السيمر / الثلاثاء 14 . 06 . 2016
د. ناجح العبيدي
التشابه بين “دِين” (بكسر الدال) و”دَيْن” (بفتح الدال) ملفت للنظر ليس من الناحية اللغوية فقط، وإنما أيضا من الناحيتين الثقافية والاقتصادية. وهذا التشابه لا يقتصر على حقيقة أن مصدرهما واحد هو الفعل “دانَ” الذي يعني أصلاً بحسب المعاجم العربية “خضع” و”ذلّ” ، فمن الواضح أن هذا المعنى ينطبق في الحالتين، في الحالة المالية: عندما يستدين أو يقترض الإنسان مالاً من شخص آخر، وفي الحالة الروحية: عندما يعتنق الانسان ديناً معيناً. في كلا الحالتين هناك نوع من التبعية والخضوع والشعور بالذنب ، وهناك أيضا يوم للحساب.
هذا الأصل اللغوي يشير إلى أن هناك ثمة ترابط معرفي وتاريخي متبادل بين الدين كعقيدة وبين التبادل السلعي والنقدي كممارسة اقتصادية . بل ذهب بعض قدامى الكتّاب المسلمين في تفسيرهم للمفردات الغريبة في القرآن إلى القول بإن كلمة “دينار” مشتقة من كلمتين فارسيتين هما “دين” و”آر” وتعني “الشريعة جاءت به”. ومع عدم صحة هذا التفسير، إلا أنه يشير بوضوح إلى أن الكتّاب المسلمين لاحظوا أيضا وجود علاقة بين الدين والنقود، بل حاولوا إضفاء طابع مقدس عليها. وتتجسد هذا العلاقة المتبادلة في وجود أبعاد دينية للنقود ولعملية الاقتراض من جهة ووجود أبعاد اقتصادية للدين من جهة أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو تأثير التصورات والمعايير الدينية على الاقتصاد النقدي خصوصاً؟ وهل لعبت العمليات المرتبطة بالاقتصاد النقدي، ومنها البيع والشراء والاقتراض، دورا في صياغة النص الديني؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك علماء اجتماع ومؤرخين أوروبيين مرموقين يعتقدون بأن أحد أصول النقد يعود إلى تقاليد دينية قديمة، ودليلهم على ذلك أن أولى النقود المسكوكة كانت تحمل صور مواشٍ، وخاصة الثور الذي كان يعتبر القربان المفضل في المعابد والذي لا يزال حتى الآن يرمز لانتعاش البورصة. غير أن الاقتصاديين يرجعون سبب نشوء النقود إلى تطور عملية التبادل السلعي وضروة وجود مكافئ عام للسلع، ولكنهم بدأوا موخرا بالاعتراف بتأثير العوامل الثقافية ومنها الدِين على التداول النقدي. وفيما يخص الإسلام فإن من الملاحظ أن آيات كثيرة في القرآن تكرر مفردات مثل الذهب والفضة والدينار والدرهم، وكل ذلك يؤكد على ازدهار التبادل النقدي في فترة نشوء الاسلام. ويستتند ذلك إلى حقيقة أن المجتمع المكي كان تجاريا بالدرجة الأولى، بل حتى النبي محمد نفسه اشتغل بالتجارة فترة من حياته، وهذا يفسر دخول الكثير من مفاهيم الاقتصاد النقدي إلى تعاليم الدين الجديد.
الدائن والمدين والربّ والعبد
يتكرر في القرآن الحديث عن “الحساب” وعن “يوم الحساب”. وفي معظم الأحيان فإن النص القرآني قريب جدا من المعنى الدارج عندما يتحدث الانسان عن “يوم الحساب” بمعنى “موعد دفع الدَين”، أي تسديد ما بذمته من التزامات مالية تجاه الدائنين. في كلتا الحالتين يسود مبدأ الثواب والعقاب، فالصورة البليغة التي يقدمها القرآن في سورة الانشقاق عن لقاء الإنسان بربه في الآيات 5 – 10 (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيرا … وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا) تنطبق مجازا أو حرفيا على العلاقة بين المدين والدائن عندما يحين موعد السداد، فمن يثبت بالوثائق (كتابه) أنه قد أوفى بما عليه من التزامات يحصل على الثواب المتمثل في إعتاقه من التبعية التي تربطه بالدائن (البنك عادة)، وإذا عجز عن ذلك فإن العقاب سيكون بانتظاره. صحيح أن البنك لا يعاقب الزبائن المتخلفين أو “الكافرين” بإلقائهم في النار، ولكن يلقيهم عادة في هاوية الافلاس من خلال مصادرة أموالهم. ومن هنا يمكن القول إن الصورة السائدة في النص المقدس عن العلاقة بين العبد والرب تشابه إلى حد العلاقة السائدة في الاقتصاد النقدي بين المدين والدائن، بمعنى أنها علاقة غير متكافئة وهناك “ذنب” أو شعور بالذنب لا بد من تكفيره، وإلاّ فإن العلاقة بين الطرفين ستدخل في أزمة ، كما لاحظنا في اندلاع أزمة الديون العالمية الشهيرة عام 2008 .
ويبدو أن النصوص المقدسة لاحظت أيضا هذا التشابه في علاقة الانسان بالنقود وعلاقة المخلوق بالخالق، وخشيت أن يتحول النقد إلى ما يشبه العقيدة الدينية، بل رأت في النقد منافسا للرب، فقد نهى القرآن عن حب المال (وتحبون المال حبا جمّا). كذلك خيّر الانجيل المؤمنين بين عبادة الرب وعبادة المال، عندما خاطب المسيح في عظة الجبل أتباعه: (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين …..لا تقدرون أن تخدموا الله والمال).
مثل هذه الصورة عن عبادة الذهب لا تقتصر على الكتب المقدسة، بل تنتشر أيضا في الأدب الذي ترك لنا مثل هذه الأبيات :
أظهروا للناس نسكاً .. وعلى الدينار داروا
وله صَلَّوا وصَامُــوا .. وله حَجُّـوا وزاروا
ولا يُستبعد أن المخاوف من تحوّل النقد إلى ما يشبه الإله يعود أيضا إلى موقف الديانات التوحيدية الرافض للأديان القديمة، ومنها مثلا العقائد التي كانت سائدة في وادي الرافدين حيث كان الذهب يعتبر رمزا لإله الشمس والفضة رمزا لإله القمر.
من جهة أخرى حرّم القرآن اكتناز الذهب والفضة في موقف يعكس أيضا الخشية من سحبها من نطاق التداول الأمر الذي يلحق أضرارا بقطاع التجارة المزدهر آنذاك.
ومع أن النصوص السابقة تحذر من تأليه الدينار كرمز للذهب، إلا أن من الواضح ان النقود لا تستطيع أن تؤدي وظائفها التقليدية كمقياس للقيمة والسعر ووسيلة للتبادل وواسطة للدفع بدون أن تحيط بها “هالة” مقدسة، وبما يشجع المتعاملين على الاعتراف بها.
الائتمان من الإيمان
حتى يومنا هذا يحمل كل دولار أمريكي عبارة “بالرب نؤمن IN GOD WE TRUST”. وقبلها عندما سُكت أولى الدنانير الاسلامية في زمن الامام علي والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كتب عليها أيضا عبارات دينية مثل “لا اله إلا الله” أو “الله أكبر” وغيرها من الشعارات التي تضفي عليها نوعا من القدسية وتُسهل بالتالي تداولها في الأسواق. ولم يأت هذا من فراغ، فالتعامل بالنقود بمختلف أشكالها ، إن كانت مصنوعة من الذهب والفضة أو ورقية، يعتمد بالدرجة الأولى على الثقة بـ”خالقها”، وهي ثقة لا تختلف كثيرا عن الإيمان بعقيدة دينية، فالدور الذي يلعبه الدولار الأميركي في عمليات التداول حاليا يعود بالدرجة الأولى إلى إيمان المتعاملين بـ”خالقه”، أي البنك المركزي الأميركي. وتعتبر فكرة “الإيمان” و”الخلق” من المفاهيم التي تتكرر كثيرا في علم الاقتصاد الذي يؤكد مثلا بأن “خلق” النقود أي إصدارها هي المهمة الأولى للبنك المركزي. وبهذا المعني يمكن وصف البنك المركزي بأن “رب النقود”، غير أن هذه المهمة لم تعد حكرا عليه وبدأت المصارف التجارية في مزاحمته الأمر الذي يسمح بالحديث عن “أرباب النقود”. وفي ظل هذه التطورات كثرت التعابير المشتقة من الإيمان في المجال النقدي والمالي. فالجميع يتحدث عن البطاقات الائتمانية وقطاع الائتمان والنقود الائتمانية وغيرها. وهي كلها في حقيقة الأمر أشكال متنوعة للديون. ولكن هذه الديون موثقة وقابلة للتبادل استنادا إلى الثقة بالجهة التي أصدرتها. وهذا الظاهرة ليست حديثة، وإنما كانت مألوفة أيضا في صدر الاسلام. وأحد الأدلة على ذلك هو نص الآية 281 من سورة البقرة: (إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى فأكتبوه وليكتب كاتب بالعدل). هذه الآية تبيّن بوضوح أن عمليات الاقتراض في المجتمع المكي التجاري كانت مألوفة في مؤشر على تطور التبادل السلعي والنقدي في تلك الفترة. ومن الملفت للنظر ان الآية تنصح المؤمنين بتوثيق هذا الدَين. ومن دون شك فإن هذا التوثيق يعتبر الخطوة الأولى لتداول هذه الديون لاحقا، أي تحولها إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، لا سيما وإنها مُصدقة من قبل شخص موثوق به، هو كاتب العدل والذي لا يزال حتى يومنا هذا يتولى مهمة تحرير وتصديق العقود الهامة. وبهذا تصبح الظروف مهيئة تماما لنشوء سوق السندات والصكوك والمشتقات المالية الاخرى التي هي في حقيقة الامر ديون موثقة على شكل أوراق قابلة للتداول في السوق المالية.
ومنذ التخلي عن الغطاء الذهبي للعملة أصبحت النقود المتداولة (وبما يشمل النقود الورقية والحسابات والأرصدة المصرفية) نقودا ائتمانية، أي أن تداولها ودرجة تقبلها في السوق يعتمدان في نهاية المطاف على الأمل والإيمان والثقة بمصدرها وعلى الافتراض بأن مالكها سيحصل لاحقا على قيمة تعادل ما بذله من جهد. وهذا بحد يشبه العقيدة الدينية “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره”. ولهذا يرى بعض علماء الاجتماع والتاريخ بأن النقود (والديون بإعتبارها أحد أهم تجلياتها) أصبحت بمثابة الدين الجديد للرأسمالية المعاصرة.
ختاما يجب أن أعترف بأنني لست ضليعا باللغة العربية ولا في الفقه الاسلامي ، ولكنني أرى أن الاقتصاديين أيضا مطالبون بالاهتمام بالجوانب الثقافية والدينية للظواهر الاقتصادية ومن المؤكد أن ذلك سيساعد في فهم أفضل للاقتصاد والدِين على حد سواء.