السيمر / الخميس 02 . 03 . 2017
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
انشغل الكيان الصهيوني على مدى أكثر من عامين في إجراء تحقيقٍ مسؤولٍ حول عدوانه الأخير على قطاع غزة صيف العام 2014، ليتعرف على أسباب عجز جيشه وفشل حكومته في تحقيق الأهداف المرجوة من الحرب، وبيان الأسباب التي أدت إلى تكبده خسائر بشرية، ووقوع عددٍ من ضباطه وجنوده أسرى في أيدي المقاومة، والعجز عن تحريرهم أو بيان حالتهم الراهنة إن كانوا أحياءً أو قتلى، الأمر الذي أقحمهم في معركة كرامةٍ من جديدٍ، كتلك التي مرغت أنوفهم بالتراب، والتي أفضت إلى مبادلة الجندي جلعاد شاليط بمئات الأسرى الفلسطينيين، كما عجز الجيش عن ردع المقاومة وتخويفها، وهو الذي كان يدعو لكي وعيها وغسيل دماغها، إلا أنها خرجت من الحرب بروحٍ معنويةٍ عاليةٍ، مكنتها من إعادة ترميم قدراتها العسكرية، وتجهيز ترسانتها الصاروخية، ومباشرة حفر الأنفاق الاستراتيجية.
تكفل مراقب الكيان الصهيوني بإجراء تحقيقٍ نزيهٍ، ووضع تقريرٍ دقيقٍ عن الحرب الذي تاه فيها النصر وتعذر، فاستعاد الأحداث، واطلع على أرشيف الجيش والمخابرات، ومحاضر لقاءات واجتماعات رئيس الحكومة، واستعان بخبراتٍ كثيرة، ودرس القرارات التي اتخذت من جميع المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية، والتوصيات التي تقدم بها المختصون قبل المباشرة بالحرب، إلى أن تمكن بعد بحثٍ مضني، وسعيٍ دؤوب، وتحقيقٍ شفافٍ، من إصدار تقريره الخاص حول الحرب.
دون مراقب الكيان في تقريره استنتاجاته وملاحظاته على الأشخاص والأحداث، إلا أنه لم يأتِ بجديدٍ يذكر، ولم يخالف التوقعات التي سبقت، إذ أن أغلب المعلومات التي قدمها، والاستنتاجات التي خرج بها، والأسباب التي عددها، هي نفسها التي أثارها الرأي العام الإسرائيلي، وذكرتها وسائل الإعلام المختلفة، وكتب عنها أغلب المختصين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين، الذين أكدوا فشل الحرب، وعجز الجيش عن تحقيق أهدافه، ومفاجئته بالأنفاق وخبرة عناصر المقاومة، والجاهزية الكبيرة والقدرة الفائقة والكفاءة العالية التي تحلى بها رجال المقاومة، والاختراقات العسكرية التي قامت بها كالالتفاف خلف خطوط النار، والنجاح في الوصول إلى الشواطئ الإسرائيلية، ومهاجمة الثكنات البحرية، ونجاحها في تصوير وتوثيق عملياتها، الأمر الذي أثر على الروح المعنوية للجيش والشعب، الذي أصيب بعضه بالصدمة والذهول.
لن يسقط تقرير مراقب الكيان رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، ولن يزعزع منصبه في رئاسة الحكومة أو قيادة حزب الليكود، ولكن خصومه في المنصبين معاً قد يستغلوا التقرير في التأثير على مستقبله السياسي في أي انتخاباتٍ قادمةٍ، حيث سيخضع حينها لرأي الجمهور، وسيكون للناخبين دورٌ في محاسبته عبر صناديق الانتخابات البرلمانية أو الحزبية، ولهذا فقد يقدم على تحسين صورته، وتصحيح سياسته، فيوافق على الدخول في حربٍ جديدةٍ، وفق معايير مختلفة، تتجنب العيوب السابقة، وتتجاوز الخلل الذي وقع فيه، سواء لجهة دقة تقدير المخاوف وتحديد الأخطار، أو لجهة تعميم المعلومات وعدم إخفائها عن بقية أعضاء الحكومة، وخاصة أعضاء الكابينت المعني بقرارات الحرب ووقف إطلاق النار.
أما وزير حرب العدو السابق موشيه يعالون ورئيس أركانه في ظل الحرب بيني غانتس، فقد تركا منصبيهما وغادرا موقعيهما، حيث تخلى الأول عنه بإرادته ورغبته، بينما غادر الثاني منصبه بموجب القانون، ولذا فإن حجم تأثير التقرير عليهما سيكون محدوداً جداً، وإن أدانهما وحملهما المسؤولية، إلا أنه لن يشكل عقبةً أمام مستقبلهما السياسي في حال قررا الدخول إلى الحلبة السياسية، ولعلهما مرشحين لأدوار مستقبلية رفيعة، الأمر الذي سيدفعهما إلى التدقيق في الخطوات القادمة، والعمل على تحسين صورتهما والتخلص من الشبهات التي حامت حولهما، علماً أنهما يحملان المستوى السياسي الأول المسؤولية الكاملة عن الفشل في الحرب، بسبب سياسة الارتعاش التي كان نتنياهو يمارسها، والتي تنطلق من حرصه على منصبه في رئاسة الحكومة، أكثر من حرصه على كفاءة الجيش وسمعة المخابرات.
علق بعض الضباط الإسرائيليين الذين شاركوا في العدوان على تقرير مراقب الدولة بقولهم “الحرب الأخيرة على قطاع غزة ولت، ونتطلع للمعركة القادمة في غزة، فوضعنا الآن يتحسن يوماً بعد يومٍ، وننظر ليس فقط لما حدث بل لما سيحدث”، ولعل هذا هو لسان حال العديد من المسؤولين الإسرائيليين الأمنيين والعسكريين والسياسيين، الذين يرون في تقرير مراقب الدولة دافعاً لهم لتصحيح أوضاعهم، وتحسين ظروفهم، والنهوض بقدراتهم العسكرية بما يمكنهم من رد الاعتبار لجيشهم، وإعادة الهيبة التي اهتزت، والخروج من الخيبة التي لازمتهم السنوات الأخيرة.
فالتقرير لا يعالج ما مضى، بل يضع الأسس لما سيأتي، ويرمي إلى التعلم للحرب القادمة، والاستفادة من الأخطاء السابقة، لا لجهة فرض السلام واستقرار الأمن واحترام الفلسطينيين، بل بقصد خوض حربٍ جديدةٍ، وافتعال معركةٍ أخرى، تشطب الماضي، وتعيد رسم الصورة من جديد، وقد تهيأ المجتمع الإسرائيلي، ومعه الجيش والحكومة لهذه الحرب، وإن كانوا لا يبدون فيها استعجالاً، ولا يرغبون في المباشرة بها الآن، بسبب الظروف العامة المحيطة، وخشية تبدل الأوضاع والتفاف الدول العربية حول المقاومة من جديد، خاصةً أن الحكومة الإسرائيلية تتلقى نصائح وأماني من بعض الأنظمة العربية بالتريث وعدم التسرع، وبالحكمة وعدم التهور، خشية اندلاع حربٍ جديدةٍ في غزة تكشفهم وتفضحهم، وتعري مواقفهم أمام شعوبهم والأمة.
قد لا يفيد التقرير العدو الصهيوني فقط، عندما يدعوه إلى مراجعة سياساته، والعمل على تجنب أخطائه، ومعالجة العيوب التي عانى منها، ولكن المقاومة الفلسطينية قد تستفيد من التقرير إن أحسنت قراءته، وعرفت الاتجاهات التي سيذهب إليها جيش العدو في عدوانه الجديد، والنقاط التي سيركز عليها والثغرات التي سيعمل على تجازوها وعدم التهاون فيها، وهذا من شأنه أن يدفع المقاومة إلى العمل المضاد في كل الجوانب، بما يسلب العدو التطور والاستعداد، والتفرد في قرار الحرب، ويمنعه من محاولة الاستفادة من تجربته السابقة، وهو ما يخشاه العدو من المقاومة فعلاً، التي تقوى بعد كل حربٍ، وتتعاظم قدراتها بعد كل معركة.