السيمر / الاثنين 29 . 10 . 2018
صالح الطائي
المفروض بالفقه المقارن في المدارس الإسلامية أن يخرج بمحصلات تصب في الصالح العام من خلال العمل على تقريب الرؤى بين العقائد الجزئية؛ التي تجرى عليها المقارنة، لكن النتائج التي تخرج فيها المقارنات التي تجرى عادة بين جزئيات فقه المذاهب تكاد تُفشل أي مسعى في هذا الاتجاه، طالما أن الجميع مصرون على الثبات على مواقفهم التقليدية الصلبة الموروثة دون أي فرصة للتنازل عن أي مفصل من مفاصل الموروث؛ الذي هو بالأصل وليد فهم الأئمة الشخصي الجزئي للنص المقدس، والذي أضفى عليه الأتباع قدسية حولته هو الآخر إلى نص مقدس لا يجوز المساس به أو تعديله أو الاجتهاد قبالته لأي سبب، وفي أي حال من الأحوال، فانكفأ كل مذهب على نفسه وتراثه، رافضا مجرد إلقاء نظرة على تراث الآخر، أو السعي إلى البحث عن المشتركات، بعيدا عن الأحكام المسبقة الخالدة، وبالتالي بدت القطيعة بين المذاهب واضحة جلية، لا يعتريها الشك، ولا تقربها الوساوس.
وقد اخترت أحد أبسط المواضيع للتكلم عنه في هذا الموضوع، لأن المواضيع المعقدة الأخرى لا مجال للتحدث عنها، فذلك من المحاذير التي لا تحمد عقباها، ويعد التحدث عنهاغ والخوض في غمارها: إما خروجا أو تهجما وتطاولا، وفي كل الأحوال يتعرض الكاتب غالبا إلى ما لا تحمد عقباه. والموضوع الذي اخترته هو إمامة الصلاة، لا الصلاة نفسها، لأن الحديث عن الصلاة وكيفية أدائها أمر شائك لا يمكن أن تتوحد الرؤى حوله، مثلما هي جزئياتها شائكة كقتاد، بدأً من التهيؤ لأدائها، إلى الوضوء وطرقه، إلى الأذان ومفرداته، إلى الوقوف، إلى العدد الذي تصح فيه صلاة الجماعة، إلى تكفير اليد أي إسبالها أو شبكها، وأين توضع الأيادي: تحت السرة، أم عليها، أم أعلى الصدر، وصولا إلى القراءات والتسليم، وهكذا تجد نفسك في متاهة لا ينجيك منها إلا الرب الرحيم.
لقد ورد الحديث عن إمامة الصلاة تحت عنوان “الصلاة وراء المخالف في المذهب” في كتب الأحكام والعبادات في جميع المذاهب، وسأعتمد هنا فيما يخص المذاهب الأربعة كتاب الدكتور وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته الشامل من الأدلة الشرعية والآراء المذهبية، الصادر عن دار الفكر، بيروت، في طبعته الثانية، لسنة 1405هـ ـ 1985م. وهو كتاب في الفقه المقارن، مؤلفه الدكتور الزحيلي سوري الجنسية، وعضو المجامع الفقهية بصفة خبير في مكة وجدة والهند وأمريكا والسودان، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق، كلية الشريعة، أما المذهب الشيعي فسأعتمد فيه آراء الفقهاء والرسائل العملية.
في أداء الصلاة خلف المخالف، اشترط الحنفية والشافعية أن تكون صلاة الإمام صحيحة في مذهب المأموم. بمعنى أن شروط صحة الصلاة عند المأموم يجب أن تتطابق مع شروطها لدى الإمام، فلو صلى حنفي خلف شافعي سال منه دم، ولم يتوضأ بعده ـ باعتبار أن الحنفي يوجب أعادة الوضوء على من سال منه دم، بينما لا يوجب الشافعي الوضوء ـ لم تصح صلاته. أو صلى شافعي خلف حنفي لمس امرأة مثلا ـ باعتبار أن مس المرأة ينقض الوضوء مطلقًا لدى الشافعي، بينما لا يرى الحنفي فيه بأسا، فهو عند أبي حنيفة لا ينقض الوضوء مطلقًا، ففي مثل هذه الحالة تكون صلاة المأموم باطلة، لأنه يرى بطلان صلاة إمامه!
ومن جانب آخر، يرى المالكية والحنابلة أن ما كان شرطا في صحة الصلاة، فالعبرة فيه، فلو اقتدى مالكي بحنفي أو شافعي لم يمسح الرأس في الوضوء، فصلاته صحيحة، لصحة صلاة الإمام في مذهبه.
وهذا جميل جدا، فما دامت صلاة الإمام صحيحة في مذهبة، لا بأس ان يأتم به من يخالفه مذهبيا. لكن للأسف تجد هناك من يحد من هذا الانفتاح حينما يصل إلى موضوع الصلاة خلف إمام شيعي مثلا، حيث يرى الحنابلة أن كل إمام عُلم أنه يغلو في آل البيت، فإنه لا يُصلى خلفه. وأنه لا تجوز الصلاة خلف جميع المشركين، ومنهم من يستغيث بغير الله ويطلب منه المدد ـ يقصد بذلك الشيعة ـ لأن الاستغاثة بغير الله من الأموات والأصنام والجن وغير ذلك من الشرك بالله، وهم هنا يُكفرون الشيعة مطلقا، ويتهمونهم بالشرك بالله تعالى، ويتهمونهم بما هو ليس فيهم. ومثل هذه الأمور تحفز عادة الطرف الآخر ليرد عليها بالمثل، وهو أمر يشجع على إفشاء ثقافة التكفير في المجتمعات الإسلامية للأسف. وقبال ذلك، ذهب الشيعة إلى عدم جواز الصلاة خلف المخالف ممن لا يعتقد بالولاية، ولا تجوز الصلاة خلف من يشهد عليك بالكفر، ولا خلف من شهدت عليه بالكفر.
فضلا عن ذلك، حبب الافتائيون الابتعاد عن الصلاة خلف المخالف مطلقا، فذهب الحنفيه إلى إن الصلاة تُكره خلف الشافعي. ورأى الشافعية أن الأفضل الصلاة خلف إمام شافعي، لا حنفي ولا غيره ممن يعتقد وجوب بعض الأركان والشروط. فما كان شرطا في صحة الاقتداء، فالعبرة فيه بمذهب المأموم، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي في صلاة فرض بشافعي يصلي نفلا، فصلاته باطلة، وشرط الاقتداء: اتحاد صلاة الإمام والمأموم. هذا بين المذاهب الأربع، وقبالة ذلك ذهب الشيعة إلى عدم جواز صلاة النافلة جماعة، لأنها بدعة متأخرة، جاءت في عصر خلافة عمر، أما عموم صلاة الجماعة مع المخالف فلا تعد جماعة، ولا يترتب عليها آثارها، فلابد من الإتيان بوظيفة المنفرد، ولزوم القراءة خلف من لا يُقتدى به، أو جعل الصلاة خلف المخالف صلاة تطوعٍ من دون ائتمام به. لكن حتى مع ذلك هناك فسحة أمل لا يمكن اغفالها، وهي أن بين علماء الشيعة من يجيز الصلاة وراء المخالف، بل وهنالك بينهم من يرى استحباب الصلاة خلف المخالف، لما في ذلك من أثر في التقريب والتعايش والتفاهم والألفة. وللأسف لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يلتفت إلى أحد حسن النوايا، حيث نجد من يعتقد ان الشيعة يدعون إلى ذلك تقية!
وبالتالي تخرج بمحصلة مفادها أنه باستثناء الفئة الشيعية الأخيرة التي تحبب الصلاة وراء المخالف، وما يراه بعض المالكية والحنابلة من أن ما كان شرطا في صحة الصلاة، فالعبرة فيه؛ أن جميع المذاهب الإسلامية الخمس لا تجيز الصلاة خلف المخالف لا في جمعة ولا في جماعة ولا في عيد، فلا توجعوا رؤوسنا ولا تصدعوها بالحديث عن وحدة إسلامية، لأن الأمة التي لا تجتمع حتى في الوقوف أمام ربها، لا يمكن أن تجتمع على رأي آخر، ما دام كل حزب بما لديهم فرحون. من هنا أرى أن ينشغل كل حزب بنفسه ويدع الآخرين هم وخالقهم، بدل أن يزيد الطين بلة بخلق النزاعات التي تفضي إلى العداوات والفرقة والكراهية، وأن يكلوا أمر قبول الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى لا لأي أحد غيره، فهو وحده المسؤول عن قبول الأعمال والمحاسبة عليها!.
أما المأزق الذي نحن فيه، أو الذي أدخلنا أنفسنا فيه عنوة جميعنا، فلا ينجينا منه إلا الأخذ بآراء الوسطية والاعتدال في المذاهب كلها، والعمل على تنميتها وتحبيبها إلى قلوب الناس، وترك كل ما يدعو إلى الخلاف، أو يأمر به، عسى أن يسهم ذلك في لم شعثنا، وتوحيد كلمتنا. ومثل هذا الأمر لا يمكن أن ينجح إلا إذا ما نجحنا في رفع القدسية عن الكثير من الموروث، فنحن مع كبير احترامنا للرموز العظيمة التي أتعبت نفسها وجمعت متفرقات الدين ضمن أيقونات خاصة، أقصد بهم أئمة المذاهب والمؤسسين لها، لا يجوز أن نجمد على ما جاءوا به، طالما أننا أكثر منهم قدرة على البحث والتقصي والاستنتاج ـ في الأقل ـ بفضل ما توفر لنا من معطيات الحضارة التي كانوا محرومين منها، لأننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت آخر إلى أن نلتقي، ونجلس، ونتشاور، ونتباحث، والأهم أن نتفق!.
والله من وراء القصد