السيمر / فيينا / الثلاثاء 19 . 12 . 2023
د . عادل عامر / مصر
مثلما تمكنت الدول الفاعلة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إدارة علاقات وتحالفات متشابكة مع القوى العظمى إبان الحرب الباردة ونجحت، خاصة فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فى التحصل على امتيازات استراتيجية حقيقية من «اللعب مع الكبار»، تسعى اليوم العديد من حكومات منطقتنا إلى الإفادة من تكالب الولايات المتحدة والصين وروسيا على النفوذ الإقليمى. وبينما يرحب أعداء الولايات المتحدة كإيران وسوريا باتساع دورى الصين وروسيا بغية الحد من الضغوط الأمريكية على المشروع النووى للأولى وعلى إعادة دمج الثانية فى المنظومة العربية، يريد حلفاء واشنطن فى القاهرة والرياض وأبوظبى وعمان وكذلك فى أنقرة وتل أبيب ألا يقايضوا علاقاتهم التاريخية مع الولايات المتحدة بعلاقاتهم المتطورة مع الصين وروسيا
وألا يضغط عليهم للاختيار بين القوة العظمى التى مازالت تحتفظ بالوجود العسكرى والأمنى الخارجى الأكبر فى المنطقة وهى الولايات المتحدة، وبين قوة عظمى صاعدة هى شريكهم التجارى رقم واحد وتصير اليوم شريكا استثماريا وتكنولوجيا ودبلوماسيا هاما ومؤثرا وهى الصين وقوة عظمى ثالثة لها مواطئ قدم عسكرية تقليدية ولا تمانع فى تصدير السلاح وتكنولوجيا الطاقة لسد فجوات فى الأمن الشامل لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهى روسيا.
ذلك هو جوهر التكالب الثلاثى الراهن على منطقتنا بعد أن اكتشفت واشنطن أن الانسحاب الكامل منها والتوجه الأحادى نحو آسيا والمحيطين الهندى والهادى للحد من تنامى القوة الصينية يعرض دورها العالمى ومصالحها الاستراتيجية لأخطار غير متوقعة، وبعد أن رسخت قناعة ضرورة المزج بين الدور الاقتصادى ــ التجارى ــ الاستثمارى والدور الدبلوماسيــالأمنى لدى صانعى السياسة الخارجية فى بكين، وفى ظل بحث موسكو عن ساحات جديدة لمناوئة الدور الأمريكى وتقليص نفوذه.
تعد الأولويات من أهم الأركان الهامة التي ترتكز عليها الاستراتيجيات الكبرى، فليس من المتصور أن تصاغ استراتيجية كبرى لدولة ما دونما النص صراحة أو ضمناً على أولويات تلك الاستراتيجية ، وثمة عدد لا حصر له من الأولويات التي قد تبتغيها الدولة من وراء استراتيجياتها، فهي تتمثل في شكل خط متصل أدناه الحفاظ على الذات أو بقاء الدولة وأعلاه الهيمنة العالمية والسيطرة على مقدرات النسق الدولي في فترة زمنية معينة.
وترتبط الاستراتيجيات الكبرى وجوداً وعدماً بأولوياتها، إذ تعكس الاستراتيجيات الكبرى في أبسط مضامينها محصلة الرؤى المتجادلة حول الكيفية التي يمكن من خلالها تحقيق مصالح الدولة القومية المرتبة ترتيباً يعكس أولوياتها.
ويعد مفهوم الأولوية primacy في مجال الاستراتيجيات الكبرى مفهوماً فضفاضاً حمال معانٍ متعددة الأوجه، على سبيل المثال يلاحظ أن أولويات الدولة القانعة(سواء تلك التي تتربع على عرش النسق الدولي أو الدول الحليفة لها والقانعة بموقعها على سلم توزيع القوة العالمي) تتمحور حول الترسخ لوضع هيمنتها القائمة والدفاع عنه والحفاظ عليه “accepts its dominance and seeks to maintain it”، في حين نلاحظ أنه من أبرز أولويات استراتيجيات الدول الكبرى غير القانعة بصورة توزيع القوة القائم في نسق دولي معين مقاومة القواعد النمطية والسلوكية وقواعد اللعبة المفروض من قبل القوى أو القوة المهيمنة على النسق الدولي، وتسعى سعياً حثيثاً للانقلاب عليها .
وتحديد أولويات الاستراتيجيات الكبرى ليس بالأمر الهين، إذ قد تقود –لاسيما عند نفر من الواقعيين- أولويات بعض الاستراتيجيات الكبرى إلى الحروب الدولية، خاصة في حال تمسك الدول بهذه الأولويات وكانت تقع هذه الأولويات ضمن المصالح الحيوية للدولة لا سيما حينما لا تجد هذه الدول صعوبة في تسخير الموارد اللازمة لتحقيقها، على سبيل المثال أدى إصرار تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة على تحقيق أولويات الاستراتيجية الأمريكية المعروفة بالحرب العالمية على الإرهاب إلى دحض الدول المارقة وشن الولايات المتحدة آلتها الحربية على عدد منها لا سيما العراق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على صانعي الاستراتيجيات توخي الحذر من الإفراط في وضع أهداف طموحة على قائمة أولوياتها دون أن تمتلك الدولة الوسائل الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف الطموحة، إذ فقد يورد هذا الأمر الدولة المهالك ، على سبيل المثال حينما وضع هتلر على رأس أولويات استراتيجية التوسعية إبان فترة الحرب العالمي الثانية هدف السيطرة على العالم ولم يكن لديه القدرات ولا الوسائل التي تبلغه طموحاته هذه وافته المنية وهلكت ألمانيا.
وراح Narizny يتصور إطاراً فريداً غير مألوف لدي سابقيه في مجال السياسة الخارجية أفرد فيه دوراً لثلاث جماعات اقتصادية محلية في تحديد المصلحة القومية لاستراتيجيات الدول الكبرى في المجال الدولي، وتصور هذه المجموعات في الجماعات التالية:
أ-الجماعات الأولى: وهي تلك الجماعات التي تشجع التصدير للقوى الكبرى(دول المركز) أو الاستثمار فيها. ومن أولويات هذه الجماعات العمل على الحيلولة دون الاحتكاك أو التناوش بين القوى الكبرى ، وتعمل على تشجيع القوى الكبرى على التوسع والانتشار الدولي وتوقيع الاتفاقيات الدولية واحترام القانون الدولي وكافة الأنشطة التي تسهل من الأنشطة الاقتصادية .
على الرغم من ظهور مصطلح الاستراتيجيات الكبرى في مجالات كثيرة لا سيما المجالات العسكرية منذ أرداح من الدهر، بيد أن شروق شمس هذا المصطلح على مجال السياسة الخارجية لم يمضِ عليه سوى بضعة عقود، لذا فهو لم يأخذ حظه الوفير ولم ينل قسطه الوافي من البحث والتنقيب من قبل المعنيين بالتنظير في هذا المجال، وعلى الرغم من محاولات بعضهم المضنية الهادفة إلى التوصل إلى إطار شامل أو نموذج موحد بمقدوره أن يقدم تفسيراً جلياً لكافة أبعاد الاستراتيجيات الكبرى للدول، غير أنه لم تنجح محاولة واحدة منها، ولم تنجو من النقد لا لعيب فيها بقدر الطبيعة المعقدة للاستراتيجيات الكبرى وتعدد العوامل المضفية لديناميكيتها، واختلاف توجهات ونوايا القائمين على وضع أولوياتها. وعلى أية حال خلصت الدراسة إلى النتائج التالية:
أولاً-ليس ثمة اتفاق بين المنشغلين بمجال السياسة الخارجية حول تعريف واحد شامل للاستراتيجيات الكبرى، وعلى الرغم من ذلك حظيت محاولة Posen الساعية إلى التوصل إلى صيغة واضحة لمفهوم الاستراتيجية الكبرى بقبول جمهور المنظرين في مجال السياسة الخارجية، إذ جاءت تعريفات عدة لاحقة عليها إما اشتقاقاً منها أو تسير في ركابها.
ثانياً-خلصت الدراسة إلى أنه ثمة العديد من الأشكال والأنماط للاستراتيجيات الكبرى في مجال السياسة الخارجية، وعلى الرغم من تباين أنماط هذه الاستراتيجيات، غير إنه يجمعها قاسم واحد ألا وهو خاصية الديناميكية، وتلكم الخاصية سلاح ذو حدين، بعبارة أخرى قد تتيح مرونة هذه الاستراتيجية في حال إذ ما أخطأت البوصلة في مرحلة من مراحل التنفيذ لمتخذي القرار فرصاً عديدة لاستعادة وجهة الاستراتيجية صوب الاتجاه الصحيح بما يتيح تحقيق مصالح الدولة القومية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يتمخض عن الطبيعة الديناميكية للاستراتيجيات الكبرى إخفاقها والانصراف إلى تبني غيرها بحيث تكون أكثر قدرة على تحقيق مصالح الدولة القومية.
ثالثاً-تستنتج الدراسة أن الطبيعة الديناميكية للاستراتيجيات الكبرى هي التي تميز بين الاستراتيجيات الكبرى المستقرة ونظريتها غير المستقرة، إذ إن خيطاً رفيعاً يفصل بين ديناميكية الاستراتيجيات الكبرى المستقرة التي تعمل تحت مستوى تتماسك فيه مفرداتها وتتفاعل عوامل ديناميكيتها دون المستوى الذي يفقدها قدرتها على تحقيق وظائفها(أي يتغلب الميكانزيم المنظم فيها على أية عوامل اضطراب قد تدب داخلها من شأنها أن تعصف بالاستراتيجية أو تحول دون أدائها وظائفها )
وبين تلك الاستراتيجيات غير المستقرة والتي تعاني من عدم ترابط مفرداتها وتتفاعل عوامل ديناميكيتها فوق المستوى الذي يكفل تحقيق استقرارها؛ الأمر الذي من شأنه أن يحول دون إحراز أهدافها ويعيق أداء وظائفها الأمر الذي قد يسفر عن إخفاقها؛ ومن ثم شروع متخذي القرار في البحث عن بدائلها.