الرئيسية / مقالات / المثقف المشتبك

المثقف المشتبك

فيينا / الخميس 13 . 02 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية

عبدالرحيم الجرودي/ المغرب

بعد مقالين حول ظاهرة المثقفين التي ابتلينا بها في عالمنا العربي، أحاول في هذا المقال أن أصحح هذا المفهوم وأتجاوز به ثقافة الصدفة كحمولة سلبية للمعارف والأفكار أو بعبارة أفصح: حمار يحمل أسفارا، إلى مهمته الرسالية، بالإنخراط في صراعات مجتمعه، والسعي إلى تفكيك البنى الفكرية الراكدة وإعادة تشكيل وعي جمعي وصياغة فكر نقدي يحفز ويؤسس لحركة إصلاحية ثائرة تمارس دورها الإنساني والتاريخي في عالم مليء بالتحديات والأزمات، ليبرز دوره كمثقف مشتبك وفاعل متقدم في حركة التغيير الاجتماعي والسياسي.

سنحاول في هذه المقالة قدر المستطاع استكشاف جذور هذا المصطلح لنسأل: من هو المثقف المشتبك؟ وما الدور الذي يلعبه في حركة التغيير؟ وما الصعوبات التي تواجهه؟

في الغرب، يمكن رصد هذا المفهوم عند فلاسفة مثل جان بول سارتر، الذي رأى أن المثقف يجب أن يكون “متشائماً بالفطرة، متفائلاً بالإرادة” وأن واجبه هو مواجهة الاستبداد والأنظمة الظالمة، وقد قال في هذا الصدد: “المثقف هو من يتدخل فيما لا يعنيه”، مشيرا إلى مسؤولية المثقف الذي لا يكتفي بالمراقبة والتأمل، بل يخوض في القضايا الحساسة التي تمس الواقع الاجتماعي والسياسي، ويوجه الفكر نحو التغيير الفعلي.

الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، قدّم فكرة المثقف العضوي، وهو المثقف المرتبط بقضايا المجتمع والطبقات الكادحة، خلافًا للمثقف التقليدي حبيس صالونات البرجوازية، المعزول عن الواقع والناس.

أما في عالمنا العربي والإسلامي، فقد تبلور هذا المفهوم مع رواد النهضة الذين حاولوا مد جسر بين تراثنا العربي الإسلامي والحداثة، والجمع بين الإصلاح الديني والنضال السياسي من أجل مشروع نهضوي متكامل.

ان المثقف المشتبك هو صانع للوعي ومحرك للضمير الجمعي والمساهم الفاعل في تفكيك البنى الفكرية الراكدة وانتاج منظومة أفكار وقيم تخدم العدالة الاجتماعية والحرية، وتكشف الخلل في البنى السياسية والاجتماعية السائدة، وتطرح بدائل فكرية ثورية للقضايا المصيرية، كما يلعب دورا أساسيا في تشكيل الوعي المرحلي مع التوجيه نحو حلول وخطط عملية راشدة مبنية على وعي عميق بالواقع من خلال تفاعله مع الشارع والقوى الحية فيه، فهو حلقة الوصل بين النخبة والجماهير، وهذا يعزز فرص الإصلاح الفعلي بدلاً من البقاء في برج التنظير الأكاديمي.

في هذا الإطار تحضرني قامتين فكريتين من عالمنا الإسلامي ساهمتا في تنويرنا من خلال مؤلفاتهم، وغيرهم كثير لا يتسع المجال لإحصائهم. نموذجان للمثقف المنخرط في هموم أمته، الساعي إلى إيقاظ الوعي وتحرير العقول من التبعية الفكرية، ساهمتا في تشكيل الوعي الحضاري وإبراز خصائص المثقف المشتبك من خلال إنتاجاتهم ومواقفهم، أحدهم الشهيد الدكتور علي شريعتي، الذي كان نموذجا رائدا لهذا الخط، إذ يعتبره العديد من المفكرين أحد دعامات الثورة الإسلامية في إيران والتي نعيش ذكراها هاته الأيام. والآخر مالك بن نبي.

من مقولات الشهيد علي شريعتي: (المثقف هو الذي يحمل مسؤولية تحريك وعي مجتمعه، لا أن يظل حبيس الأبراج العاجية)، (المثقف الحقيقي هو الذي يجعل من نفسه جسراً بين النخبة والجماهير)

كان شريعتي الذي عاش في منتصف القرن العشرين، من أبرز المنظرين لفكرة المثقف المشتبك فقد كان على تماس مباشر مع الجماهير، فلم يقتصر على التنظير الأكاديمي، بل كان منخرطا في حركة التغيير الاجتماعي، حيث ربط بين الفكر الإسلامي والفكر الثوري، فكانت كتاباته مثل (الدين ضد الدين) و(من أين نبدأ؟) مثلا، تعكس فكره النقدي. فقد كان يرى أن التغيير لا يأتي من الأعلى، بل من الأسفل، والمثقف يجب أن يكون جزءاً من هذه العملية.

في كتابه (العودة إلى الذات)، يرى شريعتي أن المثقف يجب أن يكون (ضمير الأمة)، وأن دوره ليس فقط نقل المعرفة، بل تحرير المجتمع من الاستبداد والجهل فـ (المثقف الحقيقي هو الذي يتحول إلى جسر بين الماضي والمستقبل، بين التراث والحداثة، بين الشعب والنخبة). شريعتي كان يؤمن بأن المثقف يجب أن يكون جزءاً من حركة التغيير، لا مجرد مراقب لها. وقد استشهد في سبيل هذا الموقف، حيث تعرض للاضطهاد والسجن قبل أن يموت في ظروف غامضة.

أما مالك بن نبي، المفكر الجزائري، فقد ركز في كتاباته على دور المثقف في بناء الحضارة. في كتابه شروط النهضة، يرى أن المثقف هو مهندس التغيير، وأن عليه أن يعمل على تحرير المجتمع من القابلية للاستعمار، وهي الفكرة التي تشير إلى حالة التخلف النفسي والفكري التي تجعل المجتمع عرضة للهيمنة الخارجية، يقول: (المشكلة ليست في أننا لا نملك الوسائل، بل في أننا لا نملك الإرادة لاستخدامها) كان يرى أن أزمة العالم الإسلامي ليست أزمة مقدرات وثروات بقدر ما هي أزمة فكر وثقافة، فمن أبرز مقولاته: (لا يمكن لمجتمع أن يتغير دون أن يتغير فكره أولًا). كان يؤكد على ضرورة أن يكون المثقف واعياً بتاريخه وحاضره، وأن يعمل على إعادة بناء الذات الإسلامية على أسس فكرية صلبة، فقدم حلولا فكرية عميقة لكيفية النهضة، بالتركيز على تحليل أسباب تخلف المجتمعات الإسلامية. كان يرى أن دور المثقف لا يجب أن يقتصر على إنتاج الأفكار، بل يجب أن يسهم في بناء الوعي القادر على إخراج الأمة من حالة الركود. مالك بن نبي طور ما يعرف بنظرية التنمية الثقافية في كتاباته مثل (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) و(شروط النهضة) وأكد على أهمية العامل الثقافي في عملية التنمية قائلاً: (الثقافة هي البنية الأساسية لأي مجتمع، وهي التي تحدد مستقبل الأمم) كما أشار إلى أن: (الأمة التي تفقد ثقافتها تفقد هويتها وتتحول إلى أداة في أيدي الآخرين).

رغم أهمية الدور الذي يلعبه المثقف المشتبك في توعية المجتمع، تجده يواجه كما من التحديات، على رأسها الاضطهاد السياسي، حيث ينظر إليه بعين الريبة من قبل الأنظمة السلطوية التي ترى فيه تهديداً لسلطتها، مما يجعله عرضة للتهميش والملاحقة فيتم استهدافه، مما يعرض حياته للخطر. بالإضافة إلى أنه يواجه صراعات داخلية بين قناعاته الفكرية وضغوط الواقع، مما قد يؤدي إلى حالة من الإحباط واليأس تجعله ينعزل عن الجماهير التي يفترض أنه يمثلها.

أما في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، فيمكن بسهولة تشويه صورته وتحويله من رمز للفكر والتغيير إلى هدف للنقد والسخرية والهجوم والافتراء والتخوين باعتباره مصدرا للإزعاج أو صاحب أفكار غير واقعية، مما يؤدي إلى عزله جماهيريا.

أما القاصمة للظهر، فهي الضغوط الاقتصادية، حيث العمل الفكري النقدي والثقافي لا يكون مربحا، مما يجعل بعض المثقفين يواجهون ضغوطات اقتصادية قد تدفعهم إلى المساومة أو حتى التخلي عن مواقع الاشتباك ومواقفهم الجذرية.

إن المثقف المشتبك هو عنصر ضروري في أي مجتمع يسعى للتحرر والتقدم. فهو ليس مجرد ناقد أو حامل للمعارف، بل هو ضمير الأمة الحي وصانع التغيير فيها والمشارك الفعال في صياغة المستقبل. هذا الدور لا يخلو من تحديات وصعوبات تستدعي من المثقف صلابة في مواقفه، مرونة في أساليبه، وتواصلا مع جماهيره ليظل دوره محوريًا في بناء وعي نقدي يمكن الشعوب من إدراك حقوقها والسعي إلى التغيير المنشود. من خلال أمثلة: علي شريعتي ومالك بن نبي، نرى كيف يمكن للمثقف أن يكون قوة دافعة نحو التحرر والنهضة. في النهاية، يبقى المثقف المشتبك رمزاً للأمل، ودليلاً على أن الأفكار يمكن أن تكون أقوى من الرصاص.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً