السيمر / الخميس 21 . 12 . 2017
صالح الطائي
(من وحي ذكريات العمر)
منذ أن بلغت مرحلة الوعي الأولى، وأدركت أن هناك في الحياة معركة بين الخير والشر، وأن النظم السياسية هي مصدر الشر في العالم كله على الإطلاق، وان الإنسان كان ليحيى بنعيم سرمدي لولا الحكام؛ منذ ذلك الوقت المبكر والموت يطاردني، ينهكني، يترصدني في انحناءات طريقي ختلا، يقتنص الفرص ليوقع بي، يقدم لي الإغراءات لأدخل قفصه طوعا، يحث الآخرين على معاداتي والابتعاد عني لينفرد بي، يزرع الشكوك حولي ليبعد الناس عني ليلتهمني.
ومنذ مراحل وعيي الأولى كان الموت قد اصطاداني أكثر من مرة، بعد أن ركض خلفي، وقد قميصي من دبر، فانكشف ظهري، وتمسك بالخرقة ليريها للملأ معلنا عن ساعة وفاتي، ولكني كنت أفاجئه بالظهور، لأعلن عن وجودي بتحد كان يغيض الحكام. صحيح أن بعض أصدقائي ومعارفي لم يتعرفوا علي للوهلة الأولى بسبب الهزال الذي أصابني والتعب الذي ارتسم على محياي، ولكنهم حينما دققوا النظر بي عرفوني، وتأكدوا بأني لا زلت أكابر، ولا زلت متمسكا بالحياة رغم أنف الجبارين، ولم أدعها تفلت مني!.
ومنذ مراحل وعيي الأولى، مررت بتجارب قاسية كثيرة، بعضها قليل الأثر خامل الذكر، فلم أعرها اهتمامي، ونسيتها مع ما نسيت عبر عمري الطويل، وبعضها وضعني في حلبة مصارعة مع الموت وجها لوجه، وزوده بجميع انواع الأسلحة، وجردني من كل شيء، وأذكر منها:
اعتقلت للمرة الأولى في مدينة اليوسفية وأنا في مرحلة الدراسة الاعدادية لأني كنت أزور صديق دراسة في بستانهم، ثم تبين أنه وجميع أفراد عائلته شيوعيين، وكان رجال الأمن يراقبهم باستمرار، وبعد التحقيق المعمق، وأؤكد هنا على كلمة معمق، لم تثبت إدانتي، فأطلق سراحي.
وحينما أنهيت دراستي الجامعية، ساقوني لأداء الخدمة العسكرية، واشتركت رغما عن أنفي في حرب تشرين في سوريا، وكاد الموت أن يصطادني ولكني نجوت.
وحينما رجعت إلى الحياة العامة، اعتقلت للمرة الثانية بحجة أني تطاولت على مدينة الرئيس، وبعد التي والتيا الطويلة، اطلق سراحي.
بعد هذه التجربة، اعتقلت للمرة الثالثة وأودعت السجن الانفرادي مدة طويلة، ثم أطلق سراحي بعد أشهر صعبة نتيجة صمودي وعدم اعترافي على أحد.
بعد أن نجوت من بين أيديهم، أصبحت في مرمى نيرانهم، ووضعوني تحت المراقبة، ولم يوقف ذلك الحصار إلا دعوتي إلى العسكرية للاشتراك في الحرب العراقية الإيرانية، وبالرغم من بقائي في الجبهات سبع سنوات وستة أشهر وواحد وعشرون يوما طالما وضعتني الظروف في عين الموت ولاسيما وأنا تهنا عدة مرات ودخلنا حقول الألغام أو أصبحنا في مرمى الجانب الآخر، إلا أني نجوت من الموت، ربما لأني لم احاول قتل أحد مطلقا، ولم أرم إطلاقة واحدة نحو هدف.
ثم بعد التغيير في 2003 اعتقدت أن تلك السنوات السود قد انصرمت، وحل الأمان، لأجد نفسي بعد زمن يسير في مأزق الفوضى، فنجوت مرة بشكل إعجازي من الموت بانفجار سيارة مفخخة، فجرت على متطوعين يقدمون أوراقهم في حي الجامعة ببغداد.
وبعد مدة ليست بالطويلة، نجوت من الموت المحقق بانفجار عبوة ناسفة في شارع المطار الدولي.
وبعدها، اختطفت على يد الإرهابيين، ولبثت سجينا بين أيديهم ثلاثة عشر يوما، ساموني خلالها سوء العذاب، ووضعوا المنجل على رقبتي أكثر من مرة، ثم عدلوا عن رأيهم، وحينما اتخذوا القرار النهائي بتصفيتي، نزلت حريتي من السماء، ونجوت مرة أخرى.
وبعدها هجرت قسرا من بيتي لأرحل إلى محافظة جديدة ومدينة جديدة وحياة جديدة، وأنا الآن بعد أن تجاوزت السادسة والستين من عمري لم أعد أدري إن كان القدر قد خبأ لي تجارب مريرة أخرى مثل تلك التي اختبرتها، أم أنه اكتفى بما قدم، وينتظر الأمر النهائي بالرحيل.
أما بعد ذلك .. بعد الرحيل الأبدي، فحياة غريبة لا نعرف كنهها ونوع المخاطر فيها، إذ يرجع أمرها إلى الله تعالى، وهو أحكم الحاكمين، وارحم الراحمين.