السيمر / فيينا / الاربعاء 10 . 06 . 2020
د. نضير الخزرجي
طالما تداولت الألسن قولها: “للبيوت أسرار”، وهي حقيقة قائمة يلامسها كل إنسان، فما من بيت إلا وينطوي على مجموعة أسرار لا يعرفها غير أهل الدار، أو بالأحرى يعملون ما أمكنهم للحفاظ على المظهر الخارجي للبيت وسط الجيران والمجتمع، لأن الإطلاع على أسرار البيت هو كشف لعوراته، وما من أحد يرغب في كشف عورته.
هذه الصورة المصغرة نجد كبراها في البلد الواحد الذي يحاول تحصين ذاته من التأثيرات الخارجية وإظهار نفسه للآخر بالمظهر الذي يرغب أن يظهر فيه لإثارة الآخر ليهتدي بهداه ويقتفي أثره، أو أن يتمظهر بما يمنع الآخر من النفوذ إلى داخله والتأثير عليه لكسر شوكة المجتمع وفك الإرتباط بينه وبين القيادة النافذة، سياسية كانت أو دينية، ولهذا تولي الحكومات الشمولية المسألة أهمية كبرى، وتسعى عبر التوجيه الثقافي والسياسي في المدرسة والوظيفة والشرطة والجيش وكل مفاصل الحياة إلى خلق رأي عام واحد يكون مطابقا لوجهة نظر القيادة الحاكمة، وهو ما يعبر بنظر الحاكم سياسة التحصين الذاتي في مواجهة مؤامرات الآخر وتخريبه، فيما يدخله البعض في خانة الإستبداد والشمولية، وأيا كانت وجهة النظر، فإن المجتمع الكبير مثل البيت الصغير يحاول الإحتفاظ بأسراه وعدم تسريبها خارج الأسوار.
وحيث يكون الحديث سلبيا تجاه الحكومات الشمولية ذات التوجه السياسي الواحد، فلا يعني أن الحكومات ذات التعدد السياسي هي منتهى الكمال الإنساني في الإدارة والحكم، وإن الحديث عنها ينبغي ان يكون إيجابيا على الدوام، وإلا قامت جمهورية إفلاطون الفاضلة التي لا يأتيها الفساد من بين أيديها ولا من خلفها، وهي جمهورية لم تتولد إلا في مخيلة الفيلسوف اليوناني، وإن كانت هي مطلب الأنبياء والمرسلين والمصلحين والصالحين، ولكن تحقيقها مائة في المائة هو أمل يتعثر بأقدامه وهو يتسلق جبال التطبيق.
فالديمقراطية الغربية التي يعتبرها البعض صفحة ناطقة للجمهورية الفاضلة، هي لوحة جميلة في عين الناظر، ولكن كلما اقترب المرء من التفاصيل شاهت عنده معالم الصورة ولم يعد يميز بين تقاسيم الصورة نفسها، وهذا ما عليه الحياة الإجتماعية في البلدان الغربية، فظاهرها جميل خلاب للعيون وآسر للقلوب، ولكن عند الوقوف على تفاصيل الحياة اليومية تظهر التعقيدات على حقيقتها بخاصة في بلد انفرط عنده عقد الفطرة الإنسانية، فصار مخالفة ناموس الطبيعة حرية شخصية، وهي حرية منفلتة تتجه لأن تصبح وبالا على المجتمع نفسه ووباءً دونه جائحة كورونا!
ولأن الديمقراطية الغربية بشكل عام لا تخجل من كشف بعض عورات بيتها، فإن وسائل الإعلام تحمل للقارئ والسامع والمشاهد بين فترة وأخرى أنباءً صادمة وأرقاما مذهلة عن جنبة من جنبات الحياة، قد لا يدركها عامة المواطنين، لأن المبتلى بها لا يريد أن يفصح عنها، ولكن أشواك الحياة المزروعة تحت أقدامه تجبره على البوح بأسرار البيت ربما يجد أذنا صاغية لدى صناع القرار أو المؤسسات ذات التأثير على القرار وصنّاعه.
ومن تلك الأخبار الصادمة التي نشرتها صحيفة الأنديبندت (The Independent) البريطانية الصادرة يوم 5 أذار مارس سنة 2018م بمناسبة يوم المرأة العالمي الذي يصادف الثامن من شهر أذار مارس من كل عام، أن 7 بالمائة من طالبات المدارس في أعمار 10 إلى 18 أجبرن على التغيب عن حضور المدرسة عند حلول العادة الشهرية لافتقادهن للمحارم النسائية بسبب قلة ذات اليد وعدم قدرة الوالدين على الشراء بسبب الفقر وعدم كفاية المعونة الحكومية المقدمة للعاطلين عن العاملين أو أصحاب الأجور القليلة، وكان عدد الطالبات المتغيبات عن الدوام للسنة 2017م ليوم واحد أو أكثر أثناء العادة الشهرية بلغن 137700 طالبة، وأن 49 في المائة منهن تغيبن ليوم واحد في العام الدراسي وخاصة في اليوم الأول من مجيء الدورة لعدم امتلاكهن المحارم الطبية، ولأن على المتغيب أو المتغيبة عن الدوام في بريطانيا وعموم الغرب إعلام إدارة المدرسة عن السبب فقد وجدت الجريدة في الدراسة الإستقصائية التي شملت 500 عينة، أن 59 في المائة من المتغيبات قدمن أسبابا وتبريرات كاذبة، إذ يصعب عليهن الإفصاح عن سبب التغيب حفظا لماء الوجه، كما وجدت الدراسة أن 25 من الطالبات استعملن قطع القماش العادي بديلا عن المحارم النسائية الطبية، وبعضهن استخدمن المحارم لأوقات طويلة خلافًا للصحة العامة وسلامة الرحم وذلك بسبب الفقر.
هذه الحقيقة الصادمة في بلد ديمقراطي كبريطانيا دفعت بعض المؤسسات الطبية إلى تقديم المحارم إلى المدارس بصورة مجانية كجزء من عملها الخيري الذي تتسم به المؤسسات التجارية الكبرى، على أن تقوم إدارة المدارس بتقديمها إلى الطالبات الفقيرات وذات الدخل المحدود للتغلب على ظاهرة الغياب أثناء الدورة الشهرية.
هذه الأرقام المخيفة التي لا يراها البعض، وهي حقيقة مرة كاشفة عن الفجوة بين الغني والفقير في النظام الرأسمالي، استحضرتها من مكنون محفوظاتي وانا أتابع كتيب “شريعة الحيض” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة ضمَّ 134 مسألة شرعية و62 تعليقة تفضل بها الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر ومثلها للمعلق وثالثة للمصنِّف مهَّد فيها للكتيب.
الحرث والنسل
تابع الفقيه الكرباسي مسائل الدماء لدى المرأة كحالة عضوية طبيعية، من ذي قبل في كتاب “المرأة والدماء الثلاثة” الصادر في 180 صفحة من القطع المتوسط عن بيت العلم للنابهين في بيروت سنة 2006م، وقدّمت له الدكتورة بيان الأعرجي وعلّق عليه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وفي حينها تناولت الكتاب في قراءة موضوعية تجمع بين الشريعة والطب، ونشر في وسائل إعلام مختلفة يوم 11 اكتوبر تشرين الأول سنة 2006م تحت عنوان: “المرأة والدماء الثلاثة .. قراءة علمية في مسائل الأسرة”.
وما يميز “شريعة الحيض” عن كتاب “المرأة والدماء الثلاثة”، أن الأول اختص بالدورة الشهرية والثاني تناولها إلى جانب الإستحاضة والنفاس، حيث يجمع الثلاثة قاسم الدم الذي تراه المرأة في كل شهر وعند الولادة، وحيث اتسم الكتاب بالتفاصيل الطبية والفسيولوجية إلى جانب نظرة الشرع الإسلامي، فإن الكتيب تناول الحيض من جانبه الشرعي ليكون دالة لكل إمرأة وزوج وزوجة للتعامل الشرعي مع حالة دورية تتكرر كل شهر خلال أربعة أو خمسة عقود من حياة الأنثى.
ولا يخفى أن الدورة الشهرية واحدة من علامات سلامة المرأة رغم ما تلاقيه من معاناة وبخاصة في سنواتها الأولى، وبتعبير المصنِّف: (مسألة الحيض وملحقاتها هي عملية عضوية فسيولوجية طبيعة دالة على سلامة الجسم وأجهزته المودعة فيه، سواء عملية الإخصاب التي تعادل عملية الحيض إذ إنَّ الثانية تدل على وجود الأولى)، فالإخصاب بالنسبة للمرأة المتزوجة يتحقق بشكل عام مع دورة دموية منتظمة، ولهذا يندر حصولها مع تحقق الحمل، ولهذا إذا تأخرت الدورة عند المتزوجة عن موعدها ينتابها الشعور بحصول الحمل.
والدورة بما هي عملية عضوية طبيعية، فإنها بالنسبة للمرأة العزباء عملية تطهير للرحم ومتعلقاته بشكل دوري، وبالنسبة للمرأة المتزوجة أشبه ما تكون بآلة حرث الأرض التي تدك التربة لاستقبال البذور، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم وأحسن الوصف بدقة، بقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) سورة البقرة: 222- 223.
ومن الطبيعي أن تكون نتيجة الحرث والزرع جني الثمرة الطيبة أي الأولاد، ناهيك عن إشباع الرغبات كحالة طبيعية لدى الجنسين، مثلما هي الحاجة إلى الطعام والملبس، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (دم الحيض ضرورة من ضروريات الحياة واختيرت الأنثى لهذا الغرض بعدما شاءت الإرادة الربانية من أن تكون هي الحرث والأرضية الأنسب لغرض الإنجاب، حيث عبّر سبحانه وتعالى بكلمات علمية ما فوقها تعبير حينما قال: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، فمثل هذه المسؤولية الكبيرة وتحملها لابد وأن تقرن بالإحترام والتقدير دون الإجتناب والحديث عنها بالدونية وعلى سبيل الإستعلاء).
معرفة ضرورية
يواصل الفقيه الكرباسي في أحكام الحيض بيان المراتب الست للدورة المتعلقة بالمرأة: المبتدئة، وذات العادة الوقتية والعددية، وذات العادة الوقتية فقط، وذات العادة العددية فقط، والناسبة، والمضطربة، ولكل واحدة أحكامها، والمرأة تحتاج إليها لمعرفة موقفها من العبادات من صلاة وصوم واعتكاف وحج وقراءة القرآن ودخول المساجد والمكوث فيها، وغير ذلك.
ربما يعتقد الرجال أن معرفة مسائل الدماء الثلاثة ومنها الدورة الشهرية، في جانبها الشرعي خاصة بالنساء، ولا تخص الرجال على اعتبار أنها خصوصية أنثوية بحتة، وهذا الفهم القاصر هو الذي سبب ويسبب مشاكل بين الزوجين يمكن تلافيها لو أدركا أحكام الدورة.
وهنا تستحضرني حادثة وقعت قبل سنوات وكنت أحد الشاهدين لحالة طلاق، وكان مصنِّف “شريعة الحيض” حاضرا فيها، إذ وبعد أيام من حصول الطلاق بين الزوجين دُعيت مرة أخرى لأشهد على بطلان من شهدت عليه من الطلاق، والسبب أن الزوجة عند الطلاق كانت في دورتها، والشرع يحظر الطلاق في هذه الحالة فلا يتحقق حتى وإن وقع الإصرار من أحدهما أو كليهما، فلم يكن الزوجان على معرفة بالحكم الشرعي، وأدركا ذلك بعد فترة، ولو كان أو كانت على معرفة بالحكم لما أقدما على الطلاق أصلا، وذلك إحتراما لمشاعر المرأة وهي في وضع جسماني يشوبه الإضطراب النفسي.
وهكذا الأمر بالنسبة لمسائل الجماع، فينبغي للزوجين التعرف عليها بشكل عام أثناء الدورة وخارجها، لأن البعض عن جهل يرتكب الحرام دون أن يدرك ذلك من قبيل المقاربة الجنسية، إذ يُحرم (الجماع في الفرج) وإذا حصل الأمر فإنه يقع في رقبة الزوج الكفارة والإستغفار، حيث: (يجب على كل من تعمَّد الجماع أيام الحيض دفع الكفارة إلى الفقير المؤمن ومقدارها يختلف حسب وقت الجماع، فإن كان في الثلث الأول من الحيض، فمقدار الكفارة 3,6 غرام من الذهب – عيار 24-، ونصفه في الثلث الثاني، وربعه في الثلث الثالث).
ومن جميل ما أتى به الإسلام من تكريم للمرأة الحائض قول الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: (حيض يوم لَكُنَّ خير من عبادة سنة صيام نهارها وقيام لها)، بل اعتبرها في عداد الشهداء إذا ما فارقت الحياة وهي في دورتها، وذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (مَن ماتت في حيضها ماتت شهيدة)، وزاد من إكرامها قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (من اغتسل من الحيض او الجنابة أعطاه الله بكل قطرة عينا في الجنة، وبعدد كل شعرة على رأسها وجسدها قصرا في الجنة أوسع من الدنيا سبعين مرة لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وهذه المكرمات كما يؤكد الفقيه الكرباسي في ختام التمهيد: ليست بالقليلة، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقدّر دور المرأة ومسؤوليتها وما يرافقها من أذى عضوي ونفسي، فلذلك كرّمها بهذه الكرامات.
الرأي الآخر للدراسات- لندن