السيمر / الأربعاء 20 . 02 . 2019
زيد شحاثة
تربت أجيال عربية كاملة, على فكرة أن فلسطين هي قضيتهم الأولى, كأمة عربية وإسلامية.. ولم يختلف في هذا الموقف, حكم الشيوخ أو الأمراء أو الجمهوريات حتى, ديكتاتورية كانت أو حرة.. على ندرة الديمقراطيات فيها. لم تعد فكرة تحرير فلسطين, بتلك الجاذبية التي تربينا كلنا عليها وكبرنا, بل صارت قضية مسكوتا عنها, أو لنقل أن الجميع تسالم على ذلك.. ويرغب في ركنها جانبا. تلك الرغبة لم تكن ” إختيارية” لمعظم من إتخذ هذا الموقف, بقدر ما يتعلق الأمر بضغوطات ومصالح وصلت ذروتها مع حدوث الربيع العربي.. وتهديده لمعظم أنظمة الحكم القائمة, بعد أن أطاح بعدد من أسوء وأشرس وأقوى نماذجها القبيحة, وهذا أوصل الرسالة الأمريكية للعرب كلهم وبكل وضوح! يذكر كلنا أن الموقف مع إسرائيل, تغير تدريجيا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة, من مطالبات ثورية بالمقاطعة الشاملة, حتى لو تطلب الأمر الإنسحاب من منافسة رياضية.. ثم تحول نحو رؤية تدعو “للتعقل” ورضوخ “لأمر واقع” إبتدأ مغاربيا, وجوبه في حينها بمواقف, إستنكارا وشجب علنية فارغة لا تغني ولا تسمن من جوع, ولكن ما سرب في كثير من الأوقات, فقد كانت هناك زيارات سرية تسبق ذلك التاريخ بكثير. إتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل, رغم ما رافقها من مقاطعة لمصر نفسها, كان لها أثر وقتي حينها, فمصر ليست دولة يسهل للعرب مقاطعتها, وكان تولي مبارك للرئاسة بعد مقتل السادات, حجة كافية للعرب, ليعيدوا علاقتهم بمصر, بل ويرجعوا مقر جامعتهم العربية, قريبا من مقر السفارة الإسرائيلية.. وكأن المشكلة كانت في شخص الرئيس المصري السادات وبموته حلت! كان لغزو صدام للكويت, وما رافقه من موقف أمريكي “تأريخي” في تحريرها, وحماية دول الخليج من تهديدات نظام صدام, أثر كبير في تحول الموقف العربي, وخصوصا ” الخليجي” فيما يتعلق بتقبلها لرؤية أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط, وكيفية حل نزاعها المزمن, وطريقة ” تكييف” القضية الفلسطينية, بما يضمن “مصالح” الجميع! تتالت المواقف المتراجعة عن الموقف المقاطع للكيان الإسرائيلي, بل وصار هناك تسابق نحو مد صلات الصداقة سرا وعلانية, بحجة ملتقيات دولية أو منتديات إقتصادية, ثم أنتقلت لتكون للقاءات مباشرة ” لمسؤولين سابقين”.. لكنها كلها كانت غير معلنة, أو تسرب من طرف الإسرائيليين, ربما لإحراج زوارهم, ودفعهم إضطرار لبيان تطبيعهم بل وتلهفهم لمثل هذ العلاقات! معظم تلك الدول, كان يجمعها مع إسرائيل, بغضها وخوفها من قوة إيران المتنامية, ونفوذها المتزايد.. خصوصا بعد توقيع أمريكا في عهد الرئيس أوباما إتفاقهما النووي, وهو ما عد في حينه نصرا سياسيا ودبلوماسيا بارزا لإيران, خصوصا من قبل خصومها, على الضفة المقابلة من الخليج العربي.. وبدلا من محاولة التفاهم مع أيران بطريقة ” تقاسم النفوذ” كان خيارهم الجري نحو الحضن الأكثر دفأ ومعاداة لإيران.. فكانت إسرائيل! حادثة مقتل خاشقجي بتلك الطريقة البشعة, عجلت بشكل كبير في دفع حاكم الخليج الأكبر, ومالك زمام المبادرة في المواقف ليحسم خياراته طلبا للرعاية الأمريكية.. وإمارات الخليج كلها لا تتخذ موقفا مخالفا أو بعيدا جدا عن الموقف السعودي.. ويستثنى من ذلك قطر, بعد الأزمة الأخيرة بينهما, لكن قطر سبقت الجميع, في فتح روابط التواصل العلنية مع إسرائيل, فكان لزاما أن لا يسمح لقطر أن تكون هي الأكثر نجاحا في هذا الملف.. مؤتمر وارسو كان خطوة أمريكا الأهم, لتدفع كل حلفائها, ليعلنوا صراحة أن لا مشكلة لديهم مع إسرائيل, وأن العدو الحقيقي هو إيران.. وأن تحالفها مع إسرائيل ولو من باب وحدة العدو هو امر مقبول ويحقق مصالحهم المشتركة. كان المؤتمر فعالية تحمل رسائل بأكثر من إتجاه.. منها ما يوحي بتهديد مباشر لإيران, خصوصا مع ربطه بالمؤتمر اللاحق الذي عقد في ألمانيا للبحث حول “الأمن في الشرق الأوسط”.. ورغم أن لا أحد يتوقع أن تغامر أمريكا بشن حرب أو عمل عسكري ضد أيران ولن تجرؤ إسرائيل كذلك, لكن هو وسيلة ضغط ليس على أيران فحسب, بل وحتى على الحلفاء من الدول الأوربية, التي لم تنسحب من الإتفاق النووي لحد الأن.. لكن الهدف الأهم, هو علانية العلاقة مع إسرائيل, وهو ما تحقق وبكل وضوح. القضية الفلسطينية لن تحل بصفقة القرن, فهي أعقد من أن تنهى بصفقة سياسية أو مالية ما.. وقبول بعض الحكام العرب بإسرائيل صديقا إبتعادا عن أيران لن يحل المشكلة مع أيران, فهي دولة لا يمكن الإستهانة بقدراتها, ولديها من الأوراق ما يمكنها من ملاعبة خصومها, بشراسة قد تفاجأهم جميعا.. وهذا ما تلمح له أيران من فترة. ورقة التوت قد سقطت, وصارت المواقف معلنة جهارا نهارا, ولم يعد يخجل منها أحد.. وهذا اكبر نجاح حققته أمريكا وإسرائيل, تجاه الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.. فالعرب بعد أوسلوا, لم ولن يعودوا كما قبلها.