السيمر / فيينا / السبت 19 . 11 . 2022
بين المعارضة والسلطة مسافة كبيرة تفوق القياس، إنها فاصلة بين حالتين بعيدتين.. بين واقعين متضادين. لكن هذا الفرق الكبير لا يأخذ الاهتمام المطلوب عند السياسيين حين يبدأون في المعارضة ويسعون للوصول الى السلطة.في التجارب السياسية عبر حقب التاريخ الطويلة، يتعامل المعارضون على أن السلطة هي المرحلة التي تلتصق بالمعارضة مباشرة، فهي بنظرهم خطوة تكميلية طبيعية. لذلك تراهم يقولون: نخوض المعارضة ونتحمل صعوباتها في النضال والكفاح حتى نُسقط السلطة فنأخذ مواقعنا فيها ونغيّر الأوضاع المتردية الى ما يخدم الشعب. تلك هي النظرة السائدة عند الحركات السياسية وعند الزعماء السياسيين والقادة الثوريين في قارات العالم وبلدانه.
كتب الثوريون مناهجهم على هذا الأساس، واستغرقوا في النظريات الانتقالية من خطوة الى خطوة، ومن مرحلة الى مرحلة، فكانت النظريات تجعلهم يزدادون إيماناً بما يحلمون، فيما يضحك التاريخ ساخراً من سذاجتهم أو أحلامهم أو زيفهم. فلقد شهد من قبلهم أجيالاً عاشت هذا النمط من التفكير ثم صدمهم واقع السلطة، فضاعوا فيها، وانقلبوا ضد أنفسهم وتاريخهم وشعاراتهم.
لقد ضحك التاريخ على فرنسا عندما أعلن روبسبير في بداية عصر الثورة الفرنسية أنه سيقيم الجمهورية المثالية على أنقاض الملكية المستبدة. لكنه تحول الى أعتى دكتاتورية قمعية في أوروبا، وأعدم بمقصلة الثورة عشرات الالاف، وقد شاع فساد المسؤولين وسرقوا ما لم يسرقه ملوك فرنسا.
وقبل الثورة الفرنسية وبعدها تزدحم التجارب المشابهة، وغالبيتها الساحقة تمسك فئة قليلة من المعارضين زمام الحكم وتتحول الى لصوص منتفعين وطغاة فاسدين. وتكون النتيجة أن ينطبع في أذهان الشعب أن المعارضة كلها تحولت من الشرف الى السقوط.
لم يختلف الحال معنا، لقد كنا في المعارضة نعيش أجواء الحماس الثوري وروحيته بأعلى مستوياتها. كانت التضحية تبدو أمراً عادياً من قبل الجميع، حتى صارت الأرواح رخيصة من أجل القضية.
شباب ورجال وشيوخ يرون العطاء مهما كبر فانه ضئيل، والتضحية مهما عظمت تافهة، فهناك هدف كبير يتمثل في إزالة نظام صدام عن العراق. وهناك شعب مظلوم مضطهد يستحق أضعاف هذه التضحيات، ومهما عملنا من أجله فانه قليل بحق معاناته وخوفه وأحزانه.
كانت النفوس تذوب حرقة على شعب العراق. ترى في اليوم دهراً يمر عليه. صورة يصعب وصفها، ومعذور من رأى فترة ما بعد السقوط ولم يصدقها. فكيف يمكن أن يصدق أن هذا المسؤول المطلي بالفساد والسوء من وجهه وقفاه كان مضحياً شريفاً مخلصاً؟
مرت الأيام السود، وانقضت لياليها المعتمة، وسقط صدام، فكانت الصدمة الموجعة لما وصلنا اليه.
إن فترة الإعداد الروحي الطويلة التي تحدّث بها الإسلاميون في زمن معارضتهم، انهارت على يد فئة قليلة منهم وصلوا الى مواقع السلطة، فتداعت أركان الهيكل الروحي وسقط من أسسه. لقد انهاروا بسرعة أمام شهوة السلطة والمال فشاع التقييم العام على سوء الإسلاميين كلهم.
حين تكون الصدمة كبيرة بالمستوى الذي حصل في العراق بعد السقوط، فان الفئة الصغيرة من المنتفعين الذين صرعهم المال، تتحول في التقييم الشعبي الى حالة عامة يوسم بها الجميع بلا استثناء، ويكون من الصعب إقناع الجو العام بأن الذين سقطوا هم فئة قليلة جداً مقارنة بالمساحة الكبيرة من الإسلاميين الذين حافظوا على مبادئهم وأخلاقهم وقيمهم. وفي الحالة العراقية فان طبيعة الشخصية تكون حادة في تقييمها، تطلق الحكم على ممارسة فردية، فتعممها على الجميع بلا تردد.
هل كانت صورتهم السابقة مستعارة تخفي حقيقتهم؟ أم أن السلطة هي التي تغيّر الرجال فتمسخهم خلقاً آخر؟
يقول بعض الحكماء: السلطة لا تغيّر الأشخاص، لكنها تكشفهم.
بذلتُ جهدي لأقتنع بهذا الرأي، لكنني فشلت. فهل يُعقل أنني وغيري الكثير، لم نكن نملك أدنى درجات الفراسة حتى نعرفهم؟ وهل يُعقل أنهم كانوا بهذا الدهاء بحيث يخفون لونهم الحقيقي؟
اعترف بأننا كنا نعيش فوق الواقع. ولم ننجح في صناعة الشخصيات المناسبة التي تستلم الحكم وتدير الدولة وتحمل المسؤولية.
أعترف بأننا خذلنا الشعب العراقي، حتى ولو كانت فئة قليلة منا قد أساءت وأسرفت وانحرفت.
أعتذر الى كل مواطن عراقي، لأننا كنا أمله، فصرنا خيبته.
شفيعي عندك أني تبرّأت منهم منذ فترة مبكرة من تجربة الحكم.
الجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات