السيمر / الثلاثاء 28 . 11 . 2017
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
بات من الواضح أن مرحلة الانقسام الرسمية والفعلية قد انتهت، ولم يعد لمفرداتها وجودٌ ولا لأدواتها مكانٌ، ولا لأطرافها سلطةٌ أو نفوذٌ، فقد نعاها أقطابها، وأعلن وفاتها رعاتها، وتخلى عن رعايتها المتعهدون، وانشغل عنها المتمولون، وخاب المستفيدون والمنتفعون، ولم يعد من السهل انبعاثها من جديد، أو تكرارها مرةً أخرى، فالظروف الدولية والإقليمية قد تغيرت، والأوضاع المحلية والعربية لم تعد تحتمل، ونتائج الانقسام أصبحت للعيان وخيمة، ومظاهره قاسية، وتداعياته خطيرة، وقبول المواطنين له أو به صعبٌ، واعتراف قوى إقليمية أو دولية به من جديدٍ مستحيلٌ، وبذا يكون الإعلان عن انتهاء مرحلة الانقسام رسمياً ونهائياً، وقد صاحب الإعلان العتيد حالة فرحٍ وحبورٍ، وسعادةٍ ورضا، وتفاؤل واستبشار، بأن الغد أجمل والقادم أفضل، والمستقبل أكثر أملاً وإشراقاً، وأن العقوبات سترفع والحصار سينتهي، والاقتصاد سيزدهر والرخاء سينتشر والرفاهية ستعم.
ولكن انتهاء الانقسام لم يحقق المصالحة الفعلية، ولم يخلق الوحدة العملية، ولم ينهِ التناقضات والاختلافات، ولم يقضِ على ازدواجيات القوى وتنازع السلطات، وتصادم النفوذ وتعارض المصالح، ولم يساعد في رحيل المستفيدين والمنتفعين، والخائفين على مصالحهم، والساعين لتحقيق منافعهم، كما لم يقرب وجهات النظر، ولم يذيب الجليد المتكلس بين أطراف الانقسام، ولم يخلق قناعاتٍ حقيقة بالتقارب والاتفاق، والتعاون والتنسيق، والقبول بالشرعية والاحتكام إلى القانون، فصُدمَ المواطنون، وبُهت الناس وخاب ظنهم، وخيم على وجوههم وجومٌ ويأسٌ، وعادوا بأملهم القديم الذي ظنوا أنه سينطلق وسيحلق إلى قفصه المحكم الإغلاق، وفرح هنالك المبطلون، وضحك الشامتون، ورقص الأعداء وغنى طرباً الخصوم.
إنها الحقيقة التي يجب أن نعترف بها يقيناً ولا نكابر فيها ولا ندعي، ولا نحاول أن نتجمل كذباً أو نتزين زيفاً، أو أن نوهم أنفسنا ونخدعها ونضحك على الآخرين ونحبطهم، أننا قد غادرنا مربع الانقسام وتناقضاته، لكن ليس إلى مربع المصالحة والاتفاق، بل إلى مرحلة جديدةٍ اسمها خفض التوتر، والتي تفرض على جميع الأطراف مفاهيم جديدة تقوم على أساس إدارة الاتفاق وتسييره، والتي تعني الاعتراف بأن الانقسام متجذر، وقواعد الاختلاف باقية، وأسسه متينة، وأشخاصه أقوياءٌ حاضرون، ولكن أشكال الاتفاق الظاهرية موجودة، وهو ما يجب إدارته والتعامل معه بحكمةٍ وتعقلٍ، بحيث تبقى الأوضاع العامة كلها تحت السيطرة، فلا صراع مسلح، ولا اقتتال دموي، ولا عودة بالقطاع وسكانه إلى ما كان عليه على مدى أكثر من عشرة سنواتٍ.
ومما يؤكد فشل المصالحة وإن انتهت مرحلة الانقسام، ما يطالعنا به مسؤولون كبار في السلطة الفلسطينية بفنعة التمكين، وهو مصطلحٌ جديدٌ لم يكن موجوداً سابقاً، ولم يسبق لمفاوضي السلطة أن طالبوا به، ذلك أنهم ما كانوا يحلمون يوماً أنهم سيدخلون غزة بمفردهم من جديدٍ، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق مصالحة بين أطراف الانقسام جميعاً، علماً أن عملية التمكين التي يترنمون بها، إنما يقصدون بها جمع سلاح المقاومة بحجة وحدانية سلاح السلطة، وعدم شرعية أي سلاحٍ آخر، وعملية التمكين التي ترجوها السلطة قد تتطلب أشهراً وسنين طويلة، وقد لا تتمكن من بسط سيطرتها التامة على أرجاء القطاع، وتمكين وزاراتها من العمل المطلق والسيادي، إذا كان هدفها الحقيقي هو نزع سلاح المقاومة.
تحاول السلطة الفلسطينية تبرئة نفسها بأنها ليست حرة في مواقفها، وغير مخيرة في شروطها، وأنها غير قادرة على المضي في المصالحة دون ضوء أخضر أمريكي، بل إن بعض رموزها يصرحون أنهم يتعرضون لضغوطٍ أمريكيةٍ شديدةٍ، صريحةٍ وواضحةٍ، وأن الإدارة الأمريكية تبتزهم وتهددهم، وقد أقدمت بالفعل على إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ورفضت التجديد للمنظمة، ولهذا فإنها تهيب بالأطراف تفهم الظروف والقبول بالأمر الواقع، والتسليم بالمتغيرات الحادثة، والاستجابة إلى شروط المرحلة وفرضياتها.
لكن حركة حماس ومعها كل القوى الفلسطينية المقاومة والمناضلة، والأجنحة العسكرية والكتائب المسلحة، تعلم أن سلاحها هو حصنها وملاذها، وهو الذي يحميها وشعبها، وهو الذي يرد العدو ويصده، وهو الذي يكيده ويزعجه، ويخيفه ويردعه، وأنها بدونه تصبح ضعيفةً ذليلة، مهانةً مستباحةً، يعتدي عليها العدو وقتما يريد، ويجتاح مناطقها إذا أراد، ويعتقل من أبنائها من شاء، إذ لا توجد قوة تردعه، ولا مقاومة تصده وتوجعه، لذا فإنها لن تتخلَ عن سلاحها، ولن تفرط بمكامن عزتها وأسباب قوتها مهما تعذرت المصالحة، وتعطل ما تسميه السلطة بالتمكين، وتأخر الإصلاح واستمر الحصار وتضاعفت العقوبات.
تعتقد السلطة الفلسطينية أن حركة حماس قد تنازلت مرغمةً عن سلطتها في قطاع غزة، وأنها لم تعد تحتمل المزيد من الضغوط الدولية والإقليمية، فضلاً عن عجزها عن تلبية حاجات الشعب المتزايدة، وهي حاجاتٌ طبيعية لا يمكن السكوت عنها، أو التقصير فيها، فاعتقدت رام الله أن الظروف العامة لم تعد تخدم حركة حماس، وأنها باتت تخدمها أفضل، وتصب في صالحها أكثر، وأن ميزان القوى يميل لصالحها، ولهذا رأت أن تشتط في شروطها، وأن تتمنع في مواقفها، فتمادت في رفضها، وأخذت تحاول فرض شروطٍ جديدةٍ لا يقبل بها أغلب الفلسطينيين، ولا توافق عليها تنظيماته وفصائله، بل يشعرون أنها ليست شروطاً فلسطينية بقدر ما هي إسرائيلية وأمريكية، حيث تحاول الحكومة الإسرائيلية من خلال المصالحة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه بالغزو والاجتياح وقوة السلاح، مستغلةً الحصار المفروض على القطاع، والتضييق السياسي على حماس، وجفاف منابعها المالية، وفقدانها الجغرافيا السياسية.
أمام هذا الواقع الذي يبدو أنه كالجدار الأصم أو كالحائط المسدود، حيث لا يمكن للمقاومة أن تتخلى عن سلاحها، في الوقت الذي لا تتمكن فيه السلطة الفلسطينية من تمرير اتفاقية وطنية خالصة، تحقق من خلالها الاستقلالية والسيادة الفلسطينية، لذا فإن الأطراف جميعاً سيدخلون في مرحلةٍ جديدة اسمها إدارة المصالحة، والعمل ضمن الحد الأدنى الممكن والمتاح، لكن دون الولوج إلى مصالحة حقيقة، أو ترجمة فعلية لبنودها، وقد تطول هذه المرحلة وتستمر، وقد يبنى عليها جديدٌ آخر يضر بالشعب والقضية، ويخلق واقعاً جديداً يريده العدو ويسعى له، وقد لا نقوى على رفضه، ولا نملك القوة لصده ومنعه، ولا نجد الظروف المواتية لمقاومته وإفشاله، وساعتئذٍ لن يكون خاسرٌ سوانا أو متضررٌ غيرنا.