السيمر / الاحد 16 . 09 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي /فلسطين
لا تميز الإدارة الأمريكية في مواقفها، ولا تستثن أحداً بقراراتها، ولا تحابي فريقاً فلسطينياً وتستعدي آخر، ولا تصنف أحزابهم وتنظيماتهم إلى حمائم وصقور، ومعتدلين ومتشددين، بل تنظر إلى الفلسطينيين جميعاً بعينٍ واحدة، وترميهم كلهم عن قوسٍ واحدة، وتستهدفهم كلهم عن بكرة أبيهم، شباناً وشاباتٍ، وطلاباً وطالباتٍ، ومدارس وجامعاتٍ، ومستشفياتٍ ومصحاتٍ، ومؤسساتٍ ومنظماتٍ، وهيئاتٍ ووزاراتٍ، إذ تعتبرهم جميعاً من مكونات الشعب الفلسطيني، الذي يطالب بحقه، ويناضل لاستعادة وطنه، ويقاوم لتحرير أرضه، ويهدد بإصراره على مواقفه وجود الكيان الصهيوني، ويعرض ببقائه في أرضه وثباته على حقه الهوية الإسرائيلية والقومية اليهودية الآخذة في التشكل والساعية نحو التشريع والاعتراف.
تصفع الإدارة الأمريكية كلَ يومٍ القيادة الفلسطينية ومعها كل فصائل ثورتها، وتضرب عرض الحائط بكل الاتفاقيات الموقعة معها، والتفاهمات السابقة وإياها، وتتنكب لأي التزامٍ معها ولو كان ضمن اتفاقياتٍ دولية وتعهداتٍ أممية، وتنكث أي عهدٍ قديمٍ معها يتعارض مع مصالحها ويتناقض مع سياساتها، وتتخذ قراراتٍ مجحفة بحق الشعب الفلسطيني، تمس كرامته وعفته، وتهدد وجوده وهويته، وتتطاول بسياساتها على حقوقه ومقدساته، وتحاول بصفاقةٍ وسفورٍ، وصراحةٍ ووضوحٍ، تصفية القضية الفلسطينية وإنهائها، وشطب الشعب الفلسطيني وتشتيته، وتوزيعه في بلدان العالم ودول الجوار، وإلغاء هويته بجنسياتٍ أخرى يحملها، وتوطينٍ جديدٍ يفرض عليه، ليأمن الإسرائيليون في كيانهم، ويطمئن المستوطنون في مستوطناتهم، فلا يعود يوجد من يطالبهم بالرحيل، ولا من يهدد وجودهم ويزعزع استقرارهم.
فقد نقلت الإدارة الأمريكية سفارتها إلى مدينة القدس المحتلة، واعترفت بها عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، واعترفت بفلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي وحده، لا يساكنهم فيه غيرهم، ولا يستمع بحقوق المواطنة فيه سواهم، ولا ينازعهم عليه أحد، وأوقفت دعمها لمؤسسة الأونروا، وأطلقت النار على اللاجئين الفلسطينيين فأنكرت محنتهم ونفت عنهم صفتهم، وجردتهم من انتسابهم لأرضهم وتعلقهم بوطنهم، عندما نفت عنهم صفة اللجوء، وحرمت الأجيال الفلسطينية من حقهم المقدس في العودة إلى الوطن والإقامة في الديار، وقصرت صفة اللجوء على نفرٍ قليلٍ ممن بقي من أجدادنا الذين ولدوا في فلسطين وهاجروا منها، وجردت أولادهم وأحفادهم من هذا الحق الذي تكفله القوانين وتحفظه الشرائع، وتصر عليه النظم واللوائح.
واستطردت الإدارة الأمريكية في غيها ومضت سادرة في مراهناتها، وهي تظن أنها بهذه الإجراءات ستلوي عنق الشعب الفلسطيني وستكسر ظهره، وستجبره على التراجع والانكفاء، والخضوع والركوع، والقبول بما يعرض عليه، والموافقة على ما يقدم له، فأقدمت على إغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وهو المقر التي دأبت تهدد بإغلاقه ومنع العاملين فيه من القيام بأي أعمالٍ دبلوماسية انطلاقاً منه، أو استفادة من الحصانة الممنوحة للعاملين فيه، ثم أوقفت دعمها المقدم إلى مستشفيات القدس، وامتنعت عن تمويل العمليات الجراحية وتوريد الأدوية والمستحضرات الطبية، وأوقفت من قبل مساعداتها إلى السلطة الفلسطينية، وامتنعت عن تقديم المعونات التي اعتادت عليها، ثم أقدمت على سحب تعهداتها برعاية الأنشطة الشبابية والمساعدات الطلابية الفلسطينية، وقررت توجيه هذه المساعدات إلى نظائرها الإسرائيلية.
وفي الأمم المتحدة تتصدى الإدارة الأمريكية لأي محاولاتٍ عربيةٍ أو فلسطينية لمحاكمة قادة الكيان الصهيوني، أو تقديم شكوى ضدهم أمام المنظمات الدولية، وتقف المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن نيكي هايلي تدافع عن الكيان الصهيوني، وتصد أي هجومٍ عليه، وتبطل أي قراراتٍ دولية تستهدفه، وتمنع أي محاولة لإدانته أو تحميله المسؤولية، في الوقت الذي تسعى فيه لإدانة القوى الفلسطينية وتجريمها، وحث المجتمع الدولي على حصارها ومجابهتها، حيث تصفها بأنها قوى إرهابية تستهدف حياة المواطنين الإسرائيليين، ولا تتردد في تهديد من يقف في وجهها أو يعترض على خطابها، أو يحاول المساس بربيبة إدارتها.
تطلق الإدارة الأمريكية نيرانها السياسية على المجتمع الفلسطيني كله، وتستخدم معوناتها المالية ومساعداتها المادية ضد كل مكوناته السياسية والاجتماعية، ولعلها كانت تخشى جراء سياستها أن تساوي بين الفلسطينيين وتقرب بينهم، وتوحد صفهم وتجمع كلمتهم، وتجعل منهم جبهةً واحدة متراصة ضدهم، إلا أن هذه النتيجة المنطقية لم تتحقق، والوحدة الطبيعية لم تقع، والتفاهم بين قوى الشعب الفلسطيني ما زال صعباً بل متعذراً وبعيد المنال، فاطمأنت الإدارة الأمريكية إلى أن قراراتها قد تؤتي ثمارها، وقد تحقق الغاية المرجوة منها، طالما أن قادة الشعب الفلسطيني يتصرفون بغباء، ويواجهون بعبطٍ، ويصرون على المضي في خلافاتهم إلى الأبد، وكأنه لا أخطار تهددهم وقضيتهم، وتستهدفهم وأشخاصهم، وتريد الفتك بهم وبشعبهم.
يبدو أن القيادة الفلسطينية، سلطةً وفصائل، وأحزاباً وقوى، ورئاسةً وحكومة، ومقاومين ومفاوضين، لا يعقلون ولا يميزون، ولا يفكرون ولا يفهمون، ولا يتعظون ولا يتعلمون، وكأنهم مصابون بأمراضٍ عقليةٍ مستعصيةٍ، وعقدٍ نفسيةٍ مستحكمة، إذ لا يعون ما يجري حولهم ولا يحسون بما يحدث لهم، ولا يعيشون واقعهم ولا يشعرون بمن معهم، ولا تهمهم سوى مصالحهم ولا تعنيهم مصالح شعبهم، ولا تقلقهم هموم أهلهم ولا معاناة أبناء وطنهم، إذ يسعون لمنافعهم، ويتمسكون بمكاسبهم، ويتشبتون بمواقفهم، ولا يحرجهم تميزهم عن غيرهم، أو اختلافهم عن أبناء مناطقهم، إذ يجتهدون في تأمين أنفسهم وأسرهم وعائلاتهم، ويضمنون لهم مستقبل عيشهم وقوت يومهم، ويوفرون لهم سبل الحياة الرغيدة والعيش الكريم، في بيوتٍ فارهةٍ، ومساكن واسعة، في ظل كهرباء دائمةٍ لا تنقطع، وبيوتٍ مكيفةٍ، لا برد فيها ولا زمهرير، ولا حر فيها ولا هجير.
تتلقى القوى الفلسطينية كلها هذه القرارات بلا ردة فعلٍ إيجابيةٍ، أو صحوة ضميرٍ وطنيةٍ، كأن أحاسيسهم قد تبلدت، ومشاعرهم قد تجمدت، وعقولهم قد تحجرت، وقلوبهم قد غفلت، وضمائرهم قد ماتت، إذ يصرون على البقاء في مربع الاختلاف، ومواصلة لعبة إدارة مهزلة الانقسام البغيض، الذي يستفيدون من استمراه ويفيدون كثيراً من بقائه، فالانقسام يسفه الحكيم، ويذهب بعقل الحليم، ويفض جمع المخلصين، ويقصي عن القرار الصادقين، ويصنع منزلةً للمعدم، ويفسح مكاناً للتافه الحقير، والتابع الذليل، والمطية الضعيفة، الذين ينفذون سياسة العدو من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فهل تستفيق قيادتنا الرسمية وفصائلنا الوطنية وتصحو من غفلتها، وتتنازل لبعضها من أجل شعبها وحرصاً على قضيتها، أم تدفن رأسها في الرمال، وتبقى سادرةً في تيهها وضلالها، وتكون شريكاً لعدونا في وأد شعبنا وتصفية قضيتنا.
بيروت في 16/9/2018