السيمر / فيينا / السبت 01 . 10 . 2022
اسعد عبدالله عبدعلي
هذه المرة قررت ان احضر روح احد الكتاب الكبار المتوفين, لعلي استفيد من تجربته الابداعية, فتلوت الاذكار السرية الخاصة بتحضير الارواح, وتم استدعاء روح الروائي فلان الفلاني, وكان يعيش في عقد التسعينات من القرن الماضي, حيث كان القراء يهرولون للحصول على نسخة من رواياته, جاءت روحه وبيدها الة طابعة ميكانيكية, كان منهمكا في الكتابة, جلست من دون كلام كي لا اقطع حبل افكاره, الى ان ترك الطابعة الميكانيكية وحمل كوب الشاي وانتبه لوجودي, رحب بي كثيرا واعتذر لعدم التفاته, فهو يكون في عالم اخر عندما يكتب, كأنه يسافر عبر الحروف والكلمات الى عالم بعيد, وسألته متعجبا: كيف ما تزال تكتب بجهاز الطابعة الميكانيكي! ونحن نعيش زمن الكومبيوتر والذي يوفر فرصة الكتابة الاسهل؟
فقال: استخدمها لأنها بطيئة الحركة, وهذا ما يساعدني على الكتابة ببطء والتأمل بعيدا جدا.
· الكتابة والاستذكار
سألته: ماذا تكتب الان؟ حدثني عن مشروعك القادم الذي ينتظره القراء؟ فقال لي: انا الان في مرحلة الاستذكار, احاول ان اكتب عن تجاربي, فانا اعتقد ان الرواية تنبثق من الذاكرة, كما يقول بورخس في جملة عميقة: ” الذاكرة هو الشيء الوحيد الذي نملكه ويمكننا ان نستخدمه بحرية”.
لكن يجب ان تفهم ان الماضي ليس احداثا ووقائع فقط, اي انه لا يتكون من اشياء تستعيدها الذاكرة, كما حدثت في الواقع الموضوعي, وانما هي احاسيس وانطباعات واحلام وتخيلات, وهنا يجب ان نشيد بهذه الالة العجيبة التي يملكها الانسان وهي الذاكرة والتي لا تتوقف ابدا عن الاشتغال.
· اكتشاف سر خطير
حاولت ان استفيد من فرصة لقاء روح روائي لأفوز ببعض الاسرار الخطيرة, فجاء على بالي هذا السؤال: ماذا يمكن ان يميز رواياتك عن باقي الكتاب, هل هنالك سر ما في منهجك بالكتابة؟
التفت الي طويلا وهو يحاول كشف امرا خطير, ثم قال: في كل رواياتي كل شيء يبدأ دائما حين يكون كل شيء قد انتهى, وما اعنيه قد يبدو لك اول الامر غامضا, فيكون الراوي ينخرط في سرد احداث ووقائع تكون قد حدثت منذ زمن وبتعبير ادق, زمن السرد لا يوافق ابدا زمن الوقائع والاحداث, لذلك اجعل من فعل الاستذكار حاضرا في رواياتي, مما يوجد مسافة فاصلة بين زمنين مختلفين, وهكذا يستطيع الراوي ان يرى الاشياء ويقاربها بشكل اكثر وضوحا.
وهنا يجب ان اوضح حقيقة مهمة في عملية الاستذكار والسرد الروائي, وهي يجب ان يكون هنالك تركيز مناسب بالشخصيات الاخرى في الرواية, فان ملامح ومواصفات اي شخصية لا تظهر للقارئ فقط من خلال ما تقوم به الشخصية, بل من خلال علاقتها بالشخصيات الاخرى.
· هل الرواية الواقعية يمكن ان تنجح؟
سألته عن كتابة الرواية: هل الافضل ان تكون عن عالم خيالي ام عن الواقع؟ وهل نكتب عن واقعنا حتى لو كان ممتلئ بالخيبات والانكسارات؟
فقال: نعم عن الواقع هو الافضل مهما كان, ان الكثيرون كتبوا عن الواقع الذي نعيشه, وهنالك اهتمام كبير بهذا الجانب, ونذكر هنا كمثال ان الروائي الطيب صالح كتب كثيرا وتنقل كثيرا بين بريطانيا وفرنسا وبلدان الخليج, لكن اجمل ما كتبه واعمق ما انتجه كان عن الواقع السوداني, ويقال نفس الشيء عن الروائي الايرلندي جيمس جويس الذي عاش جزءا هاما من حياته متنقلا بين باريس وزيورخ وترييست في ايطاليا, لكن الاجمل كان ما كتبه عن ايرلندا.
فان علاقة الكاتب بالمكان اكثر عمقا وغموضا وتعقيدا والتباسا مما نتصور, فيظهر هنا ان الكتابة لا تستوجب الاقامة الدائمة, بل ان الابتعاد جسديا او نفسيا ضروري احيانا, اذ يمكننا من ان نراه من زاوية مختلفة, وان نكتشف فيه اشياء ما كان بالإمكان اكتشافها لو ظللنا قريبين منه.
· كارثة النقد المفرط
عندي سؤال يلح علي وهو: هل النقد ينفع العمل الابداعي؟ هل انت تؤيد النقد وتدعم استمراره؟
قال: النقد الحقيقي المستند لمنهج علمي ادعمه فهو مقوم لأي عمل, لكنني استنكر وجود جزء خطير من النقد الهدام, وهو ينقسم الى نوعين, وهما:-
القسم الاول: النقد بقسوة مفرطة لا مبرر لها, وصولا الى مرحلة كسر العظم, حتى قال احدهم في جلسة نقدية لمجموعة قصصية لشاب: ” اترك كتابة القصة انها لا تناسبك” مع ان كل الحاضرين اشادوا بالشاب ومجموعته القصصية, هذا نموذج من النقد الهدام والمتوفر بكثرة في الساحة.
القسم الثاني: النقاد المداحون مقابل المال, او بعضهم يمدح بعض, ويصل المدح عندهم الى حد مضحك, ويقوم احدهم بمدح الاخر, في سعي لتضخيم اعمالهم وجعلها فتوحات ادبية, وهو ايضا نقد هدام غير حقيقي بل وراءه مصالح خاصة.
ويشكل هذ النقد بشقيه خطر مميت على عالم القصة والرواية, لان الناقد منحاز وغير واقعي, ويتحرك قلمه حسب دوافع وليس حسب منهج نقدي.
· ما موقفك من المراة في الرسم الروائي؟
سؤال اخير: ما هو موقفك من المرأة العربية, وكيف تنظر لها؟
فقال: بصورة عامة تعيش المرأة العربية فترات طويلة من الاحباط, وذلك لوقوعها تحت نوعين من القمع:
القمع الاول: ما تمثله كمواطن من الدرجة الثانية في بلد ينظر لها كعورة وموجود للمتعة فقط.
القمع الثاني: العائلة ومصدره الزوج والاب والاخوة والاعمام والاخوال, باعتبارها مصدر للعار للك يجب مراقبتها والحد من حريتها وايقاف حقوقها.
مما جعل المرأة دوما حبيسة الاحساس بالانكسار, لذلك تجد الشخصية النسوية في رواياتي تواجه هذا القمع بما تملكه من اسلحة, معتمدة على الذكاء والجرأة, ولا اخفي لك انني منحاز للمرأة باعتبار اني دوما انحاز للمظلومين, وادعو دوما عبر كتاباتي الى الاهتمام بالإنصات للمرأة والاستماع لما تطرحه.
· اخيرا:
شكرته على عظيم الفائدة من لقاءه, وعلى اهمية كلامه, وتمنيت طول اللقاء, لكن انتهى وقت التحضير, وحان وقت رحيله عن عالمنا, وقبل ان يغادر طلب مني ان اكتب عن مشاكل المجتمع, فهو ما يخلد وينجح وينفع الناس, انتهى الصوت ورحل الكاتب الى عالمه.