أمر ما على أنه فرض إلهي، مما لم يوجبه الله ولم يفرضه، وعدّه من واجباته وفروضه، يمثل معصية كذلك، ويعتبر شركا من حيث أنه تشريع يتقاطع مع شرع الله، الذي ليس الوحي مصدره، بل عقل الإنسان، وضميره وإنسانيته، أو كما يعبر القرآن فطرته الإنسانية، التي فطره الله عليها، حين نفخ فيه من روحه، أيضا بحسب التعبير القرآني، حيث إن القرآن ككتاب مؤلَّف بشريا فيه من التألقات الراقية جدا، كما فيه الكثير مما يجلّ الله عنه، سواء على مستوى العقل، فيما هي الخرافة، أو على مستوى الروح، فيما هو التنافي مع البعد الإنساني، من خلال اعتماد العنف والقسوة وكراهة الآخر المخالف، ابتداءً من وصمه بالكفر والنفاق والضلال، وانتهاءً بالعقوبات الدنيوية، ومن ثم العقوبات الأخروية المتناهية في القسوة المرعبة.
أقول هذا وأعرف كل الإجابات والتأويلات، فإني لست غريبا عن عالم التفسير والتأويل والعقليات، وسائر علوم الإسلام، وسأتناول في مقالات مقبلة، إذا سنحت لي الفرصة في خضم انشغالاتي الأخرى، كل موارد الألق وموارد الضدّ من ذلك الألق، في هذا الكتاب الموسوم بالقرآن، الذي يكفيه أهمية أنه أثّر وما زال وسيبقى يؤثّر حتى أمد لا يعلم مداه إلا الله كل هذا التأثير، وإني أكاد أجزم، أن تأثيره وتأثير بقية ما يسمى بالكتب المقدسة المنسوبة إلى الله، وما هي من عند الله، سينفد يوما، وستحل محلها المعايير الإنسانية الصحيحة، وفق معايير الصواب الإنساني النسبي المتنامي أبدا نحو ما هو أصوب، في تحديد الصواب، من الخطأ بواسطة العقل الإنساني المُنمّى بالتجربة وعمق التأمل، وتحديد الحسن من السيئ بواسطة الضمير الإنساني عبر نموه المتعالي باتجاه المثل العليا التي تفرضه عليه فطرة الله التي فطره عليها. وهذان النموان الذهني والضميري يمثلان الكدح النسبي المتكامل أبدا نحو المطلق الكامل غير المتكامل سبحانه، وهذا يشمل كما ألمحت المؤمن اللاديني والملحد العقلاني الإنساني على حد سواء، فهما متآخيان في خط الإنسانية والعقلانية، وكادحان إلى الله، سواء عرفاه أو لم يعرفاه، فهو الغني عن تعرفهما عليه وإقرارهما بوجوده، يحب منهما الملحد والمؤمن على حد سواء، بمقدار ما يجسد كل منهما من إنسانيته، ويقترب بالتالي من المثل الأعلى، أي منه جلّ وعلا.
فإذا علمنا أن تشريعات القرآن أو تشريعات غيره من الكتب المقدسة، أو هكذا ينظر إليها أتباعها، هي ليست بتشريعات الله سبحانه، فبالتالي يكون على سبيل المثال أكل لحم الخنزير طاعة لله، وتكون العلاقة الجنسية بين امرأة ورجل بالتراضي وبدافع ذاتي من كل منهما من غير عقد شرعي، بل بعقد غير مكتوب ولا منطوق، وإنما مقصود بلسان الحال، تكون مثل هذه العلاقة طاعة لله. هذا طبعا بالنسبة لمن ثبت له عقلا ووجدانا أن الدين ليس وحي الله، وإنما هو اجتهاد بشري، واختلاق وابتداع، بقطع النظر عن فرض حسن نية المختلِق والمبتدِع أو سوء نيته، وكذلك بقطع النظر عن فرض سلامة عقله أو عدم سلامته. ففي الوقت الذي يقطع الإنسان أن الدين ليس من الله، وينزّه الله عما نسبت إليه الأديان، بل هو أي الدين ما هو إلا صنم نصبه بشر فعبدوه من دون الله؛ أقول متى ما قطع بذلك، والقطع حجة، كما يعبر علماء أصول الفقه، يكون لزاما عليه أن يطيع الله في معصية الدين، إذ لا طاعة للدين في معصية الديّان، حيث يتحول الدين عندها إلى مصداق للطاغوت، الذي يلتزم المؤمن بالله بالضرورة وبالتلازم بالكفر به، أي بالطاغوت المنعوت دينا، عملا بالنص القرآني الذي أصاب في هذا الموضع كبد الصواب، فنفى نفسه بقوله «فَمَن يَّكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ، فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى، لَا انفِصامَ لَها، وَاللهُ سَميعٌ عَليمٌ»، بمعنى كمصداق للمفهوم (فمن يكفر بالدين ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى)، كما يتحول الدين إلى عامل صَدّ عن سبيل الله، ويكون نِدّا يُتّخَذ رباً من دون الله، ويكون إثمه أكبر من نفعه، مما يوجب العقل اجتنابه، وكما توجب ذلك الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، حيث يقرر النص القرآني «يَسأَلونَكَ عَنِ الخمرِ وَالمَيسِرِ، قُل فيهِما إِثمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ، وَإِثمُهُما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما»، وبالتالي يكون كل ما ضرره أكبر من نفعه إثما، وعندها يصح القول تماما (يسألونك عن الدين، قل فيه إثم كبير ومنافع للناس، وإثمه أكبر من نفعه).
فالدين يقطع الأيدي، ويجلد، ويرجم حتى الموت، ويبيح الزواج بالطفلة، ويعامل الآخر المغاير بالعقيدة بالكراهة والاحتقار، ويحتقر المرأة، ويشرع للرقّ، ويحارب المغايرين في الدين ليُكرههم على ترك دينهم واعتناقه، ويقتل المرتد، ويعتبر المغاير الديني إنسانا – ولا أقول مواطنا – من الدرجة الثانية أو العاشرة، فيُنجِّسه أو يقلِّل من كرامته الإنسانية، بوضعه في خانة الذميين، أو يبيح دمه، أو لا أقل يرفع الحرمة عن حياته وماله وسمعته، ويُصدر حكم الإعدام على الكتب التي يخاف منها على مُسلَّماته، فينعتها بكتب الضلال، ويُفتي فقهاؤه بحرمة قراءتها، وبقتل مؤلفيها (سلمان رشدي مثالا)، أو التفريق بينهم وبين زوجاتهم (نصر حامد أبو زيد مثالا)، ويفرض طقوسا وثنية مطلاة بطلاء التوحيد، ويعطل العقول، ويأمر بالاتباع الأعمى، ويحكم على الناس بالحرق الأخروي الأبدي الموجع وجعا لا حد ولا أمد له، لا لشيء إلا بسبب عقائدهم التي غالبا ما تكون غير اختيارية. عندما نعلم إن الله أعظم وأجل وأرحم وأعدل وأحكم من أن يشرع مثل هذه التشريعات، فتكون هذه التشريعات بمثابة تشريع للطاغوت المتخذ ندا لله، والمعبود من دونه سبحانه، فلا بد من معصية الدين طاعة لله. فالإسلام أطاح باللات، فلا يجوز أن يكون هو اللات بدلا عنها، وأطاح بالعزى وهبل، فلا يجوز أن يكون هو العزى، وهو هبل، ونهى عن اتخاذ المسيح إلها، ولكن الكثير من المسلمين ألّهوا، تأليها خفيا، محمدا والقرآن والشريعة والصحابة والخلفاء والسلف الصالح وأئمة أهل البيت؛ ألّهوا محمدا تأليها خفيا، من موقع أن عدّه الإسلام ليس إلا بشرا وإلا عبدا لله من جهة، لكن جعل من جهة أخرى طاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله، وحبه حبا لله، وبغضه بغضا لله، بل امتد ذلك إلى ابنته وصهره ابن عمه وأسباطه، وعمل على تأكيد هذه الطاعة، أو قل العبادة لمحمد، فجعل حلاله حلالا أبديا إلى يوم القيامة، وحرامه حراما أبديا إلى يوم القيامة، ثم سدّ الطريق أمام أي دعوى لنبوة بعده، فجعله خاتم الأنبياء، وفي نفس الوقت جعله سيد الرسل، وأشرف خلق الله أجمعين، وحرّم الزواج من زوجاته من بعده. إنه تأليه لمحمد، وتصنيم للإسلام، وتوثين للقرآن، واستبدال جاهلية بجاهلية أخطر وأدوم، ووثنية ظاهرة بوثنية باطنة. لكن عقل الإنسان وضميره المتناميين سيحطم يوما كل تلك الأصنام والأوثان، ويهجر جاهلية الأديان إلى إيمان عقلي، أو إلحاد إنساني، ويخرج من ظلمات الدين والخرافة إلى نور العقل والضمير الإنسانيين، ويزداد تجسيدا لإنسانيته، وقربا من الله خالقه وربه وحبيبه.
06/08/2009