السيمر / الجمعة 14 . 10 . 2016
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
كأن من حق اليهود وحدهم دون سواهم أن يفرحوا ويمرحوا، وأن يحتفلوا ويبتهجوا، وأن يغنوا ويرقصوا، وأن يلعب أطفالهم ويتسابق شبابهم، وأن تتزين نساؤهم وتزهو بناتهم، وأن يعقدوا الحلقات ويقيموا الطقوس، ويأكلوا الحلوى ويوزعوا الورود والسكاكر، وأن يزينوا البيوت والمنازل، وينيروا الشوارع الطرقات والمعابد والكُنُس، وأن تكون أعيادهم ومناسباتهم محل تقدير العالم واحترامه، الذي عليه أن يهيئ لهم أسباب الفرح وسبل الابتهاج، وأن ييسر لهم مقومات النجاح، وأن يضمن لهم الأمن والسلامة، فلا يعتدى عليهم، ولا تفسد فرحتهم، ولا يعكر عليهم صفو العيد وهناء الفرحة أحد.
لو أن الأمر يقتصر على احتفال أتباع الديانة اليهودية بأعيادهم وفق الأصول وضمن الحدود، بما لا يشكل اعتداءً على الآخرين أو إساءةً إليهم، أو تضييقاً عليهم، أو حرماناً لهم أو انتقاصاً من حقوقهم، لهان الأمر وسهُل، وكان من حقهم أن يبحثوا عن كل الضمانات لسلامتهم وتمام احتفالاتهم، وما كانوا قد وجدوا من أحدٍ اعتراض، أو من غيرهم شكوى، ذلك أنه من حقهم كأتباع أي دينٍ آخر في العالم أن يحيوا مناسباتهم، وأن يحتفلوا بأعيادهم، إذ لا يحق بموجب القوانين والأعراف الدينية والدولية لأي جهةٍ أياً كانت أن تحرم أصحاب دينٍ من ممارسة شعائرهم، أو إحياء مناسباتهم وفق طقوسهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم التاريخية الموروثة، وإلا أُعتبر منعهم اعتداءٌ صارخٌ على حريتهم، ومصادرة مستنكرة لحقوقهم.
لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة تريد لمستوطنيها اليهود أن يحتفلوا على حساب الفلسطينيين، وأن يفرحوا على أحزانهم، وأن يرقصوا على جراحاتهم، وأن يصخبوا على صمتهم، وأن ينسجوا أثواب الفرح من أجسادهم، وأن يلونوا شوارعهم وبلداتهم بدمائهم، وأن يحيوا حفلاتهم على أصوات أنينهم وصرخات آلامهم، وأن يضحك أطفالهم على معاناة الأطفال الفلسطينيين وآلامهم، وأن يرسلوا لهم في أعيادهم صواريخ قد رسموا عليها صوراً فيها يتهكمون، أو كلماتٍ بها يهزأون، أو قذائف مدفعية أطلقوا عليها أسماءهم وعناوينهم، وأودعوها رسائل الموت وبرقيات الدمار والخراب.
قبل حلول الأعياد الدينية اليهودية والمناسبات الرسمية والقومية الإسرائيلية، تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإغلاق المناطق الفلسطينية، وتفرض عليها طوقاً محكماً وحصاراً مشدداً، وذلك قبل أيامٍ طويلةٍ من المناسبة، فتمنع خروج السكان من مناطقهم، وتحول دون دخول السيارات إلى مناطقهم، وتغلق كل المعابر التجارية والمخصصة للمسافرين والبضائع، وتمنع الدخول والخروج من الأراضي الفلسطينية، وتسحب أو تعطل بطاقات المهمات والشخصيات الهامة، وتبقى على الإجراءات العسكرية القاسية سارية المفعول بقوةٍ وحزمٍ حتى بعد أيامٍ من انتهاء المناسبة، علماً أن بعض أعيادهم تستمر أياماً طويلةً، فضلاً عن أنها أعيادٌ ومناسباتٌ كثيرة، ما يعني أن الإغلاقات العسكرية تتواصل وتستمر، والتضيق على الفلسطينيين يزداد ويتضاعف.
أما المسجد الأقصى في القدس والحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، فإنهما يغلقان أمام المصلين، ويمنع الفلسطينيون من الدخول إليهما والصلاة فيهما، بينما تفتح بوابات الحرمين للمستوطنين اليهود يجوسون فيهما، ويدخلون إليهما، بحجة السياحة أو الصلاة، أو إقامة الطقوس اليهودية في حائط البراق “حائط المبكى”، وأحياناً يجتاحون الحرم الإبراهيمي بأعدادٍ كبيرةٍ من المستوطنين والجنود بلباسهم العسكري، فيصلون في كل زاويةٍ وركنٍ، ويتحلقون في باحاته ويرقصون، أو يعقدون في داخله عقود القران أو يجرون عمليات الختان، بينما يمنعون الفلسطينيين من الدخول إلى الحرم، ويمنعون المؤذن من رفع الآذان أو إقامة الصلاة فيه خلال فترات وجودهم، ويجبرون الفلسطينيين من جيران الحرم على إغلاق نوافذ منازلهم وعدم فتحها أو النظر من خلالها إلى صحن المسجد أو الطريق المؤذية إليه.
الويل كل الويل لكل من تسول له نفسه أن يعكر عليهم صفو عيدهم، أو يفسد عليهم هناء احتفالاتهم، فإنه إما أن يقتل ويتهم بأنه هدد حياة مستوطنيهم وعرضها للخطر، وأنه كان يسعى لتخريب احتفالاتهم وبعملياتٍ عسكرية، أو يلقى القبض عليه ويعتقل، ويعرض على قضائهم العسكري ويحكم عليه بالسجن لفترات بتهمة التحضير لأعمالٍ تخريبيةٍ، أو تقديم مساعداتٍ لجهاتٍ معاديةٍ، ولا يستثنون من اعتقالاتهم العمال المتأخرين في مناطق عملهم، أو الذين يتعذر عليهم مغادرة المناطق التي كانوا فيها، ولا يشفع لبعضهم حالتهم الصحية أو فئتهم العمرية، أو أوراقهم الرسمية، إذ لا يوجد عند سلطات الاحتلال نوايا بريئة، أو مصادفاتٌ غير مشبوهةٍ، بل إن كل من يثبت وجوده في مناطقهم متهمٌ بالجريمة ومعرضٌ للسجن والعقاب.
ليس أكثر من الأعياد اليهودية، الدينية والقومية، التي يحتفل بها اليهود سنوياً، ويلتزمون بها بانتظامٍ في فلسطين المحتلة، ويعدون لها قبل حلولها بفترةٍ طويلة، ويتجهزون لها بما يناسبها من الأزياء والهيئات، والطقوس والأناشيد والترنيمات، وفقاً لتعاليم دينهم، وانسجاماً مع تقاليدهم المعروفة وعاداتهم الموروثة، وهي أعيادٌ كثيرةٌ جداً، تغطي العام كله، وتصبغ السنة العبرية بمناسباتها الكثيرة، كعيد العرش والمساخر والأنوار والفصح والبوريم والمظلة والشجرة والتاسع من آب ورأس السنة العبرية وغيرها، وعلى الفلسطينيين احترامها وعدم تعكير الأجواء خلالها، هذا فضلاً عن عطلة يوم السبت الأسبوعية التي تبدأ قبل مغيب شمس الجمعة وحتى صبيحة يوم الأحد، ما لم تقم سلطات الاحتلال بتمديدها.
غريبٌ أمر هؤلاء اليهود، كيف يفرحون على أحزان غيرهم، وكيف يبنون سعادتهم على شقاء جيرانهم، وكيف يرضون لأنفسهم الفرحة بينما غيرهم يعذب ويضطهد، ويعاني ويتألم، ويحرم ويحصر، ولكن هذا الأمر ليس بالغريب عليهم ولا بالمستنكر فيهم، وهم الذين كانوا في التاريخ وأثناء وجودهم في أوروبا، يخطفون الأطفال المسيحيين ويوخزونهم بالإبر ويصفون دمائهم في قدورٍ، ثم يصنعون بها فطيرة العيد، كي يفرح بها أطفالهم، ويأكل منها جميع سكانهم، فإن من يقوم فرحه على دماء الأطفال الأبرياء، ليس غريباً أن يبني سعادته على شقاء الآخرين، ويحيي مناسباته ويحتفل بأعياده على حساب حرية وحياة الفلسطينيين المعذبين.