السيمر / فيينا / الاحد 02 . 01 . 2022
اسعد عبدالله عبدعلي
كانت رحلتي الاخيرة لشارع المتنبي نافعة حيث كان صيد الكتب وفير, ففي طريقي نحو شارع المتنبي وجدت الكتب وهي تفترش الارض وصاحبها يصيح بأعلى صوته: ” الكتاب بخمسمائة دينار فقط”, فبحثت ووجدت بينها دواوين شعر ومجموعات قصصية صغيرة وقديمة, لكن كان الاغرب اني وجدت مجموعة قصصية بعنوان (قصص من بلادي) للكاتب هادي الجزائري, وكنت مدعواً بنفس اليوم لحضور ندوة حول نتاجه, فيا لها من صدفة عجيبة, وقد كان الاكثر تميزا لما معروض في الشارع هو كثرت المطبوعات الروائية العراقية مما يعني انها حالة ادبية جيدة.
وقررت ما ان اعود للبيت حيث اشرع بكتابة مقال يتحدث بالعموميات عن الرواية العراقية, وما نشهد من غزارة في النتاج.
لكن اولا يجب ان اتحدث عن الاجواء العراقية والتي بالتأكيد ستكون ذات تأثير على المبدع العراقي في منحى الكتابة, ان الاجواء السياسية العراقية والانقلابات البشعة والدموية, والتقلبات الاجتماعية مع كل تغيير سياسي, والصراع الدموي بين الاقطاب منذ ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921, ولا يمكن تجاهل تأثير حرب الثمانينات مع ايران, ثم حرب احتلال الكويت وما تلاها, ثم الحصار الاقتصادي طيلة عقد التسعينات, ثم الاحتلال والمحن التي جاءت معه, كل هذا كان له الاثر الكبير على خط مسار الرواية العراقية, ويمكن تقسيم النتاج الروائي العراقي الى:
الاول: النتاج الذي ولد في زمن الدكتاتورية: وقد تميز بصفة واضحة وهي اللجوء الى الرمزية والاسطورة وتناول التاريخ العراقي القديم كبيئة للسرد, هربا من الحاضر ومخاطر الكتابة عنه, وحتى من تناول حاضره عبر مناقشة الواقع الاجتماعي كان دوما يهرب من التعمق خوفا من تقارير الامن وملاحقة جيوش الدكتاتور السرية, فكان الغموض يحيط ببيئة السرد العراقية, فكان يجب على الروائي العراقي ان يتحاشى الخوض في (السياسة والجنس والدين) باعتبارها اقرب الطرق للسجن.
ولا يمكن ان ننسى الكتاب المتزلفين للنظام, والذين سخروا اقلامهم لكتابة روايات تمجد الحاكم وتتحدث عن انتصاراته الخالدة!
ثانيا: النتاج الذي ولد في خارج اسوار الوطن: وهو نتاج مهم اعطى لنا صورة واضحة المعالم عن الانسان العراقي, وكيف يعيش في ظل الدكتاتورية, وما هي مشاكله وهمومه, وماذا كان يحلم, وشكل الحياة ومنغصاتها, وقد اتسم بالعمق والوضوح, مصورا لنا القلق والخوف والرعب الذي يتملك المجتمع تحت حكم الحديد والنار, واشار للخيبات التي تلاحقه والانكسارات المتوالية, وكان هذا النتاج مغيب وممنوع من التداول داخل الوطن باعتبارهم معارضين للنظام ويكتبون ضد النظام, وبعد نيسان 2003 جاءت الفرصة للاطلاع على نتاجهم.
ثالثا: نتاج يتحدث عن حرب ايران وحرب الكويت: فبعد زوال حكم الطاغية انفتحت الاسوار وازدهر الوسط بكتابات من دون اي قيد, وقد ظهر نوع جديد كان ابطاله من ذاقوا مرارة الحرب وخاضوها بأنفسهم او عاشوا محنة الاسر وعذاباته, وهذا نمط جديد على الساحة العربية لم يتم التطرق له سابقا, لان اغلب الدولة العربية بعيدة عن الحرب, الا العراق نال جزءا كبيرا منها, فكانت قصص عن المؤسسة العسكرية, وجبهات القتال, واحلام الجندي, ورعب الصواريخ, والقلق من الغام تبتر الاعضاء, والاعدامات وسيطرات التفتيش ومحنة الغياب, والتعسف والقسوة في التعامل مع الجنود من السجن والتعذيب وصولا لعقوبة قطع الاذن!
رابعا: نتاج متحرر جدا: بعد زوال حكم صدام برز على السطح نتاج متحرر من كل قيد فاخذ يتناول قضايا السياسة والجنس والدين وبشكل عميق, كردة فعل لكبت العقود, فاصبح ينظر ويشخص كبوات السياسة, ويصف لنا حالات الانحلال الاجتماعي عبر وصف دقيق للجنس وما يحصل خلف الابواب, بل بعضهم تمادى لينتج روايات تتحدث عن المثلية وترسم لنا بيئة بشعة تستغل الاطفال لتحولهم الى ادوات للجريمة عبر استغلالهم جنسيا, وراح البعض يغوص في وصف بيوت الدعارة وقوانين تلك الحياة عبر سرد روائي جميل وجذاب, يمكن ان يشكل خطر على المراهقين, لانه يرسم خطة عمل للخيانة والانحراف, خصوصا مع طرق ابواب زنا المحارم كأنه هنالك مشروع للترويج لكل خطيئة بخبث وعبر السرد الروائي الجذاب.
خامساً: النتاج البائس والمخجل: بسبب توفر المال وسهولة الطباعة وعدم اهتمام الكثير من دور الطباعة بما تنشر بقدر اهتمامها بجني المال, وغياب اللجان النقدية التي تكون الباب الذي يسبق الطباعة, فتم طباعة الكثير الكثير من الروايات البائسة! والتي لا تملك فكرة ولا حبكة ولا فن الصنعة الروائية, مجرد هذيان يمارسه من يملك المال والسلطة, بهدف تحقيق شهوته في طبع رواية باسمه, والغريب ان بعضهم يكرم ويفوز بجوائز فقط لانه يملك علاقات حزبية او تجارية مع ان نتاجه الروائي مخجل ولا يستحق الطباعة.
سادسا: ظاهرة بيع النتاج الروائي: بسبب حالة العوز والفقر التي تحيط بالكثير من المبدعين, فانه عمل على بيع نتاجه ليطبع باسم من يدفع الثمن! فيظهر فجاء مطبوع روائي بأجمل طباعة لكن باسم سياسي احمق! وعندما نقرأه نجده اسلوب احد الكتاب المعروفين, او مغترب ثري لا يجيد اللغة العربية ولم يعش يوم في العراق, فأشترى نتاج ادبي ويطبع باسمها, وهكذا برزت اسماء ممن صنعوا اسمهم الروائي عبر شراء نتاج الاخرين.
لكن الغريب ان اغلب النتاج الروائي الحديث لم يستطع ان يتعمق في مناقشة الواقع السياسي العراقي الحالي, حيث برزت ممنوعات جديدة يحرم نقدها والكتابة عنها, فالخطوط الحمراء تعددت وتنوعت مما جعل النتاج الروائي يهرب من التعمق, ويتمسك بنواحي الاجتماعية والعاطفية وتوصيف زمن صدام والحصار, الا بعض المهاجرين الذين استطاعوا التعمق والتشخيص, لكن بقيت كتاباتهم بعيدة عن متناول القراء, بسبب سطوة اهل السياسة على البلاد.