الرئيسية / مقالات / الممانعة والانتفاضة على النظام العراقيّ

الممانعة والانتفاضة على النظام العراقيّ

السيمر / فيينا / الاثنين 14 . 10 . 2019

اسعد ابو خليل / لبنان

كيف نعرِّف المُمَانعة؟ المُمَانعة في اللغة هي المُنازعة، وجذر المصطلح يعني المنع — كأن تَحُول بين الرجل وما يريده — في القواميس القديمة. لكن الكلمة لا تتعارض دوماً مع المَنع القاطع، إذ أن الثقافة التراثيّة الذكوريّة تركت لنا أقوالاً عن التوافق بين التمنّع وبين الرغبة (في حالات المرأة فقط، لتسويغ فرض الرجل نفسه جنسيّاً على جسد المرأة). لكن في الثقافة العربيّة المعاصرة، المصطلح انطلق على الغالب من سوريا في إشارة إلى سياسة سوريا الخارجيّة في عهد بشّار الأسد. فالسياسة تلك هي ليست رافضة—بمعنى رفض الحلول الاستسلاميّة من أساسها، كما فعلت جبهة الرفض بين أعوام ١٩٧٤-١٩٧٧، بل هي ذات قابليّة للتسوية السلميّة مع إسرائيل، لكن بشروط أفضل من باقي الدول العربيّة. وكيف تُوفّق بين الممانعة وبين قبول سوريا (ولبنان) بمشروع «السلام العربي» الذي قدّم شروط تسوية مجانيّة للعدوّ تسمح له بالاحتفاظ بـ ٧٨٪ من فلسطين المحتلّة؟ والممانعة هي غير المقاومة، التي تشير إلى ردع ومقاومة العدوّ في احتلاله وعدوانه. لكن محور المُمانعة يحتوي على عناصر مقاوِمة، مثل «حزب الله» و«حماس» (أين هو موقع «حماس» الحالي في المحاور الإقليميّة، إذ تبدو متأرجحة بين محوريْن منذ اندلاع الحرب السوريّة). لكن المُمانعة باتت صفة ليست لموقف محدّد من الصراع مع إسرائيل (موقف «حزب الله» لا يتماثل مع موقف النظام السوري، وموقف النظام الإيراني هو غير موقف النظام السوري الذي خاض—كما لبنان—مفاوضات مباشرة في واشنطن) بل لمعسكر في المنظومة الرسميّة للعالم العربي. والعالم العربي منذ اندلاع ثورة ١٩٥٢ بات منقسماً إلى مَحاوِر متضاربة، قادَ واحدة منها لسنوات جمال عبد الناصر وقادت السعوديّة محوراً غربيّاً (ضمّ بصورة غير معلنة، كما اليوم، إسرائيل)—فيما وقف «البعث» في موقع فريد.

هناك تعريفات فائضة للممانعة وهناك تعريفات ضيّقة لها. التعريف الضيّق للممانعة يشير إلى محور يضمّ إيران و«حزب الله» وقوى «الحشد الشعبي» والحوثيّين (منذ اندلاع الحرب في اليمن). أما التعريف الفائض المتّسع—والذي تعتمده محطة «الميادين» وإعلام النظام السوري_ فهو يعطي لمحور الممانعة صفة عالميّة ويربطه بمحور الـ«بريكس» الذي لم ينفك إعلام النظام السوري عن التبشير به في السنوات الماضية. ويلجأ دعاة هذا التذكير بالوزن الديموغرافي لتكتّل الـ«بريكس» في إشارة إلى أهميّته. وتكتّل الـ«بريكس» هو ليس تكتّلاً بقدر ما هو اجتماعات موسميّة بين قوى متنافرة ومتنازعة. ما الذي يجمع أجندة عناصر الممانعة العربيّة مع الحكم في الهند الوثيق الصلة بالعدوّ الإسرائيلي والمعادي للإسلام، أو الحكم البرازيلي الحالي الوثيق الصلة أيضاً بالعدوّ الإسرائيلي؟ الـ«بريكس» ليس كتلة حقيقيّة بقدر ما هو تصوّر آمال منظومة الممانعة العربيّة للنظام العالمي. والهند باتت أقرب إلى أميركا وإسرائيل منهما إلى العالم العربي.
لكن تصنيف النظام العراقي هنا مسألة شائكة. لا نستطيع تصنيف النظام العراقي بسهولة. العراق لم يتعرّض فقط لاحتلال أميركي وغزو مدمِّر بقدر ما أن أميركا دمّرت بالكامل وطناً عراقيّاً وُلد في القرن العشرين. أميركا عملت ما بوسعها كي لا تقوم قائمة للوطن العراقي من جديد. هذه أهميّة الإنجاز الصهيوني في الحرب الأميركيّة على العراق. إن المخطط الأميركي-الصهيوني لم يستهدف فقط أنظمةً بعينها بل هو استهدف كيانات سياسيّة وأوطاناً. والسياسات الغربيّة منذ الحرب العالميّة الثانيّة تبنّت كل دعوات الانفصال والتجزئة والتقسيم (من السودان إلى العراق إلى لبنان إلى الانفصال عن «الجمهوريّة العربيّة المتحدة») ليس عفواً بل لأن العمل العربي المتحد—لو توفَّر—يشكّل مخاطر على مصالح الدول الغربيّة وإسرائيل. كما أن العمل المتّحد يزيد من فعّاليّة التحدّي العربي لإسرائيل—على ضعفه وعجزه في عام ١٩٦٧ وحتى في عام ١٩٧٣. أميركا عملت ليس فقط على إخراج مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي (أي القضاء بضربة واحدة على إمكانيّة العمل العربي العسكري المشترك) بل هي عملت على دعم برنامج السادات—أو برنامجها هي—في تغيير الهويّة المصريّة والنأي بها عن العالم العربي (وكان هذا البرنامج ناجحاً وتجليّات القوميّة المصريّة الشوفينيّة تظهر في خطاب النظام المصري بعد السادات وحتى في خطب المعارضة المصريّة على أنواعها)
لم يكن تفتيت الدولة العراقيّة حدثاً عَرَضيّاً، بناءً على إشكال تقني كما يُصوَّر في السرديّة الأميركيّة عن قرار بريمر في حل الجيش العراقي. إن قرار الحلّ كان مدار أبحاث على مدى السنوات التي سبقت الغزو الأميركي وكانت شلّة المحافظين الجدد وشلّة أحمد الجلبي متفقتين على ضرورة حلّ الجيش العراقي و«اجتثاث البعث»—الذي أراده بول وولفوفيتز على غرار اجتثاث النازيّة في ألمانيا، لأن كنعان مكيّة (صديق وولفوفيتز كان ينظر للتماثل بين «البعث» وبين «النازيّة» (الإصرار على التشابه يسرُّ الصهيونيّة التي استسهلت منذ عام ١٩٤٨ مساواة أية معارضة أو مقاومة لإسرائيل بالنازيّة، فيما هي تعمد إلى رفض أية تشبيه من قبل العرب بين الكيان الأبارثايدي وبين النازيّة—لكن الصهيونيّة الأميركيّة لم تجد غضاضة من تشبيه النظام السوري بالنازيّة في حملاتها لإقناع أميركا بضرورة شنّ حرب أميركيّة ضد سوريا). أميركا في أجندة المحافظين الجدد لم تكن تحتاج فقط إلى نزع أسلحة دمار شامل غير موجودة، بل هي كانت تفكّر في إزالة خطر عن إسرائيل على مدى عقود طويلة. والضمان الوحيد يكمن في تدمير بنيان الدولة العراقيّة. والاتفاق النووي بشأن إيران لحظ خوض نقاشات طويلة حول المدّة التي يضمن فيها الاتفاق عدم إمكانيّة إيران العمل على سلاح نووي، وانتهى الاتفاق إلى مدة الخمسة عشر عاماً: أي أنه يُمنَع على إيران تخزين أكثر من كميّة ٣٠٠ كغ من اليورانيوم المُخصّب لهذه المدّة. لكن الاعتراض الإسرائيلي تركّز على هذه المدّة، وعلى أنها غير كافية. طبعاً، تفضّل إسرائيل خياراً أطول مدى، مثل العمل على تقسيم الكيان الوطني الإيراني بالكامل، وهناك مناقشات جارية مع الأوروبيّين، عن إمكانيّة تعديل الاتفاقيّة كي تلحظ مدة أطول—المدة المذكورة في المداولات هي ٣٠ سنة على الأقلّ. في كتابها الجديد، «تعلُّم مثاليّة»، تعترف سامانتا باور (مندوبة أميركا في الأمم المتحدة في عهد أوباما) بأنها لم تكن تنوي أقلّ من تدمير الدولة السوريّة—وليس فقط النظام، في مقترحاتها الحربيّة لأوباما. هذه المشاريع كانت حلماً إسرائيليّاً وضعته أميركا لحليفتها موضع التنفيذ بعد ١١ أيلول.
والمشروع الإسرائيلي في لبنان بدأ على سياق مماثل، من حيث تعطيل إمكانيّة تشكّل عمل مقاوم في لبنان (بعد أن عطّل العدوّ دور الجيش اللبناني برعاية أميركيّة). وكان المشروع الإسرائيلي يسعى في البداية إلى تقسيم لبنان (وهذا ما اعتنقته مقرّرات سيّدة البير) إلا أن تبوّأ أرييل شارون وزارة الدفاع في عام ١٩٨١ زاد من الشهيّة الصهيونيّة وأصبح طموح المشروع تشكيل جمهوريّة إسرائيليّة على كل لبنان، برئاسة صوريّة للتابع، بشير الجميّل). وبعد تعطيل المشروع، لم تتوقّف إسرائيل عن إثارة الفتن والاعتماد على فريق لبناني يصدح بالمطالب الإسرائيليّة عن تعطيل أي دور دفاعي مشروع للبنان.

العراق: إعادة تشكيل النظام
والدولة العراقيّة التي أنشأها الاحتلال هي دولة مفتّتة ليس لها من مقوّمات الدولة إلا العلم الصدّامي. والغريب أن أحداً في العراق لا يطالب بإعادة تشكيل النظام—في الحد الأدنى—لإزالة آثار العدوان الأميركي المنتشر في خلايا النظام السياسي. فقط في المظاهرات الأخيرة وردت مطالبات بإعادة تشكيل النظام لكن من دون الإشارة إلى الدور الأميركي فيه—وهذا غريب. وابتدعَ الاحتلال الأميركي في مراحله مصطلح «المكوّنات»، في إشارة إلى الطوائف والأعراق في العراق. وهذا المصطلح الذي أصبح ركيزة في الخطاب السياسي العراقي يشير إلى استحالة قيامة الوطن العراقي، لأن الدولة تعترف بالمكوّنات لا بالمواطنة أو بالهويّة الجامعة. وللمكوّنات استقلاليّة جغرافيّة (بقدر الإمكان) كما أن لها سياسات خارجيّة مستقلّة. ليس من يعترض مثلاً على سياسة التحالف المُعلن بين القيادة القبليّة البرازانيّة وبين العدوّ الإسرائيلي. ويستطيع سياسي عراقي، مثل مثال الألّوسي أن يزور فلسطين المحتلّة—بدعوة من حكومة الاحتلال—وأن يخطب فيها وأن يدعو جهاراً إلى تحالف مع إسرائيل (وأبطلت محكمة «اتحاديّة عليا» العقوبة التي لحقته من البرلمان العراقي). والألّوسي هذا هو نفسه كان المسؤول الأوّل (بقرار أميركي) عن اجتثاث «البعث»، وهو من القرارات التي نسفت الدولة العراقيّة.
لكن كيف يُتفق ان يعتبر محور وإعلام الممانعة أن العراق هو جزء منه؟ ليس هناك من عراق كي يستحق التصنيف في منظومة الدول والأحزاب. يمكن أن يُقال إن جزءاً من العراق ينضوي في محور الممانعة فيما تنضوي أجزاء أخرى من العراق في محاور متعارضة مع الممانعة. والحشد الشعبي لا ينتمي إلى الممانعة بقدر ما تنتمي فصائل فيه (هناك فصائل تأتمر بأمر المرجعيّة، وهي بعيدة عن هموم وأولويّات الممانعة). والسياسة الخارجيّة للعراق تبدو أقرب إلى أميركا منها للممانعة بالرغم من تواصل سرّي وعلني بين فرقاء في الحكم وبين عناصر في محور الممانعة. ولا تزال أميركا تستحوذ على صنع القرار والتعيينات وعلى التصرّف مثل ربّ البيت. وعندما تعرّضت السفارة الأميركيّة في العراق مؤخراً لإطلاق قاذفات ردّ مسؤول عسكري أميركي أن أميركا ستردّ على أي استهداف لها—من العراق. العراق لا يزال يخضع للاحتلال الأميركي والنخبة العراقيّة الحاكمة (وهي نفسها التي نصّبها الاحتلال الأميركي) تتعامل مع الحكومة الأميركيّة على أنها الراعية لها. واختيار رئيس الوزراء في العراق بات مسألة تتقرّر في واشنطن (وبتفاهم ضمني مع الحكومة الإيرانيّة). ولم ترد الحكومة العراقيّة على إعلان أميركا أنها ستردّ على أي إطلاق نار تتعرّض له مقارّها.
وفي المحافل الدولية تلتزم الحكومة العراقيّة بسياسة بعيدة عن سياسة محور الممانعة، وهذا كان سارياً في ظلّ حكم نوري المالكي الذي انضم إلى محور الممانعة (ورُحِّب به في بيروت من قبل «حزب الله») بعد أن كان أداة بيد الاحتلال الأميركي، وكان جورج بوش يقول مازحاً إنه راضٍ عن نوري المالكي طالما يلتزم الأخير بالتعليمات الأميركيّة (كان الرئيس الأميركي يعقد اجتماعاً أسبوعيّاً عبر الفيديو مع نوري المالكي ويعطيه رزمة من التعليمات التي يتوجّب عليه تنفيذها). والمالكي كان ضد الممانعة ثم أصبح فيها، فيما كان مقتدى الصدر فيها ثم خرج منها. وفي عدوان تمّوز، كان موقف الحكومة العراقيّة خجولاً جداً وهو لا يزال خجولاً فيما يتعلّق بإسرائيل. وانفضح الموقف الممانع (أو غير الممانع) للحكم في العراق، وللمرجعيّة التي ترعاه، عندما اعتدت إسرائيل على العراق وتباهى نتنياهو بقصفه للعراق في غمرة حملته الانتخابيّة. فما كان من الحكومة العراقيّة إلا أن ميّعت الموضوع وحاولت أن تتجاهله باذلةً جهداً أكيداً لتبرئة إسرائيل—أو ربّما من أجل إزالة مبرّرات الردّ القانونيّ السياديّ، واقترحت لجنة لتحديد هويّة الاعتداء. واستغرق الأمر أسابيع قبل أن يعلن عبد المهدي في مقابلة تلفزيونيّة أن هناك «إشارات» إلى مسؤوليّة إسرائيل.
انتفضَ الشعب العراقي، وفي المناطق الشيعيّة الفقيرة، ضد الحكم برمّته. والانتفاض على الحكم لا يحتاج إلى مؤامرة خارجيّة، فكل عوامل الاحتجاج والانتفاض والثورة موجودة. ترسّخَ في العراق نظام حكم من أبشع ما شهده العراق. تستطيع، لو كنتَ في سنّي، أن تقارن الخطاب السياسي الحالي في العراق والمليء بالحديث عن المكوّنات والمذاهب والطوائف بالخطاب في زمن صدّام حيث انعدم الكلام الطائفي والمذهبي (يحاجج البعض أن هذه السياسات هنا وهناك لصدّام كانت طائفيّة، لكن خطاب الحكم لم يقترب—على بشاعة حكم صدّام—من خطاب زمرة بريمر الحاكمة.) كان حنّا بطاطو يقول في سنوات الحرب الإيرانيّة-العراقيّة إن الخميني لم يفترض أن الشيعة في الجيش العراقي سيقاتلون كعراقيّين، وأنه كان هناك في إيران توقّع بأن عصبيّتهم الشيعيّة ستفصلهم عن الجيش. لكن هذا لم يحدث. فقد استطاع النظام العراقي الحديث أن يصنع هويّة وطنيّة عابرة للطوائف وإن كانت غير صالحة للقبول من قبل الكرد. ودولة الرعاية الاجتماعيّة في الزمن البعثي تجذب الولاء كما لا يجذبه نظام المحاصصة الفاسد.
للشعب العراقي ألف سبب وسبب للانتفاض على نظام الحكم القائم. لكن الظن بأن واشنطن (أو إسرائيل) بعيدة عن مجريات السياسة في العراق هو جزء من الدعاية السياسيّة. وانتفاض قنبر (نذكره هنا في أميركا داعية لأحمد الجلبي في زمن صعود المحافظين الجدد) ظهر على شاشة «أر.تي.» وشرح بدقّة عن دور محطة «الحرّة» (وهي محطة البروباغندا الأميركيّة الرسميّة، والتي—بسبب معايير البروباغندا التي تسمح بالكذب الرسمي والتضليل—ممنوعة من البثّ في الساحة الأميركيّة) في العراق وعن تبنّيها للحركات الاحتجاجيّة. لكن وصم الانتفاضات في العراق بأنها مؤامرة صهيونيّة-أميركيّة يظلم الآلاف الذين نزلوا بعفويّة إلى الساحات للاعتراض على فساد وطائفيّة وسرقات نظام الحكم. كما أن الحركة الاحتجاجيّة طرحت لأوّل مرة طبيعة نظام الحكم الذي أسّسه الاحتلال الأميركي في عام ٢٠٠٣. وعبد المهدي يقرّر أن الصراع الإقليمي مسؤول عن الاحتجاجات، ثم يعود في اليوم التالي لينفي أي دور خارجي ويحتكم إلى المرجعيّة (أي نظام هو هذا الذي يحتكم إلى المرجعيّة، ويوافق عليه مَن يعارض ولاية الفقيه في إيران).

وبيان المتظاهرين الرسمي الذي صدر يوم الجمعة الماضي يطرح خيبة عميقة من نخبة الحكم الاحتلاليّة ويطالب بلجنة «وطنيّة لتعديل الدستور بعيداً عن الكتل والأحزاب التي شاركت في إدارة البلد منذ عام ٢٠٠٣». اللافت في الصياغة أن البيان لم يفسّر ما حدث في عام ٢٠٠٣، ولم يصف الحدث الأكبر في تاريخ العراق المعاصر. والبيان يصف النظام الصدامي بـ«القمعي» لكنه لم يشر بكلمة إلى الاحتلال الأميركي ودوره في تركيب النظام الحاكم. البيان يطرح إعادة النظر في الاتفاقيّات التي أخلّت بسيادة العراق، لكن من دون أن يذكر الخرق الأكبر لسيادة العراق منذ فرض الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالميّة الثانيّة. أما بيان «ثورة الحسين للجميع» قبل أيّام فقد طالب بتدخّل «فوري وعاجل» في العراق من قبل الأمم المتحدة (من هي القوة النافذة في الأمم المتحدة؟ الصين؟) ومن قبل الجامعة العربيّة (هل هناك من قوة غير النظام السعودي في الجامعة العربيّة؟) من المستحيل أن يكون كتّاب البيان جاهلين بواقع النفوذ والسيطرة في الإقليم والعالم. وما الذي يمكن للأمم المتحدة أو الجامعة العربيّة أن تفعله؟ انتداب قوات الاحتلال الأميركي لإنقاذ العراق، مرة أخرى بعد أن حرّر الغزو الأميركي العراقيّين في عام ٢٠٠٣؟
أميركا وإسرائيل تخوضان حرباً شاملة في المنطقة ضد كل مناطق النفوذ الإيراني. أميركا لا تصنع الاحتجاجات ولا تسيطر على الآلاف من المتظاهرين، لكن هي تستغل كل حدث وكل تطوّر سياسي لغاياتها، وهي تستغلّ النقمات الشعبيّة متى خدمت مصالحها. الذي تابع كيف تبنّت الصحافة الأميركيّة ترشيح يحيى شمص يدرك أن ليس هناك من حدث سياسي في العالم العربي، خصوصاً في المشرق في الدول المحيطة بفلسطين، لا تكون إسرائيل ضالعة فيه مع شريكتها بالكامل لإثارة الفتنة. والتركيز على شعارات ضد إيران (كما التركيز على شعارات ضد «حزب الله» من قبل قلّة في بداية الاحتجاجات السلميّة في سوريا) هو دليل ليس على مزاج شامل للرأي العام في بلد ما، بل على استغلال مخابرات دول أجنبيّة لأفراد من أجل طبع احتجاجات ما بشعارات تعبّر عن مصالح أجهزة المخابرات الأجنبيّة هذه. هذا لا يعني أن المزاج العام في العراق لا يتضمّن نقداً لدور أو خطاب إيران، كما يتضمّن نقداً لدور وخطاب النظام السعودي أو الدور الأميركي (والاحتجاجات استهدفت مصالح أميركيّة أيضاً، لكن الإعلام لا يركّز على ذلك). وقد وثّق أحمد طويج على موقع «فورين بوليسي» (وهو ليس في محور الممانعة) طرق استغلال النظام السعودي عبر شبكة الـ«بوت» على «تويتر»، وعبر إعلامها وشبكات التواصل، الأحداث في العراق لجرّها في سياق السياسة السعوديّة والتحريض ضد إيران. والسفير البريطاني نفى على «تويتر» أن تكون هناك مؤامرات في العراق، مما يؤكّد وجود المؤامرات.
جانب من الاحتجاجات في العراق هو محاولة لبلورة هويّة وطنيّة عراقيّة. والتمسّك بشخص الجنرال الساعدي (نائب قائد جهاز مكافحة الإرهاب في العراق، وهذا الجهاز—مثل كل الأجهزة التي تنشئها أميركا في دول أجنبيّة لمكافحة الإرهاب—هو ميليشيا أميركيّة). وتعظيم دور الساعدي في محاربة داعش هو صناعة أميركيّة: مثلما عظّمت الحكومة الأميركيّة من دور الجيش اللبناني الطفيف في محاربة «داعش» على الحدود، في محاولة لنزع الشرعيّة عن الطرف الحقيقي الذي هزم «داعش»، أي «حزب الله» وأعوانه. أرادت أميركا من تعظيم دور الساعدي تقليل الدور الأكبر لدور «الحشد». والساعدي أصبح رمزاً لتجاوز الطائفيّة أيضاً، أو هكذا أراد رعاته تصويره ونجحوا في ذلك. والإعداد الأميركي له واضح من خلال ربطه بشبكة صنع القيادة في جامعة هارفرد (وهو قال إنه قصد السفارة الأميركيّة من أجل نيل فيزا «لإلقاء محاضرة» (ثانية) في جامعة هارفرد). والأزمة العراقيّة تفجّرت بسبب نصب تمثال له (وهذا عمل غير مألوف طبعاً) في الموصل، ما أغضب الحكومة.
لكن الممانعة لا تستطيع نسف أسباب الاحتجاج، أو وصم كل المتظاهرين بالمتآمرين على غرار الاتهامات الجاهزة للأنظمة البعثيّة. والعراق تعرّض لعمليّة خصخصة رأسماليّة بدأها بريمر في أوّل عهده، ولم تعكسها الحكومات العراقيّة المتتالية. وشعارات المتظاهرين كانت تطالب—من دون إدراك—بالعودة إلى دولة الرعاية الاجتماعيّة التي أنشأها نظام «البعث»، والتي أفادت الطبقات الشعبيّة أكثر بكثير من دولة الرأسماليّة المتوحّشة. والخطاب الإيراني ينمّ عن جهل بحقيقة الهويّة القوميّة العربيّة، مهما حاول الإعلام الشوفيني والخليجي والغربي طمس هذه الهويّة. وإيران لا تدري أن التحريض الطائفي ضد إيران فعل فعله، ويزيد فيه بعض التصريحات الإيرانيّة المستفزّة للعرب (مثل ذلك الخطاب الذي ألقاه خامنئي في بداية الانتفاضات العربيّة والذي قال فيه إن العرب يريدون حذو إيران). وكلّما تضاءل النفور المذهبي، كلّما تنامى الشعور بالهويّة العربيّة. والتعبير عن الهويّة العربيّة، أو حتى العراقيّة الجامعة، لا يعني بالضرورة القوميّة العربيّة بالتعريف الوهّابي الرجعي. ولا يبدو أن إيران تدرك أن السلوك الديني الاجتماعي المتزمّت بعد الثورة في إيران لا يتوافق مع السلوك الديني الأقلّ تزمّتاً عند الشيعة العرب. وهذا عنصر نفور عند العرب الشيعة. لكن البديل السعودي لا يمكن أن يستقطب مؤيّدين شيعة، أو حتى سنّة بعد تجربة الوهّابيّة في العراق في ظلّ الاحتلال الأميركي. قد يأتي عراق جديد، لكن الاحتلال الأميركي والمرجعيّة وحتى إيران لن يرحّبوا به. لهذا، فإن المراوحة هي مُرجّحة.

  • كاتب عربي

اترك تعليقاً