الرئيسية / مقالات / دعوة إلى إعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية

دعوة إلى إعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية

السيمر / الجمعة 07 . 10 . 2016

صالح الطائي

في رسالة فقهية بعنوان (الآداب) أجاب الشيخ ناصر بن حمد الفهد، وهو من إفتائيي السعودية على سؤال: هل يجوز للبنت التي لم تتزوج صبغ شعرها عند رضا والديها بذلك؟ بقوله: هنا حالتان:
الأولى: إن كان الصبغ بالسواد فلا يجوز للمتزوجة ولا لغيرها لعموم أحاديث النهي عن الصبغ بالسواد.
الثانية: إن كان الصبغ بغير السواد، فيجوز للمتزوجة وغيرها، لعدم وجود الدليل الحاظر، وهو كالخضاب بالحناء ونحوه مما ورد عن السلف، بشرط عدم التشبه بالكفار.
إن قول المفتي: “لعموم أحاديث النهي عن الصبغ بالسواد” فيه مبالغة طالما كانت من ذرائع التشريع التي لا تقوم على حجة يقينية، وإلا فإن تحريم بعض الإفتائيين دون غيرهم، مبني على حديث يتيم منسوب إلى النبي في قوله: “غيِّروا هذا الشيب، وجنِّبوه السواد”. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أنه قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا. فقال رسول الله (ص): “غَيِّروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد”. وكأن النبي أوصاهم بتغيير لون شعر هذا الرجل دون غيره.
وبالرغم من اتخاذهم هذا الحديث سندا في تجويز الصبغ عامة، وتحريم الصبغ بالسواد، إلا أن هناك ما يثبت أن في الحديث إدراجا وزيادة ليست من قول النبي(ص)، فهناك أكثر من قول على أن الشطر الثاني من الحديث (واجتنبوا السواد) ليس من أصله، ولم يقله النبي، إذ قال محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري في (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي): “إن قوله (واجتنبوا السواد) مُدْرَج في هذا الحديث، وليس من كلام النبي (ص)، والدليل على ذلك أن مسلماً روى هذا الحديث عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عـن جابر إلى قوله: (غَيَّروا هذا بشيء) فحسب. ولم يزد فيه قوله (واجتنبوا السواد).
وقد سأل زهير أبا الزبير: هل قال جابر في حديثه: (جنبوه السواد)؟ فأنكر، وقال: لا. وفي مسند أحمد عن جابر، قال: أُتي رسولُ الله (ص) بأبي قحافة؛ ورأسه ولحيته مثل الثغام، فأمر به إلى نسائه، قال: غَيِّروا هذا الشيب. قال حسن[[حسن هذا هو حسن بن موسى. وقالوا: إنه أحد الثقات]]].: قال زهير[[[وزهير هو زهير بن معاوية المُكَنَّى بأبي خيثمة. وقالوا عنه أيضا: أحد الثقات الأثبات]]]: قلت لأبي الزبير: قال: (جنبوه السواد)؟ قال: لا. فإذا ما نفى الثقات الأثبات وجود الشطر الثاني في أصل الحديث، فذلك يعني أنه زيادة من آراء المفتين لا من أقوال رسول رب العالمين، وبالتالي لا معنى للتمسك به!. والظاهر من أقوال الثقات الأثبات أن إضافة (واجتنبوا السواد) جاءت متأخرة عن عصر البعثة، ودخيلة على الحديث.
الغريب أن التمسك بها بالرغم من وهنها كانت بدرجة التمسك بالشطر الأول من الحديث وهذا يثبت أن للإفتائيين والمتنفذين سطوة على النص المقدس لا تقل عن سطوة النص المقدس نفسه بدلالة أن صوت القائلين بحرمة الصبغ بالسواد كان أعلى من أصوات الآخرين. لكن ذلك لم يمنع أن ينبري من يتصدى لهذا الرأي ويخالفه، ومن يجتهد بشأن الحديث اجتهادات لا علاقة لها بأصله، فالحديث واضح الدلالة، فيه تجويز لاستخدام الصبغ، ولا إشارة فيه إلى وجود تحريم يشمل فئة دون غيرها من الجنسين، ومع ذلك نجدهم يختلفون في معنى الحديث المقصود به، فذهب بعضهم إلى حلية الصبغ للنساء والرجال، وإلى حرمة الصبغ بالسواد على الرجال والنساء بلا استثناء، وهذا أحد الآراء.
بعضهم الآخر ومنهم بعض أتباع الإمام أبي حنفية، ذهبوا إلى تجوَّيز الصبغ بالسواد للنساء والرجال بلا كراهة في السلم والحرب. جاء في (حاشية ابن عابدين): رُوي عن أبي يوسف، أنه قال : “كما يعجبني أن تتزين لي، يعجبها أن أتزيَّن لها”. وقال ابن عابدين في الحاشية: “والأصح أنه لا بأس به في الحرب وغيره”. وذهب بعض آخر من أتباع أبي حنيفة الآخر إلى أن الأصح والأَقْوى في المسألة: الجواز مع الكراهة دون تحريم، وهذا رأي ثان!.
وهناك من تشدد، وذهب إلى أن النهي والتحريم خاص بالرجال دون النساء، لكن التشدد في النهي، يسقط في حالة الحرب، إذ يحق للمجاهد الصبغ بالسواد حتى ولو خرج بسرية لمدة يوم واحد لا أكثر. هذا ما قاله ابن حجر في فتح الباري والقسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، بحجة أن في ذلك إرهابٌ للعدو، وهذا رأي آخر!.
وهناك رأي آخر، ذهب أصحابه إلى أن الصبغ بالسواد حتى وإن كان مباحا للنساء، إلا أنه مباح للمتزوجات فقط دون غيرهن، بمعنى أن الصبغ بالسواد يجوز للمرأة المتزوجة التي تتزين به لزوجها، ولكنه يحرم قطعيا على غير المتزوجة، لما يترتب عليه من تدليس أو غش. لكن هؤلاء الذين حرموا الصبغ بالسواد على غير المتزوجات، لم يحرموا عليهن الصبغ بالحناء وغيرها من الأصباغ الأخرى، مع أن هذه الأصباغ تؤدي نفس الغرض الذي يؤديه الصبغ الأسود، وممكن أن تستخدم للتدليس والغش مثله، بل وأفضل منه!
أحد الآراء لم يقنع بالتحريم، ويذهب إلى ‏الكراهة وليس التحريم. وهو مذهب المالكية والحنابلة، وبعض الحنفية والشافعية. بمعنى أن الصبغ بالسواد جائز للجميع، ولكنه مكروه!.
ولو كان كل مذهب قد ذهب إلى رأي من هذه الآراء لكان الأمر أكثر إقناعا، ولككنا عند التحري والتدقيق نجد أتباع المذهب الواحد يختلفون فيما بينهم بين التحريم والإباحة والكراهة، حيث نقل النووي في (المجموع شرح المهذب) أن أتباع المذهب الشافعي، اتفقوا على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد، لكن الغزالي في (الإحياء) والبغوي في (التهذيب) وآخرون غيرهم من الشوافع، قالوا: هو مكروه كراهة تنـزيه.
هذا وقد استند بعضهم إلى حديث منسوب إلى رسول الله، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص)، قال: “إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم”. فاعتبروا هذا الحديث تجويزا للرجال والنساء لاستخدام الصبغ بأنواعه المختلفة بما فيها الأسود، ما دام الصبغ يؤدي إلى مخالفة الكتابيين!.
مع هذا الاختلاف المرير بشأن مفردة بسيطة، تأتي كتب التاريخ والسيرة لتثبت أن كثيرا من الصحابة، وكثيرا من التابعين كانوا يصبغون بما يتوفر لديهم من الصبغ، ولاسيما الأسود لأنه الشائع أكثر من غيره، ففي الروايات أن كبار الصحابة كانوا يخضبون بالسواد في عصر البعثة وبعده، بل وكانوا يحثون عليه، إذ جاء في (المنهيات) لمحمد بن علي الحكيم الترمذي (المتوفى: نحو 320هـ) وابن أبي الدنيا في (العمر والشيب)، وابن قتيبة في (عيون الأخبار) بسنده إلى الخليفة عمر بن الخطاب أنه قال: “اختضبوا بالسواد، فإنه آنس للنساء، وهيبة للعدو”.
فضلا عن ذلك، سكت الخليفة عمر عمن خضب بالسواد، إذ أخرج الحاكم في (المستدرك) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب، رأى عمرو بن العاص وقد سوّد شيْبه، فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ قـال: أمـير المؤمنين أُحب أن تُرى فيَّ بقية. فلم ينهه عن ذلك ولم يُعِبْه عليه.
وأخرج الدولابي في (الكنى) بسنده إلى ابن أبي مليكة: أن الخليفة عثمان بن عفان كان يخضب بالسواد”.
وأخرج الطبراني في (المعجم الكبير) عن سعيد بن المسيب: “أن سعد بن أبي وقاص كان يخضب بالسواد”.
وأخرج ابن الجوزي في (الشيب والخضاب) بسنده إلى عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس قال: “أول من خضب بالسواد المغيرة بن شعبة”.
وروى الطبراني في (المعجم الكبير) بسنده إلى سليم أبي الهذيل أنه قال: “رأيت جرير بن عبد الله يَخْضب رأسه ولحيته بالسواد”.
وروى عن الليث بن سعد، عن أبي عشانة المعافري، أنه قال: “رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد”.
وجاء في (الطبقات الكبرى) لابن سعد بسنده إلى سعيد المقبري أنه قال: “رأيت أبناء صحابة رسول الله (ص) يصبغون بالسواد، منهم عمرو بن عثمان بن عفان”.
إن وجود مثل هذه الروايات يوهن آراء العلماء التي حرمت الصبغ بالسواد، ولذا ذهب كبار أتباعهم مذاهب تعليلية ليبرروا سبب التحريم، فرأى بعضهم أن حكم التحريم يخص الصبغ بالسواد الخالص دون غيره، أما غير ذلك مما يميل إلى السواد أو طغى عليه اللون الأسود، فلا حرج فيه، بدلالة ما رواه مسلم من حديث أنس عن خضاب الخليفة أبا بكر، بقوله: “اختضب أبو بكر بالحناء والكتم”. والكتم نبات يؤتى به من اليمن، يستخرج منه صبغا يعطي لونا أسودا يميل قليلا إلى الحمرة، حيث يكون اللون الأسود طاغ على الحمار الذي فيه. وهذا يؤكد أن حديثهم عن حرمة الصبغ بالسواد غير دقيق ولا أصل له في العقيدة.
ما يعضد رأينا هذا أن هناك أعلام كبار، وضعوا تصانيف مشهورة في الخضاب بالسواد بالذات مثل ابن أبي عاصم الذي ألفَّ كتابا في الخضاب بالسواد، وابن الجوزي الذي وضع كتابا في الخضاب، وكلاهما أكدا من خلال مصنفاتها جواز الخضاب بالسواد دون تحريم أو الكراهة!.
وإذا ما سألتني عن رأيي فأنا لا أرى مبررا لتحريم الصبغ بنوع دون آخر أو لفئة دون أخرى، فأغلب التحريم يكون فيما يخص الجنس قطعيا، فالخمر جنس فيها أنواع، وتصنع من مواد مختلفة كالتمر الزبيب والشعير والتفاح وغيرها، وتختلف ألوانها تبعا للمادة المصنوعة منها، وهي بكل أجناسها وألوانها محرمة تحريما قطعيا، لا يصح معه أن نقول إن الخمر المصنوعة من المادة كذا حلال وغيرها حرام!.
إن الحديث عن تحيل وتحريم وكراهة الصبغ ولاسيما الصبغ بالسواد، واختلاف الآراء فيه، يثبت لنا أن الأعم الأغلب من الاختلافات الفقهية بين المذاهب الإسلامية، ولدت نتيجة الاجتهاد والفهم الخاص للإفتائيين والوعاظ أنفسهم، وإلى بعض كبار الأتباع الذين رأوا في أنفسهم قدرة استنباط الأحكام بدليل أن أدلة جميع الفرق واحدة، ففي حالتنا هذه، أي حديثنا عن الصبغ، نجدهم جميعهم من حرم، ومن كره، ومن أباح بشرط، ومن أباح بشكل مطلق، قد استندوا إلى ذاك الحديث اليتيم دون سواه، ولم يلتفتوا إلى خصوصيته، وإلى الزيادة التي أدخلت عليه، فكان مصدرهم واحد، ولكنهم اختلفوا في دلالة النهي، وتأويل المخالف له، وجاءت أحكامهم متباينة مختلفة، ومعها اختلف أتباعهم فيما بينهم وفيما بينهم وبين المذاهب الأخرى!. وهذا بحد ذاته يدعونا بشدة لأن نوظف جهدنا الكبير من أجل تنقية الأحكام التي نتعبد بها واختيار الأصح والأسلم منها للعمل به، ونبذ ما سواه، لأن الاختلاف بشأنها تسبب لنا غالبا بكثير من المشاكل والإشكالات التي أنهكتنا وأوقعتنا في خلاف مع المسلم الآخر، ومع غير المسلم. ولا وقت أفضل من وقتنا الحالي للبدء بذلك عوضا عن ثقافة التشهير والقطيعة التي طغت على الخطاب الإسلامي بشكل عام!.

اترك تعليقاً