أخبار عاجلة
الرئيسية / اصدارات جديدة / روائح التوابل .. وتلك الموانئ

روائح التوابل .. وتلك الموانئ

السيمر / الخميس 22 . 02 . 2018

جاسم العايف *

يُعرّف الباحث (إحسان وفيق السامرائي) كتابه ” عبير التوابل.. والموانئ البعيدة ” بصفته :” لوحات عن الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والتاريخية في البصرة من القرن العشرين حتى سنة 1979″. ما يحسب للمؤلف تناوله لأحداث ووقائع وسيرة المدينة ومجتمعها ، ولم يتجاهل أو يتغاضى عن سكانها وميزاتهم ، مهما كانوا ،لأن هذا التغاضي يعني القفز على تاريخ المدينة وتجاهل سماتها و فراداتها التي تميزها عن غيرها ، فالمدن بـ” ناسِها”، والبصرة مرّ بها أقوام عدة واختلطت على تربتها أجناس بشرية شتى ،لكن كل مَنْ حلّ فيها نسي ماضيه وامتزج بثقافاتها وشخصيتها. يعتمد المؤلف في كتابه على مئات المصادر التاريخية والحديثة من كتب وصحف ومستندات ، ووثائق حكومية منسية ، ومذكرات خاصة و مرويات شفاهية، ومقابلات شخصية ، وصور فوتوغرافية نادرة عن المدينة وبعض شخصياتها المهنية – الفنية – الثقافية – السياسية – الشعبية ، وعمران المدينة، وآثارها، وملاحظات عدة عن أزمان عاشها في البصرة وتشكل وعيه الاجتماعي- الفني فيها، معتمداً مصادر لا يمكن عدها ، لأنه وزعها جميعاً في متن الكتاب ، دون أن يضع له فهرساً خاصاً بها ليسهل الرجوع إليها، ولم يقسمه على فصول جامعة أو منفصلة تحت موضوع واحد أو متقارب ، بل أورد كل ما أتاحت له المصادر التي حصل عليها واستخدمها مختلطة بعضها بالبعض الآخر ، و أشارَ إلى انه حافظ في نقله عن الصحف والبيانات المخطوطة والمطبوعة والمجلات القديمة والسجلات الرسمية على: ” الأغلاط النحوية والإملائية كما وردت ، وتركها على حالتها دون تصحيح كما لم يسعَ لتعديل بعض صياغاتها وألفاظها للحفاظ على الأمانة التاريخية”. وينقل عن الرحالة العرب والأجانب الذين مروا بها ما كتبوه عنها، ويثبت أسماء رؤساء بلدية البصرة في العهد العثماني ، ويقتبس( تلغرافات) حول ذلك ، ثم ينتقل إلى حدود(ولاية البصرة) بألويتها وأقضيتها ونواحيها التي رسمتها الإمبراطورية العثمانية، قبل أن تتهاوى، وكان الأفضل أن يبدأ بالثانية ، أي مكونات وحدود (ولاية البصرة) العثمانية لا ببلديتها المحلية. كتاب الأستاذ (السامرائي) الذي استغرق العمل فيه أكثر من خمس سنوات في جمع المصادر والاطلاع عليها وتمحيصها ومقارنتها مع غيرها، ثم اعتمادها والكتابة عنها، لهو جهد يتجاوز طاقة وإمكانات الشخص الواحد ، وهو من عمل لجان متخصصة في جوانب متعددة من الحياة البصرية وتاريخها . ونرى إن هذا الجهد والدأب قد شابه بعض النواقص التي لا نعتقد أن المؤلف يجهلها وربما فاتته سهواً ، ولابد من ذكر بعض الملاحظات التي لا تبخس جهد المؤلف والكتاب. فمن خلال تعريفه ببعض مناطق البصرة ومنها (الشعيبة) مثلاً والتي تصفها(ليدي دراور) بـ” واحة تتلألأ ذرات الملح في إطرافها فيحسبها الثلج”، لا يتطرق إلى المعركة الضارية التي جرت فيها بين القوات البريطانية والمتطوعين العراقيين لقتالها على ارض ( الشعيبة) ذاتها خلال ثورة (العشرين) ،لكنه يتطرق لمقاومة عشائر (القرنة) للقوات البريطانية.وعند تناوله (شركة نفط البصرة) فأنه يتحدث عنها مفصلاً وتنقيباتها النفطية ومنجزاتها ومنها تطوير القطاع النفطي في البصرة و بناء مستشفى خاص بالعاملين فيها وكذلك بناء حي سكني لهم، وحتى مَنْ تعاقب على إدارتها من الانكليز والعراقيين، لكنه يهمل النضال المَطلبي والوطني- الديمقراطي ، الذي خاضه عمال الشركة ، عبر الإضرابات والأعتصامات العمالية المتتالية ، وتصدي السلطات الملكية لهم والمواجهات الشرسة بين عمال الشركة وقوات الشرطة ،والتي أدت لحضور (سعيد قزاز) وزير داخلية الحكم الملكي وفرضه الأحكام العرفية في المدينة. ويتناول النشاطات الثقافية والفنية في عموم مناطق البصرة بكل أقضيتها و مناطقها ، ولا يذكر محلة (الفيصلية – الجمهورية) وما فيها من حركة ثقافية – اجتماعية، و(الجمهورية) قدمت للبصرة والعراق عشرات الأسماء من الأدباء والفنانين والصحفيين والمثقفين والرياضيين والسياسيين بكل توجهاتهم العلمانية – الدينية ، نساءً ورجالاً. ويصف ما حدث يوم 14 تموز 1958 بالانقلاب العسكري تارةً و بـ(الحركة) ، تارةً أخرى – ص192 – 256 – و لم يتطرق لهذه السنوات التي منحت البصرة ، والعراق كله ، أبواباً متعددة من مختلف أنواع التحولات الاجتماعية والنشاطات التي لا عهد أو تراث للعراقيين بها، ومع السنوات ازدادت شراسة الخلافات بين القوى السياسية المؤتلفة ضمن ” جبهة الاتحاد الوطني”، قبل الثورة، مما سمح لبزوغ شراهة (العسكر) في الهيمنة والتحكم وسدة القرار. ويوثق لوصول المنفيين الأكراد من الاتحاد السوفيتي بحراً إلى ميناء البصرة والاحتفالات الجماهيرية التي جرت ترحيباً بعودتهم ، لكنه تجاوز المرحلة التي شهدت البصرة حراكاً سياسياً واسعاً ضد الحرب في كردستان والشعار الذي كان يغطي المدينة ،والعراق كله، وهو”الديمقراطية للعراق..والحكم الذاتي لكردستان” وسيق جراءه مئات البصريين إلى الاعتقال ،من قبل الدوائر الأمنية، وقبعوا فترات ، طويلة جداً ، في معتقلاتها. كما قدم جرداً مفصلاً عن أدباء وكتاب المدينة خلال عقود من السنوات مع سيرتهم ومؤلفاتهم وقد شمل ذلك أكثر من( 118 ) شخصية ثقافية وفنية وأدبية، من الجنسين، لكن فاته التوثيق لبعضهم ، ومنهم الكاتب والقاص والناقد والصحفي والمترجم “مصطفى عبود- أبو النور” والذي ترجم عشرات التراجم المتنوعة ، ونشرت في الصحف والمجلات العراقية – العربية، ومنها رواية “عاصفة الأوراق” لماركيز ، و”تحت أعواد المشنقة” ليوليوس فوتشك ،وغيرهما، ثم هربه من العراق ليتوفى في براغ، ولا الفنان والشاعر “محمد سعيد الصكار”، ومكتبه للخط والإعلان الواقع في (العشار) ، وفي تعداده لأدباء قضاء(أبو الخصيب) ، لم يذكر الشاعر “مصطفى عبد الله” ونشاطه الثقافي – الأدبي في المدينة منذ منتصف العقد الستيني لغاية مغادرته العراق نهاية عام 1978 ووفاته في المغرب عام 1989 وأصدرت وزارة الثقافة – بغداد مؤلفاته الكاملة التي جمعها و قدم لها الشاعر عبد الكريم كاصد.ولم يتناول نشاط بعض أدباء وكتاب البصرة وتجمعهم في مقهى (أبو مضر) أو ما اصطلح عليه شعبياً بمقهى (الدَكّة)، وقد شهد المقهى الكثير من المشاريع الفنية والنتاجات الثقافية – الأدبية التي انطلقت منه ، وتحقق بعضها ،ومنها (12 قصة) بحلقتيها ، لكنه يذكر الحلقة الثانية منها ، ويضيف إلى مَنْ ساهم فيها القاص الراحل ” كاظم الأحمدي” الذي لم يشترك في حلقتيها ، وفاتهُ أن الحلقة الثانية ساهم فيها (13) قاصاً لكنها حملت الاسم الأول أي (12) قصة وانسحب من المشاركة فيها ، لأسباب مختلفة: ” محمد خضير وعبد الصمد حسن ومحمد سعدون السباهي”، وشارك بدلاً عنهم: “خليل المياح ، وسلمان كاصد، وحسن موسى، وشاكر السكري”. وكذلك لا يؤرخ لمنجزات الشاعر “مهدي محمد علي” الذي له ثمانية دواوين شعرية ، إضافة لكتابه (البصرة جنة البستان) المعني بالبصرة ذاتها ، ولم يتطرق إلى القاص والروائي والناقد الراحل ” يعرب السعيدي ” ومساهماته الثقافية – الأدبية. و يذكر بتقدير عميق العديد من الساسة والشخصيات الاجتماعية والمهنية والثقافية والفنية والشعبية البصرية ، نساءً ورجالاً ، وينشر بعض نتاجات شعراء وشاعرات المدينة ، ويتحدث عنهم ، بكل احترام وتقدير. ويتناول مقتل (كاظم سعيد) عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي – اللجنة المركزية – في البصرة ، والذي أصابه سعار لا مثيل له ، في متابعة أعضاء وأصدقاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي، بطرفيه حينها ، (اللجنة المركزية والقيادة المركزية)، ووصل الأمر بكاظم سعيد أن ساهم بالتعاون مع الشرطة الأمنية في البصرة لنصب كمين للمناضل الشيوعي العنيد مهضوم الذكر والحقوق(كريم الاسدي) واغتياله بمنتهى الخسة والغدر في بساتين نظران – صبخة العرب.كم يتطرق المؤلف الى مقتل (كاظم سعيد) ويذكر أن مَنْ قتله (عبد الزهرة مزبان)، وكذلك قتلَ معه إسماعيل الرديني ،حينما حاول الرديني حماية صديقه كاظم سعيد، وان ” عبد الزهرة مزبان” هرب إلى مدينة العمارة ليموت فيها بعد فترة “لإصابته بمرض السرطان”!!. وأرى ضرورة التأكيد على أن (إسماعيل الرديني) لم يُقتل حينها ولم يكن مستهدفاً أساساً، بل أصيب عن طريق الخطأ بطلق ناري ، وتوفى بعد فترة في المستشفى، وان “عبد الزهرة مزبان” – عضو قيادة الخط الصدامي في القيادة المركزية – فعلاً واجه ” كاظم سعيد”، ليلاً في الشارع الذي يقع خلف شارع الوطني،واقتص منه ، وغادر المكان إلى سيارة خاصة ، كانت تنتظره ، وبعد فترة القي القبض عليه وأودع معتقلاً في “مديرية أمن البصرة” بمنطقة (الكزارة)، لكنه تمكن من الهرب مساء احد الأيام ، و انتقل أولاً إلى العمارة ثم إلى بغداد ، وتمت محاكمته غيابياً منتصف عام 1969 بتهمة ((قتل رجل الأمن كاظم سعيد)) حسب قرار الحكم المنشور في الجرائد اليومية ، ومنها جريدة (الثورة)، و التي نشرته على صفحتها السابعة أكثر من مرة، وصدر عليه ،غيابياً ، ((الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت))، من قبل محكمة الثورة، عندها غادر (عبد الزهرة مزبان) بغداد، إلى الموصل وفي نقطة تفتيش أمنية ، تم الشك بهويته ،المنتحلة، فألقي القبض عليه ، وقد حاولوا بشتى الوسائل معرفة هويته الفعلية واسمه الحقيقي لكنهم لم يحصلوا منه على شيء ما ، وأودع مؤقتاً في سجن الموصل ،تمهيداً لنقله إلى (بغداد) لغرض كشف هويته الفعلية، وبمساعدة بعض السجناء وبالتنسيق مع تنظيم ” القيادة المركزية ” استطاع الهرب ، ليلتحقَ بإحدى البؤر المسلحة في منطقة (الهدام) ، في اهوار العمارة ، ونتيجة خيانة ناقل الأرزاق ، تم مهاجمتهم من قبل سرية من الجيش و شرطة العمارة وأمنها ، وحدثت مصادمة شرسة بين الطرفين ، واستخدمت فيها أحدى (الحوامات العسكرية) ،وقد استشهد (عبد الزهرة مزبان) في تلك المصادمة المسلحة العنيفة ، وبندقيته في يده ، ولم ((يمت بالسرطان))، كما ورد في الصفحة (279). كما لا يتطرق الكاتب إلى أحداث ووقائع مرت بها البصرة بعد انقلاب 17- 30 تموز 1968 وأحدثت جروحاً غائرة في أرواح وأجساد البصريين وتشرد الكثير منهم واختفى المئات منهم ، و مصائر بعضهم غامضة حتى الآن. الملاحظات السابقة وأخرى غيرها كثيرة ، لا نرى ضرورة التطرق إليها ، لا تقلل أبداً من جهد الأستاذ(إحسان وفيق السامرائي) وما بذله في كتابه، وهو كما وصفه الشاعر “حسين عبد اللطيف” في مقدمته للكتاب :” يدخلك إلى متحف، فيه من كل نادرة عجيبة، وقائع وأحداث، حكايات وأساطير، نوادر ومآسي، فيضانات وأوبئة ، غزوات واحتلالات وأثار سياط ” طالت الجميع بالترافق مع خيانات وتواطئات و جورٍ وعسفٍ وتبديدٍ للآمال والأحلام والتطلعات. ومع تقديرنا للجهود المبذولة في الكتاب، والذي تألف من (698) صفحة – قطع متوسط ، فأنه يستحيل تماماً على أي شخص كان و بمفرده ، أن يكون ضليعاً وملماً، وحيادياً، بتاريخ مدينة ” البصرة – خزانة العرب ” . والأستاذ ” السامرائي” يدرك هذا ، فيفتتح كتابه ما ذكره (العماد الأصفهاني) :” إني رأيت انه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غيّر هذا مكان هذا أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا مكان ذاك لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.

وفيق السامرائي وكتابه

اترك تعليقاً