الرئيسية / مقالات / 86 من مقالات مختارة من كتبي في نقد الدين «الإيمان والإلحاد واللاأدرية بتجرد 2/3

86 من مقالات مختارة من كتبي في نقد الدين «الإيمان والإلحاد واللاأدرية بتجرد 2/3

السيمر / الخميس 11 . 05 . 2017

ضياء الشكرجي

هذه هي الحلقة السادسة والثمانون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث سنكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل»، وهذه الثانية من ثلاث حلقات حول الإيمان بالله والإلحاد واللاأدرية والإشكالات المثارة على أدلة وجود الخالق.

الإشكالات على أدلة وجود الخالق
أحاول هنا تناول الإشكالات الأربع التي مر ذكرها في الحلقة السابقة على وجود الخالق، لأرى ما إذا يمكن تصور ثمة إجابة، أو إجابات، إلم تكن مقنعة مئة بالمئة، فلا أقل من أن تكون قابلة للتأمل فيها، ومشتملة على قدر من المعقولية، أو لعله الانتهاء بالإقرار بالعجز عن إعطاء جواب على بعض التساؤلات، وما يترتب أو يمكن أن يترتب على هذا الإقرار بالعجز عن الإجابة.

أولا: غياب العدالة ووجود الشرور في هذه الحياة:
بتصوري هذا يمثل أهم الإشكالات المثارة على الإيمان بالله الخالق. خاصة عندما نتناول قضية الإيمان، ليس من موقع التسليم لمقولات الأديان، وإنما عبر ما يراه المؤمنون العقليون من أدلة عقلية، تستند فيما تستند إليه، إلى دليل واجب الوجود، والذي من لوازمه الكمال المطلق في كل صفاته، وبالأخص كونه عادلا عدلا مطلقا. وبسبب الإيمان بعدل الله آمن من آمن مثلما آمنت بثمة حياة أخرى، يكون فيها الجزاء ثوابا أو تعويضا، وربما عقابا وفق موازين العدل المطلقة. وأيضا بسبب الإيمان بعدل الله رفض الإلهيون العقليون كلا من الأحكام الشرعية للدين، والجزاء الأخروي وفق التصور الديني، لتعارضهما مع العدل، مما جعلهم يختارون أن يكونوا إلهيين لادينيين. ولكن الذي يثار هو كل الواقع الذي هو أبعد ما يكون عن العدل. فهناك ظلم الإنسان للإنسان عبر التاريخ الإنساني، وبكل أنواعه الفردية والجمعية، من جرائم واستبداد وقمع واسترقاق وعبودية، وظلم للمرأة، واعتداء على الطفولة، وجرائم قتل فردية، وإبادة جماعية، واغتصاب، وإلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى، بما في ذلك الظلم والعدوان والإجرام باسم الدين. ثم هناك الكوارث الطبيعية، والعاهات الجسدية، سواء التي تكون بالولادة، أو بسبب حادث، أو جريمة اعتداء، أو مرض، وكذلك ما نجده من فقر ومجاعة، واستغلال، وعدم تكافؤ في الفرص، وتفاوت حتى في طول العمر، بل وتفاوت حاد في الجمال. بل نجد الظلم غير مقتصر على حياة الإنسان، بل يتعداه إلى الحيوانات، مما تتعرض له من افتراس على يد حيوانات أخرى، وصيد من قبل الإنسان، وما تتعرض له مع الإنسان من خلال الكوارث الطبيعية والحروب. كل هذا يجري، ولا يتدخل الخالق الذي نفترض – بل أؤمن شخصيا بذلك يقينا – أنه عادل عدلا مطلقا ولا يرضى بالظلم. فإننا عندما نقرر أنه عادل، لكونه متصفا ذاتيا بالكمال المطلق، كذلك لا يمكن أن ننسب إليه الجهل بما يحصل، ولا العجز عن تغييره، ولا اللامبالاة تجاه خلقه. وهذه بصراحة إشكالية كبيرة تواجهها الفلسفة الإلهية، أعني التي تعتمد العقل، ولا شأن لنا بمقولات الأديان وتفسيرات مفسريها ولاهوتييها وتبريراتهم، مع عدم النفي المطلق أن تكون بعض الرؤى الدينية وتفسيرها لكل ذلك تملك شيئا من الصواب، أو مما يمكن التأمل فيه. فالذين يؤمنون بالله إيمانا عقليا، وجدوا أنفسهم لا يملكون إلا التسليم بحقيقة وجوده، وأعني بالحقيقة، بما يرونه هم كحقيقة. لأنهم عندما تفكروا في أصل الوجود، ورأوا أن لكل كائن علة أخرجته من العدم إلى الوجود، ولامتناع تسلسل العلل عندهم إلى ما لا نهاية تراجعيا، أي إلى ما لا بداية له، حيث ما كان عندها ليكون ثمة وجود، ما كان لهم إلا أن يسلموا بوجود علة أولى لا علة قبلها، هي علة العلل اللامعلولة بعلة لها، وبالتالي فهي واجبة الوجود، وبالتالي وبالضرورة لوجوب وجودها، أزلية وأبدية، ثم من أجل أن تكون خالقة، لا بد لها من أن تكون عاقلة، عالمة، مريدة، قادرة، حكيمة. علاوة على كل الدقة والحساب المتناهي في الدقة، وهذا النظم المحيّر للكون بكل تفاصيله ودقائقه، يجعل من الممتنع، عند هؤلاء – وأنا منهم – أن يتعقلوا انبعاث كل ذلك من غير خالق بالصفات التي ذكرناها آنفا. ولكن حتى الدقة المتناهية هذه تثير بدورها تساؤلات، ألا هي مثلا، ما زال الخالق قادرا على حساب كل شيء بهذه الدقة المتناهية، فلِمَ لم يستخدم دقته في كل شيء. مثلا لماذا الأمراض، أما كان بإمكانه أن يخلق جسم الإنسان على نحو لا يعطل فيه شيء، وأن يخلق الكون بدرجة أكثر من الدقة بحيث لا تحصل الكوارث، وأن يصمم أجسام مخلوقاته من إنسان وحيوان، على نحو يكتفي كل بالغذاء النباتي، حتى لا يضطر الحيوان إلى افتراس الحيوان الآخر، ولا الإنسان إلى قتل الحيوان لحاجته إلى لحمه كغذاء؟ إذن هناك “لماذا” وألف “لماذا” لا جواب مقنعا عليها، لا يتبعه سؤال فسؤال وسؤال. ولكن في المقابل الأدلة العقلية للإلهيين العقليين تلزمهم بالتسليم للإيمان به. أما إجابات الأديان، فمعظمها لا تشفي الغليل، ولا تقنع، بل الكثير منها يمثل تبريرا لا يقبله ولا يعقله عقل عاقل. على سبيل المثال ما يطرح من إن المرض والظلم والكوارث والفقر وإلى غير ذلك ينقسم إلى امتحان وعقوبة دنيوية. فأما الامتحان فهو يزيد من ثواب من يجتازه بنجاح، كما يثيبه على صبره ورضاه بما كتب الله له، ويعوضه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا مخيلة تخيلت، ومن يسقط في الامتحان فله إما العقاب أو مزيدا من العقاب أو تضييعا لثواب. والعقوبة الدنيوية هي على نحوين، إما كمقدمة تتبعها عقوبة أخروية أشد وأدوم، وإما هي عامل تخفيف عن العقوبة الأخروية، أو إلغاء لتلك العقوبة، من حيث إن المعاقب دنيويا لا يستحق أكثر من هذه العقوبة التي صبت عليه في الدنيا. وكذلك لا يمكن أن يقبله عاقل ما يذهب بعض من يسمون بعلماء الكلام أو الإلهيات، بألا وجود للشرور، لأن الشر شيء عدمي، فالعمى عدم البصر، والمرض عدم الصحة، وإلى غير ذلك، فهذا تخريج واضح تهافته ولامعقوليته. فكل هذا الذي يفسرون به الشرور، كله وبصراحة تبرير غير معقول، ولا يجيب على الأسئلة المثارة. نعم شخصيا أقول كما جاء فيما أسميته بالتنزيهية «لا يثيب لمجرد إيمانه أحدا من المؤمنين، ولا يعذب لكفره أحدا من الكافرين، إنما بإحسانه يثيب المحسنين، آمنوا به أو لم يكونوا يؤمنون، وبعدله يجزي المسيئين، كفروا به أو كانوا من المؤمنين، ومن استحق تعويضا عما أصابه أو عما فاته فلن يجد مثله من معوض، إنه أجزل المعوضين، ووفقا لجرم كل يعاقب المجرمين، وكذلك يفعل وفقا لظلم كل بعموم الظالمين، وهو في ذا وذا أعدل العادلين وأرحم الراحمين». لكن هل يمثل هذا جوابا مقنعا لكل التساؤلات والإشكالات بهذا الخصوص؟ بالنسبة لي هو مقنع، لكنه لا يمكن أن يقنع كل الناس، ولا أكثرهم، حتى لو قلنا بأن التعويض لا يقتصر على الإنسان، بل يتعداه إلى الحيوان. من هنا يبقى هذا السؤال مفتوحا، وإن كان بالنسبة لي لا يمثل مبررا للشك مثقال ذرة بوجود الخالق، لكون بقية الأدلة العقلية توجب حسب تقديري التسليم بما نراه حقيقة وجود الخالق. أما افتراض إن الخالق يمكن أن يكون غير عادل، أو أن يكون عبثيا، أو لاأباليا، فهذا يعني إن الخالق متصف بصفات النقص، أو الصفات المذمومة، كالظلم والعبثية واللامبالاة، والتي تنفي عنه صفات الكمال من عدل وحكمة وربوبية. وهنا أقول إن عدم الإيمان بالله أو بأي إله، أي الإلحاد، أو اللاأدرية الإلهية، خير من الإيمان بإله عاجز أو ظالم أو عابث وغير مبال، وهو في كل الأحوال خير من الإيمان بإله الأديان المشرع للأحكام غير العادلة وغير الحكيمة والمجازي في الآخرة خلافا لمعايير العدل.

ثانيا: عدم جعل الله طريقا ميسرا لمعرفته والإيمان به:
هذا الإشكال له مبرراته القوية، طبعا إذا ما اعتبرنا أن الإيمان أو عدم الإيمان ذو قيمة وأهمية لحياة الإنسان الفرد وللمجتمع الإنساني. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي يا ترى حقيقة فائدة الإيمان بالله؟ هل لأن الله محتاج إلى تعرف الإنسان على وجوده، واعترافه بذلك؟ بكل تأكيد إن الله لا يحتاج إلى ذلك. أو هل إن الله يضع الإيمان وعدم الإيمان به في ميزان جزائه، إذا آمنا بالجزاء، وبالتالي يحدد ثوابه للمؤمن به، وربما عقابه للكافر به؟ بما أننا نعلم عبر التجربة الإنسانية إن الاقتناع بشيء، خاصة مما هو خارج دائرة الحس والتجربة، أو عدم الاقتناع به، أمر غير اختياري، لأن الإنسان يجد نفسه في كثير من الأحيان لا يستطيع إلّا أن يقتنع بأمر ما، أو يجد نفسه لا يستطيع إلّا ألّا يقتنع بذلك الأمر، وليس من قبيل المعاندة والمكابرة، بل هي قضية أن أقتنع أو لا أقتنع، مما هو ليس بيدي، وما كان ليس بيدي واختياري، يكون خلاف العدل أن أعاقب عليه. فإذا توصلنا، في حال أننا آمنا بالله، أما إلم نؤمن، فيكون البحث سالبا بانتفاء مقدماته؛ أقول إذا توصلنا إلى أن الله غير محتاج إلى إيماننا به، وهو لا يثيب أحدا على مجرد إيمانه، ولا يعاقب أحدا على عدم إيمانه، لعدم استطاعته بالاقتناع بوجوده، وإذا رأينا عبر التجربة الإنسانية الطويلة، أن الإنسان الجيد والإنسان السيئ، لا يكون دائما الأول منهما جيدا بسبب إيمانه، ولا الثاني سيئا بسبب عدم إيمانه، وبالتالي لا يكون الإيمان، وحتى الالتزام بما يترتب على الإيمان، وما يعرف بالتدين، هو الذي يحدد مدى إنسانية واستقامة وصلاح الإنسان، عندها لا يكون مهما أن نؤمن، أو لا نؤمن، أو نكون لاأدريين. قد يوجه سؤال إليّ، لماذا إذن تصدّع رأسنا بسرد أدلتك على وجود الله ووحدانيته وكماله وتنزهه. فأقول هذا بالنسبة لي له سببان أساسيان، الأول حق كل إنسان أن يفصح عن قناعاته، ويعرض أسباب اعتماده لها، فهذا من قبيل ممارسة حرية الفكر والاعتقاد والتعبير والإفصاح. والسبب الثاني، لأني بعد طول تأمل وعبر التجربة، أي بسبب خلفية فكرية وأخرى تجربية، توصلت إلى قناعة راسخة بضرر الأديان، حتى لو اشتملت على بعض الفوائد، ولأني أريد أن أثبت ضرر الأديان، أو على الأقل عدم جدواها عبر قناعاتي أنا، أو عدم إلزاميتها لعدم إلهيتها، ولأني لا أستطيع أن أعرض الأفكار إلا عبر ما أعتمده، وحيث إن إيماني بالله يمثل بالنسبة لي المقدمة الأولى والرئيسة لنفي الدين، فهدفي نفي الدين أكثر منه إثبات وجود الله، لكن الثاني طريقي إلى الأول. أما اعتقاد الدينيين رادّين على الإشكال بعدم جعل الله سبيلا ميسرة للإيمان به، بأن الله قد عرّف الإنسان بوجوده عبر الوحي وبعث الأنبياء والرسل، وإنزال الكتب، فنقول إن الدين لا يمثل طريقا لمعرفة الله، إلا لمن آمن به وحيا إلهيا، والإيمان به وحيا إلهيا يستلزم قبل ذلك الإيمان بالله، وهنا نسأل كيف يمكن للإنسان التعرف على حقيقة وجود الله، مازال طريق معرفته منحصرا في الدين من جهة، ومن جهة أخرى يستلزم التصديق بالدين بوصفه وحيا إلهيا الإيمان بالله أولا. إذن هناك كما يعبر في المنطق دور، والدور محال، إذ إن الإيمان بالله متوقف على التصديق بالدين، لكن التصديق بالدين كوحي إلهي متوقف من جهته هو الآخر على الإيمان بالله أولا، لأننا لا نستطيع أن ننسب وحيا إلى الله، ما لم نكن مؤمنين به أولا. ثم وبقطع النظر عن الطريق الذي يؤدي إلى الإيمان بالله، عندما يؤمن المرء به جلّ وتنزه وتعالى، ويتعمق في إيمانه ومعرفته بالله، ويدرك وجوب اتصاف الله بالكمال المطلق، ثم يعلم إن العدل والرحمة والحكمة بالمدى المطلق لكل منها من لوازم كماله، ثم يكتشف الكثير الكثير في الدين، مما يتنافى مع العدل والرحمة والحكمة، لا يملك إلا أن يتوصل بلاإلهية مصدر الدين، إذن معرفة الله عن طريق الدين تبقى معرفة مشوبة، وشوائبها لا تبقى على مستوى النظرية، بل يترتب عليها أضرار كثيرة للفرد والمجتمع الإنساني. نعم، ربما يكون الدين للبعض في البداية طريقا إلى معرفة الله، ولكن مع نمو وتعمق تلك المعرفة، سينتفي عنده صدق الدين. أرجع وأقول إن الإقرار بوجود الله أو عدمه مما لا يحتاجه الله ولا يحتاجه الإنسان. نعم الإيمان به يمثل – حسب قناعتي – زيادة في الكمالات التي يتحلى بها الإنسان، وكمالات الإنسان متعددة ومتفاوتة في قيمة كل منها. قد يقول المؤمنون بالله بأن معرفة الله والإيمان به وتوحيده وتنزيهه وحبه وترتيب الأثر الروحاني والأخلاقي على هذه المعرفة هي أول وأهم الكمالات، أقول رغم يقيني بالله كحقيقة مطلقة، ومطلقة الجمال والجلال والكمال، ليس من دليل على أنها أهم الكمالات الإنسانية.

ثالثا: عدم تدخل الله في نفي ما نسب إليه من قبل الأديان:
إذا ثبت صحة ما أذهب ويذهب اللادينوين إليه، وهو عدم صدق دعوى انتساب ومصدرية الأديان إلى الله، وتاريخ البشرية، على أقل تقدير، منذ ما يقارب الثلاثة آلاف سنة حافل بالأنبياء والرسل والأديان والكتب المقدسة التي تنسب نفسها إلى الله، وقد صدقت بها نسبة كبرى من البشر، عبر أجيال وقرون وأحقاب، ودفعت الإنسانية ثمن ذلك تكفيرا متبادلا وحروبا مقدسة، علاوة على اشتمال هذه الأديان على الكثير من الخرافات، وما يتعارض مع العلم، ناهيك عما يتعارض مع المثل الإنسانية كالعدل والمساواة والمحبة والسلام، وفوق كل ذلك قد نسبت هذه الأديان أحكاما تتقاطع مع مثل الله، وأعطت تصورا عن جزاء أخروي نسبته إلى الله يتعارض مع عدل الله ورحمته. لِمَ لَم يتدخل الله يا ترى إذن لإظهار عدم صحة هذه المدعيات المنسوبة إليه؟ محق من يثير هذه الإشكالية. لكن هنا يبرز إلينا سؤال، هو إننا إذا ما نفينا وجود وحي إلهي، كيف ننتظر من الله أن ينزل إلينا وحيا، يخبرنا عبره أنه لم ينزل وحيا؟ وإلا فبأي وسيلة ننتظر من الله أن يظهر عدم صدق ما نسب إليه من أديان؟ سيقول قائل، وهو محق تماما، هذا ليس شغلنا، بل شغله، أليس هو على كل شيء قدير؟ إذن بإمكانه أن يجد طريقة لإثبات عدم صدق دعاوى الوحي والنبوة والرسالة. هنا أقر بأن هذا السؤال يبقى ربما بلا جواب مقنع ونهائي.

وإلى الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا البحث.

اترك تعليقاً