السيمر / الثلاثاء 12 . 09 . 2017
جاسم العايف
يلاحظ ثمة بعض الغموض الواضح، في (قصيدة النثر) العراقية، ونرى أنها – قصيدة النثر- لا تلتقط توجهات وأنفاس قصيدة الشعر الحر حتى في نماذجها الأكثر حداثة، وهي مع هذا – جنس شعري – من حقه أن يتواجد ويعيش زهوه الشعري طالما امتلك (القدرة والإمكانية والتوصيل) ،والمسألة الأساسية تكمن هنا، فيما احسب،أي في مفاهيم و مستوى (القدرة والإمكانية والتوصيل) ذاتهم، وفي فضاءات التحكم بهم،وكيفية الاستفادة منهم ،عبر الإمكانات الشخصية، الثقافية-الفنية- الإبداعية الخاصة ، بـ(شاعر) قصيدة النثر. يرى بعض كتاب (قصيدة النثر العراقية)،تحديداً، أنها ولدت مصحوبة ببسالتها وعنفوانها وتأثيراتها على جسد العالم ورؤاه، وهي جاءت قبل ابتكار وسائل التدوين، ويرجعون ذلك إلى إن لأدب الرافديني كان يتداول شفاهاً قبل اختراع الكتابة، ومع احترامنا وتقديرنا للإخلاص والحماس الذي عليه هذه الرؤى والطروحات ، فأن ذلك لا يتحقق بها وبما ذهبت إليه فقط ، إذ لابد أن ترافقه دراسات علمية موثقة ، تعمل عليها مراكز بحثية متخصصة و ترتبط بأحدث المكتشفات العلمية التي هي من شأن علماء (الاركيولوجيا) و كشوفاتهم وقرائنهم التي لا تدخل قطعاً ضمن التمنيات الصادقة والنوايا الحسنة المخلصة ، حيث أن كل الشعوب لديها في تراثها ما تفخر به ، وما تعده إضافة إلى سفر الثقافة الإنسانية،في كل مكان وزمان ، ولا احد من حقه منازعتها على ذلك أو التشكيك بأطروحاتها لأن معطيات الحضارة الإنسانية ليست حكراً على شعب دون آخر. يؤكد العالم الجليل (طه باقر) إن منشأ (الشعر) في أدب وحضارة وادي الرافدين من الغناء والقصائد الشعبية الإنشادية ويضيف: “الشعر في أدب وادي الرافدين القديم ، سومرياً كان أم بابلياً ، مثل أنماط الشعر الأخرى عند الأمم،كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف فهو يتألف من أبيات ، قوام كل بيت من مصراعين (الصدر والعجز) وكان موزوناً ولكنه غير مقفى ، أي انه على غرار ما يسمى بالشعر (المرسل) وخير ما يمثله في الأدب الانكليزي مسرحيات شكسبير” ، كما انه يشير إلى بحث مهم منشور في باريس عام 1958 في كتاب المؤتمر السابع للمستشرقين من جماعة ” “ثورو دانجان”(1 ) تم التطرق فيه بوضوح واستفاضة إلى أوزان الشعر البابلي، من هنا فأن الشعر البابلي والسومري لا ينتمي لقصيدة النثر الحالية أو السابقة، إلا عبر ترجمته إلى اللغات الأخرى منثوراً وليس موزوناً بسبب صعوبات إيجاد الأوزان الشعرية المناسبة لذلك، وهو ما يحصل حالياً في ترجمة الشعر من أية لغة إلى أخرى ومنها اللغة العربية .بعض الكتاب يعيد( قصيدة النثر) إلى حضن التراث النثري العربي،وهو ما يمكن أن يعد وكأنها” لقيط” لابد لها من أن تحتمي بـ”أبٍ” للاعتراف بشرعيتها، من اجل أن يكون لها تراث يعتد به ولا تغدو هجيناً وهذه النظرة هي انتقاص من حتمية التطور الفني والأدبي والثقافي لأي امة من الأمم ومنها العربية، عندما يتم إعادة التطور الحاصل حضارياً إلى الماضي حصرياً. المراقب المتأمّل للمشهد الشعري العراقي، يجده اليوم ضاجاً بأصوات كتاب (قصيدة النثر) الذين أضحوا يشغلون مساحة واسعة ، من فضاءات الصفحات الأدبية ، في المجلات والصحف وكذلك في أغلب المهرجانات الأدبية-الثقافية المتعددة والمجلات المتخصصة شعرياً بنتاجاتهم، فضلاً عن الإصدارات الخاصة التي يعمد إليها بعضهم في طبع مجاميعهم وإشهارها على نفقاتهم الخاصة ، بعضها بطريقة الاستنساخ ، متحملين مكابدات أُخَر غير مكابدات الحياة المعيشية الراهنة وبهذا تكون قصيدة النثر ، ” سيدة المشهد” ، تأكيداً في إن “الشعر يحتفظ بموقع مركزي في الثقافة الإنسانية ، وقد انتعش في أقدم الحضارات البشرية، وكان عنصراً بارزاً في كل الثقافات حتى وقتنا الحاضر “(2. يلاحظ أن بعض نتاجات (قصيدة النثر) قد نحت منحىً شكلانياً محضاً ، وان قسماً منها قد أجهد نفسه على أن لا يقول شيئاً ما من خلال تجاهل (فن التوصيل) لإيصال المعنى، أو عدم القدرة على إدراكه. يحسب هنا الإخلاص المؤكد لبعض أو غالبية شعراء قصيدة النثر في الابتعاد عن صيغ المدائح والتكسب الرخيص لكل ما تفرضه وتعمل عليه أو تتبناه السلطات الرسمية ، التي عملت على تعميم (العسكرتاريا) وقيمها في كل منافذ الحياة العراقية، ومنها (الشعر) بالذات ، وأما ما هو جديد بعد هزيمة التوجهات الثقافية السلطوية السابقة ، فهو السعي لخلق اسيجة فاصلة بين الحياة والفن بكل تجسداته وتجلياته ، ومحاصرته وتوسيع الـ”محرمات” من خلال احتكار الرؤى وتعميم الظلمات والمناحات، وجعلها سمة للحياة العراقية برداء (المقدس) والنيابة عنه، للتحكم الدنيوي النفعي، بشكل الحياة الراهنة وصيرورتها المستقبلية ، بعد عقود من الكبت والمهانة والدكتاتوريات التي صنعتها (الآيديلوجيات) المغلقة، أياً كانت، وبعض تلفيقاتها اليومية – التاريخية. يمكن- وبتواضعٍ- وضع سمات عامة مشتركة لما ينشر لغالبية قصائد النثر،حالياً، منها فقدان وحدة الثيمة في القصيدة الواحدة، ترافقها أقصى حالات التجريد اللغوي ، والتشظي الموضوعي، الذي يدفع إلى التباسات كثيرة، من بينها انعدام الجهاز المفهومي للشاعر ، وكذلك اعتماد المفارقات، في الصور كمهيمنات قارة في اغلب قصائد النثر، مع افتعال الغموض، وانغلاق النصوص على نفسها وسكوتها عما يجري حولها، دون حاجة فنية أو فكرية لذلك، فتتمّ التضحية بالمعنى تحت سطوة النزوع إلى الإغراب، وبما إن القارئ على وفق المعطيات الحديثة يستخدم وعيه الثقافي وتجربته الزمكانية للامساك بالنص وتحكمه بدلالات إنتاجه للمعنى بصفته “مرسلاً إليه”فإن لحظة الإمساك تلك تـأتي عبر الـ”كلمات” التي تؤسس “المعنى” كمعطى من “مرسل” مجهول – معلوم، في ضوء طبيعة القراءة التي تقود إلى أن “الحقيقة الثابتة للنص، تتجسد بالكلمات” التي تنتج المعنى، ويُرحل ذلك تجاه ، القارئ ضمنياً، الذي سيجد نفسه في الغالب تائهاً في ميدان مجهول غير واضح الحدود، ميدان يتحسر المرء أمامه على طرق الشعر الجميلة المحددة المعالم، والأزمة هنا في أساسها ليس مردها (قصيدة النثر) ذاتها طبعاً، بل الأزمة تكمن في مَنْ يتعاطاها ويتعامل معها بسهولة ولا مبالاة، ومن المعروف أن قصيدة النثر هي خلاصة لمكونات ثقافية عالية المستوى متعددة التوجهات، ترافقها حالات ونتاجات كتابية متعددة المنحى ذات أفق منفتح تجاه تجارب راسخة في هذا الاتجاه، وليس بداية لمن يهوى الكتابة فقط لكي تُلصق به صفة(شاعر) كوجاهة اجتماعية ليس إلا، هذا إذا كان (طريق الشعر) يقود في وضعنا الراهن العراقي خاصة، والعربي عموماً نحو الوجاهة.
* جزء مستل من بحث ، لمناسبة الملتقى الثالث لقصيدة النثر في البصرة.
(1 ) ) ملحمة كلكامش- وزارة الثقافة – بغداد ط3-
(2 ) ) مقدمة في الشعر – جاكوب كرج – ترجمة : رياض عبد الواحد- الموسوعة الثقافية – بغداد.