السيمر / فيينا / الاثنين 18 . 11 . 2019
* رواء الجصانــي
هذه متابعة جديدة، سابعة، حول الاحتجاجات الشعبية الساخنة في بغداد العراق، ومدنه الفراتية والجنوبية تحديدا، من اجل العيش الكريم، وعلى طريق دولة المواطنة والعدالة، والمساواة، وضد الفساد، والمحاصصة الجائرة.. والتي راحت ضحيتها نفوس بريئة غالية، تجاوزت الثلاثمئة والعشرين الى اليوم، الى جانب الاف الجرحى والمصابين بسبب العنف المدان من كل ذي ضمير انساني، والذي تسبب به منتسبي العديد من الاجهزة والسلطات الامنية، وغيرها، دعوا عنكم اعمال العنف المجتمعي والحرق والتخريب..
وبرغم ما يقالُ بأن الامور بعواقبها ونتائجها، ولكن لا بأس من استباق بعض المسارات المتوقعة، المأمولة أو الشائكة، لأصرحُ ببعض لواعج وتساؤلات بشأن الحال العراقية، وكثير منها ورد في كتاباتي السابقة، وخاصةً منذ مطلع تشرين الاول 2019 والى الان .. وأتوقع أن تكون هذه الكتابة – وكالعادة – موضع رضا هنا، أو انتقاد هناك، وغيرهما كثير، وبحسب قناعات ومدارك ووعي المقابل، ورغبته في الفهم بالعقل والضمير، وليس بالعواطف الجياشة، والعراقية منها بشكل أخص ..
لقد قلتُ في العنوان ” هكذا فهمت وتعلمت من الانتفاضة..” الحاشدة والمستمرة الى اليوم، وأعني ذلك تماماً، وأقصدهُ وأعيه.. فالحياة تجارب وعبـرٌ تُستقى كل يوم، ومنها يتعلم المرء الكثير، لو اراد طبعاً .. وهكذا اكدت لي الانتفاضة أمورا وأمورا جديدة، وأخرى قديمة، ومنها:
– ان للصبر عند الشعوب حدوداُ، وأن بَعدُت بعض الوقت، وأن الخنوع، والركون للمهادنة لابدّ وان يتوقف، فيفيض ذلكم الصبر بهذا الشكل أو غيره، وبأنفجار عارم، وربما ليس محسوبا، وبمديات متعددة، تشوبها الثغرات والاخطاء والنواقص، قلّت أو كبرت ..
– كما تأكدتُ من “الانتفاضة” بأن السير على طريق الحق سالكٌ، و يسود حتى ولو قلّ سالكوه.. وها هي الوقائع تثبت ذلك، فالالوف والالوف يشاركون في الاحتجاجات، ومن حرقتهم، وآلامهم انهم لم يبالوا حتى بالتفكير حول البديل القادم، ولربما لم ينتبهوا الى ان المقبل قد يكون اكثر بلاء، وعسفا وشدة..
– وان التراكم الكمي- واعني هنا الحياة القاسية، والشعور بالجور– يتحول الى تغيرات نوعية، كما يقول الجدليون.. ولعلّ مما جناه – وسيجنيه- المتظاهرون الناهضون يؤكد بأن لا عودة لما قبل تشرين 2019 ومؤكدٌ – او هكذا ينبغي – ان تكون قيادات الاحزاب النافذة، والمسؤولة قد أستوعبت الدروس،، مما يبعدها شاءت أم أبت عن نهجها السابق، وتغيّر من سلوكياتها المدانة، والاعتراف بكل الاخطاء والخطايا، وما يترتب على ذلك من محاسبات وفقا للقوانين..
– ومما فهمتُ من مسارات الانتفاضة، ان ثمة حراك – الى الامام – ولو ببطء في مستوى الوعي الجمعي، وتوسعٌ في المدارك والتقديرات الموضوعية، ولكنها تحتاج للمزيز والمزيد من المعرفة والتعلم، وخاصة بما يتعلق ليس بالتنظير وحسب، بل – وأولاً- بالسلوكيات، واستشراف القادم، بأستيعاب تجارب الماضي الأليم …
– كما تعلمتُ بان حماسة الشباب، لا تكفي وحدها للسير بالأتجاه السليم، دون الاستعانة بالحكماء، كهولاً أو شيوخا، وخبراتهم وتجاربهم المتراكمة، وخاصة من اولئك الوطنيين النزهاء، من أصحاب الضمائر الانسانية، سياسيين ومثقفين كانوا، ام مجربين أو غيرهم…
– وبالأرتباط مع النقطة السالفة، او اكمالاً لها، اقولُ بأن مسألة تجاوز القوى والاحزاب السياسية، الوطنية، الوطنية، ليست واقعا ممكنا، ولا جديرة بالترويج لها، ولا يعود من تلك المسألة ألا المزيد من التعقيدات، والعثرات وربما الخسائر وحتى الفادحة احيانا .. ولربما كانت الضحايا الغالية أقلّ بكثير “لــو” تمت الانتباهة لما سلف من رأي..
– ولقد اكدت الانتفاضة ايضا بأن ما جرى – ويجري – من حديث بأن لا “تنسيق” ولا “قيادة” ولا محرك للأحداث التي نشهدها، ما هو الا حديث لا يُعتدُّ به، وغير قابل للتصديق، حتى وأن برره آخرون بمقولة ان المتظاهرين سيفرزون قياداتهم لاحقا!!.. ولا احد يدرى متى وكيف، خاصة وان الخسائر العزيزة ما برحت تزداد يوما بعد آخر .. وثمة تشاؤم بغيض بأن تؤول الحال حتى الى دمار شامل، وتقسيم للبلاد..
– كما تأكدتُ بأن حكمة “اذا اردتَ ان تطاع، فأمر بما هو مستطاع” المنسوبة للأمام علي أبن أبي طالب، حكمة جديرة بالأعتماد.. وأضيف بأن سقوف المطالب الشعبية يجب ان يأخذ بعين الاعتبار – وبلا عواطف او ردود افعال- مختلفَ الوقائع ومنها توازن القوى، عددا وعدة وقدرات، ومستوى الوعي الاجتماعي، وامكانيات الديمومة وغيرها..
– وهكذا تأكدتُ ايضا بان توحيد المطاليب وبلورتها، ومنع تشتتها، هو الاصلح والاجدى، ويجمّع اكبر حالة من الامكانيات .. وعسى ان لا “تثور” المطالب الى حد اجترار اخطاء الماضي ومآسيه، بعد نيسان 2003 ومنها مثلا وقائع “الاجتثاث” السياسي، سيئة الصيت – بتقديري على الاقل- التي طالت الافراد عامة، وليس القيادات المسؤولة الطاغية والفاسدة..
– وان الانقسام الذي ساد ويسود المجتمع العراقي آخذٌ بالأزدياد والتشتت طولا وعرضاً .. وكم هي أمنية نبيلة ان يبقى الأمر في حدود الاتهامات والتخوين والشتائم، برغم بغضها، ولا يتعداه الى العنف والدماء الذي عانى ما عانى منه الشعب والوطن، طوال نحو ستة عقود ..
– كما ترسخت عندي صحة المقولة بان “اهل مكة” ادرى بشعابها وسهولها، وكم هو حسنٌ أن يدرك ذلك ممن هم بعيدون عن اللهيب ولا يعرفونه – مهما حاولوا – مثلما تعرفه الجماهير المهمشة والمسحوقة من مضطهديها والذين راح بعضهم اليوم ملكياً اكثر من الملك نفسه، في “تبني” تلك المطالب الشعبية، والمزايدة عليها ..
– وفي السياق، تجذر لديّ الفهم ايضا بأن للقوى، والدول الخارجية، الاقليمية والعالمية، دورا مؤثرا بشكل كبير جدا، ومن دون الاعتراف بذلك فأن الخسائر ستكون اكثر واكثر، والدمار أوسع وأوسع.. وان عراقاً مستقرا مزدهرا يطمح اليه كل الوطنيين المخلصين، لن يقوم ويقوى دون “مناورات” و”حسابات” في منطقة تحيط بها الحرائق والفتن والمؤامرات من كل صوب، وها هي امامنا وقائع الحال في سوريا وليبيا واليمن ..
– ولقد أكدت الاحداث مرة أخرى بأن للطائفية المقيتة جذورا “راسخة” وليس بالأمكان الفهم بأن تظاهرات مشتركة هنا، وأخرى هناك، بمقدورها ان تمحو ذلك “التأصل” وان التمنيات والعواطف والنوايا الحسنة لا تكفي – مهما كانت جليلة – للقضاء على هذا الوباء البغيض، دون الاعتراف بالواقع، وليس بالنكران اللفظي، بل النشاط الدؤوب قولاً وفعلاً لحصر التداعيات اولا، والحرص على المعالجات بعد ذلك، وبنفس صبور حثيث ..
– وارتباطا بما سبق، من الضروري ان لا تقودنا العواطف الى الوقوع في مطبات ومهاوي “حرق الاخضر واليابس” وخلط الامور، ومنها ما طال – يطال- الحشد الشعبي، الذي لا يمكن لاي متصدٍ موضوعي للاحداث، ومتابع لها ان يلغي دوره الكبير في مواجهة الارهاب الداعشي، وما قدمه عشرات الالوف من منتسبي ذلك الحشد من تضحيات جلى: شهداء وجرحى ومضحين.. مع اهمية التأكيد بنفس الوقت هنا، وبكل شدة، على رفض ومنع اية توجهات وسلوكيات لا تتناسب مع القيّم والاهداف التي أسس الحشد عليها..
– ولقد تعلمتُ ايضا مما أفرزته الاحداث – ولأقل تأكدَ عندي- الادراك بأن تأثير التضامن الخارجي، الدولي، والعربي منه بشكل خاص، لا يمكن التعويل عليه كثيرا، وانه “فورات” ستخمد بعد وقت قصير.. فالمصالح الاقتصادية والعلاقات السياسية اولا وقبل كل شيء ، وعسى الأ يُؤمل المتظاهرون النبلاء بغير ذلك الواقع، ودون مراهنات كبيرة على وهـم التضامن..
– كما تأكدت التوقعات عندي بأن الكثير من الفاسدين الذين تقصدهم التظاهرات الشعبية، قد حاولوا – ويحاولون ركوب الموجات، وبهدف تبرئة الذمة ليس إلا، وقد نجح الكثير منهم في ذلك السعي، وكذلك هي حال سياسيين، ومثقفين عديدين، وغيرهم ..
– ومما تجذر لدي من متابعة مسار الانتفاضة بأنها كانت فرصة “غنيّة” لأولئك الذين تم أبعادهم، وأسقاطهم عن المشهد السياسي للبلاد، منذ عام 2013 فراحوا يجرأون ويجاهرون حتى بالمقارنات بين ما هو كائن من واقع اليوم، وبين ما كانت عليه الناس والالام والتضحيات بسبب نظامهم، نظام الارهاب والحروب الداخلية والخارجية..
– ولقد بانَ عندي أكثر فأكثر صواب الرأي بان العواطف والانفعالات لا تكفي ولن تحسم الامور، وشتان ما بين الحثّ والتوعية، وبين التأليب والتحريض … بين التنوير والتضليل، ولا حاجة لمزيد من الحديث عن الفوارق الشاسعة بين تيّنك الحالتين..
… واخيرا، أختتم هذه الخلاصات بالقول: لقد ترسخ لدي مما افرزته التظاهرات، والاحداث والوقائع بأن ما يُزعم بأن خلاف الرأي لا يُفسد للود قضية” ليس سوى تلوين خارجي، وانه أفسد – ويفسد وسيفسد – في ذلك “الود” قضية بل وقضايا، وكم هو نبيل ذلك الذي يتحمل الرأي المخالف !!!..
* 2019.11.18