الرئيسية / مقالات / الدولة الأردنية في قبضة دائرة المخابرات العامة

الدولة الأردنية في قبضة دائرة المخابرات العامة

السيمر / فيينا / الاثنين 23 . 09 . 2019

د . لبيب قمحاوي / الاردن

الإنهيار المتجدد في منظومة الحريات في الأردن أصبح ظاهرة معروفة تتحدى المنطق والضوابط والضمانات الدستورية بل وتقوم بتطويعها وإخضاعها لما تريد من سياسات وقرارات وقوانين وممارسات دون أي خجل أو مواربة ، وحتى دون أي محاولة للتغطية أو التمويه ، ودون أي إعتبار لعدالة أو أهمية القضايا التي تحظى بتعاطف شعبي عام يقابله عداء حكومي ساخر لا يبالي بما يريده الشعب أو لا يريده . فمثلاً موقف الحكومة الأردنية السلبي وردها المتشدد على مطالب نقابة المعلمين ودعوتهم السلمية إلى الإعتصام ، بالإضافة إلى التجاهل الحكومي للغضبة الشعبية الأردنية من إتفاقية الغاز المجحفة والخَطِرة على مصالح الأردن ، أو التجاهل الرسمي للمحاولة الإسرائيلية الأخيرة للإعتداء على هوية منطقة البترا وأردنيتها ، أو الزج بالأردنيين في المعتقلات لا لشيء سوى قناعاتهم التي تخالف قناعات الحكومة ، كل هذا وذاك يؤشر على دخول الأردن في حقبة جديدة من العداء للحريات العامة التي كفلها الدستور، بل والعدوان المباشر على تلك الحريات بغض النظر عن كون ذلك العدوان مخالفاً للدستور .

      المسؤولية فيما وصل إليه الوضع في الأردن من إنهيار تقع عموماً على نظام الحكم الذي قام بإحتكار كافة السلطات ومكامن القوة في البلد ومن ثم سمح لهذه الأمور بالحدوث ، إلا أن المسؤولية العامة في ذلك تقع على كاهل دائرة المخابرات العامة التي نجحت على مدى العقود الماضية في تحويل نفسها من جهاز لحماية الوطن إلى جهاز لإدارة الوطن تحت شعار حماية الوطن ، أي حمايته من المواطنين الأردنيين ، أو بمعنى أخر حماية الأردن من الأردنيين . معادلة عجيبة تستوقف أي شخص عاقل للنظر والتفكير في مدى معقوليتها وإنسجامها مع الدستور والواقع كما يجب أن يكون .

      الأردنيون هم أصحاب المصلحة الحقيقية في حماية أمن الأردن وإستقراره وليسوا حالة طارئة على وطنهم . ماذا فعل جهاز المخابرات العامة حتى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه ، ولماذا تحول هذا الجهاز من جهاز محترف بنى سمعةً ملحوظةً من خلال قدرته على حصر إهتمامه في مجال إختصاصه في حماية أمن الوطن ، وتحول إلى شريك أساسي بل وصاحب الولاية في تحديد مسار البلد وفي إيصاله إلى الحضيض الذي وصل إليه الآن . بل وأكثر من ذلك ، فهذا الجهاز الذي كان مشهوراً في حِرَفِيتِهِ ونظافته وتعففه عن كل ما هو فاسد قد إبتُلِيَ بنفس الأمراض التي ساهم في خلقها أو تكريسها داخل المجتمع الأردني مما أدى في عدة مناسبات إلى توجيه تهم الفساد لكبار المسؤولين فيه وعلى أعلى مستوى .

ما الذي جرى حقيقة ودفع الأمور في إتجاه هذا المسار الردئ ؟

      تَرَافَق تَغَوُّل جهاز المخابرات العامة مع تطور فلسفته من أمنٍ يهدف إلى وقاية وحماية البلد ، إلى أمن يهدف إلى إختراق بعض مجالات الحياة والعمل والسياسة ليتطور بعد ذلك إلى إختراق كافة المؤسسات العامة والسيطرة على مسارها بشكل يكاد يكون كاملاً تحت شعار حماية الأمن الوطني . وهكذا إبتدأ مسار التغول والإستحواذ أولاً من خلال التدخل في التعينيات في المناصب الكبرى ليمتد تدريجياً إلى التعيينات في معظم المناصب الأخرى ، وتحولت الفلسفة من إختراق إنتقائي إلى إختراق عام شامل . وهذه السياسة أدَّت في الواقع إلى تدمير العديد من المؤسسات وأهمها الجامعات والمؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية ليمتد بالنتيجة إلى مؤسسات الحكم كافة من حكومة ومجلس نواب ومجلس أعيان وباقي مؤسسات الدولة .

      البداية جاءت من خلال مخالفة دستورية من قبل جهاز المخابرات العامة من خلال فرض مبدأ ما يسمى "بالإستمزاج" أي أخذ موافقة "الدائرة" أي دائرة المخابرات العامة المسبقة على بعض التعيينات في المناصب التي تعتبر حساسة بالنسبة للأمن الأردني ، الأمر الذي تطور تدريجياً ليصبح أمراً إلزامياً على معظم التعيينات . ومع أن مجلس النواب الحادي عشر قد أصدر قراراً بمنع ذلك "الإستمزاج" بتاتاً ، إلا أن ذلك تم تجاهله تماماً في حقبة الرِدَّة التي أعقبت ذلك المجلس وواكبت حقبة مسار السلام مع إسرائيل وما نتج عن ذلك من تفاقم وتغول إلى يومنا هذا .

      وهكذا أصبح من الضروري لمن يريد أن يتم تثبيت تعيينه الحصول على موافقة الدائرة أو رضاها أو عدم ممانعتها الأمر الذي جعل أولئك الموظفين مدينون لدائرة المخابرات وتحت رحمتها مما حَوَّلَهم بالنتيجة إلى إمتداد لنفوذ وسطوة تلك "الدائرة" . وهكذا تمت عملية الإختراق من خلال تطبيقات وقرارات مخالفة للدستور تجعل المواطن الأردني بالنتيجة أما مديناً لدائرة المخابرات العامة أو تحت رحمتها .

من الصعب التعامل مع كل عمليات الإختراق المخابراتي لمؤسسات الدولة الأردنية نظراً لعمومية وفداحة ذلك الإختراق الذي أصبح شبه كامل وأصبح جزأً من البنية البشرية لمعظم تلك المؤسسات مما أثر على طبيعتها وأسلوب عملها الأمر الذي جعلها إما إمتداداً أو إنعكاساً لذلك الإختراق الممنهج .

لقد إنتقل نشاط دائرة المخابرات العامة من السيطرة على مؤسسات الدولة إلى محاولة إختراق المعارضة والتأثير على مسارها وذلك من خلال فرز بعض أعضاء أو أصدقاء “الدائرة” وتلميع صورتهم وتقديمهم إلى المجتمع بإعتبارهم معارضين لينتهي بهم الأمر وزراء ومسؤولين بهدف إقناع الشعب بأن المعارضة والمعارضين لهم أجندتهم الخاصة بهم ويمكن شراء ذممهم كغيرهم .

والأمور لم تقف عند ذلك ، فقد تم العمل على خلق جيل كامل من إعلاميين إرتبطوا بتلك “الدائرة” وإستولوا تقريباً على كافة مناصب الدولة الإعلامية بحيث أصبح الإعلام بأشكاله المختلفة من إذاعة وتلفزيون وصحافة خاضعاً لتلك “الدائرة” وجزأً من عملية تسويق النظام وسياساته ، أو جزأً من عملية تشويه المعارضة أو التشويش عليها وعلى مواقفها أو حتى التعتيم الكامل عليها وعلى نشاطاتها . وعقب الولوج في برامج الخصخصة ووسائل التواصل الإجتماعي إنصب إهتمام “الدائرة” على السيطرة على تلك الوسائل بكافة الطرق عوضاً عن المساهمة في تطويرها بشكل إيجابي يخدم الوطن!

المسار بأكمله أصبح إذاً مرتبطاً بما تريده تلك “الدائرة” أو بما لا تريده ، وليس بما هو ضروري للوطن أو للشعب ، مما يضع الأمور أمام خيارين ، إما إصلاح “الدائرة” وسياساتها ودورها بشكل جذري ، أو تطويع الشعب وجعله جزأً من تلك الدائرة أو تابعاً لها . أما من يدعي بأن “الدائرة” هي جزء من الدولة والشعب ، فإن هذا أمراً كان يمكن أن يكون صحيحاً لو إكتفت الدائرة بالقيام بدورها الأصلي في حماية الوطن دون أي تجاوزات وإختراقات وتزوير للإنتخابات تحت عنوان حماية الوطن .

في ظل الغياب الملحوظ لمؤسسات العمل الديموقراطي ، وفي ظل تَغَول دائرة المخابرات العامة وسيطرتها على مختلف مؤسسات الدولة ، أصبحت هذه “الدائرة” ، من ناحية عملية ، هي الرافعة الوحيدة المتوفرة للوصول إلى المنصب العام سواء أكان ذلك وزارة أو نيابة أو أعيان أو مدير عام أو وكيل وزارة …إلخ . وهكذا أصبح إهتمام العديدين مُنْصباً ، من ناحية عملية ، على الحصول على رضا “الدائرة” وليس الشعب لأن رضا الشعب طريقاً مسدوداً ، أما رضا “الدائرة” فطريقها مفتوح إلى مختلف المناصب . وهكذا أصبحت دائرة المخابرات العامة بالنتيجة هي الدولة العميقة التي تحكم الأردن. وأصبحت سياساتها الخفية أو المعلنة هي السياسات التي تحكم الدولة الأردنية وتحدد مسارها .

الأمور كما هي الآن يجب أن لا تبقى محصورة بالتشخيص أو إثبات فيما إذا كان هذا الوضع صحيحاً أم لا . إن ما يتوجب فعله ومناقشته الآن هو كيفية التخلص من هذا الوضع الشائك الشائن ؟ هل هنالك إمكانية للخلاص من براثن هذا التغول الذي يشمل كافة أوجه الحياة في الدولة الأردنية ومؤسساتها ناهيك على المواطن الفرد إذا ما شاء حظه أن يقع في براثن هذا الأخطبوط المتغول على كافة أوجه الحياة ؟

الدستور والأنظمة لا تسمح إبتداءاً بمثل تلك التجاوزات وذلك التغول مهما كانت الأسباب أو العناوين التي تختبئ وراءها تلك الممارسات . ومحاولة الإستعانة بالدستور والقانون لعلاج هذا الوضع الشاذ قد يكون إجراءاً فعالاً ولكن في ظل وجود دولة قوية ومؤسسات قوية مستقلة في إرادتها وقراراتها وليس دولة ضعيفة ، إرادتها مسلوبة ومقدراتها في يد البعض كما هو عليه الوضع الآن .

الديموقراطية الحقة وحكم الشعب لنفسه والتوقف عن العبث بالإنتخابات ، وتعيين الشخص المناسب في المكان المناسب ، وإعادة أجهزة الدولة بما فيها دائرة المخابرات العامة إلى دورها الأصلي ، وإحترام الدستور ومحاربة الفساد المالي والسياسي ، هي بعض الأفكار على طريق الإصلاح الحقيقي .

*مفكر عربي

2019/09/23


اترك تعليقاً