السيمر / الخميس 31 . 03 . 2016
محمد الحنفي / المغرب
لقد قرأت أرضية {بين جدلية النضال النسائي، والنضال الطبقي}، التي أعدتها الرفيقة حكيمة الشاوي، التي أكن لها كامل التقدير، والاحترام، والموجهة بالخصوص إلى قارئات، وقراء الحوار المتمدن، وفي إطار حوارات التمدن، من أجل فتح حوار منتج معهم، حول الإشكاليات المطروحة في الأرضية، والمتعلقة، بالخصوص، بالنضال الذي تخوضه المرأة، من أجل رفع الحيف عنها، ومن أجل مساهمتها إلى جانب الرجل، في إطار الصراع الطبقي، الذي يمارسانه معا، في أفق التحرير، والديمقراطية، والاشتراكية، من أجل رفع الحيف عن المجتمع ككل، بعد القضاء على النظام الرأسمالي، أو الرأسمالي التبعي، وتمكين الكادحات، والكادحين جميعا، من الانعتاق من عوامل التخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، وفي إطار تحقيق المساواة الكاملة بين النساء، والرجال في المجتمع.
وأنا لا يمكنني إلا أن أتفق مع الرفيقة حكيمة الشاوي، في مجمل ما ورد في الأرضية، قصد المناقشة، لعلميته، وللضبط المنهجي الذي يكسب الأرضية القيمة العلمية، التي تقتضي قراءتها عدة مرات، من أجل التشبع بالأفكار الواردة فيها. غير أنه لي بعض الملاحظات، على ما ورد تحت العنوان الجانبي: {التحرر من الموروث الثقافي، والديني المهين}.
ولتسمح لي الرفيقة حكيمة الشاوي، بإبداء ملاحظاتي حول العنوان المذكور، وحول ما وردفي إطاره.
وأول ملاحظة لها علاقة بهذا العنوان، تتعلق بمنطوقه: {التحرر من الموروث الثقافين والديني المهين}ز لو قالت الرفيقة حكيمة الشاوي: التحرر من الموروث الثقافي، وسكتت، لكانت عبارتها بالغة الأهمية على المستوى العلمي، حتى وإن كان الموروث الثقافي غير موصوف، لا بالسلبي، ولا بالإيجابي، وخاصة إذا أضافت وصفا دقيقا، يحدد طبيعة هذا الموروث الثقافي، الذي يجب التحرر منه. وهذا الوصف هو نفسه: السلبي؛ لأن الموروث الثقافي، منه ما هو إيجابي، ومنه ما هو سلبي. والذين تحملوا مهمة إحياء التراث، أو دعموا عملية الإحياء تلك، ركزوا على الجوانب السلبية في هذا التراث، التي يتم الترويج لها بكل الوسائل، التي تمتلكها الدول المهتمة بإحياء التراث، كما تمتلكها الأحزاب، والتوجهات المستفيدة من إحياء الجوانب السلبية من التراث.
والتراث، من طبيعته أنه يشمل الجوانب الإيجابية، والجوانب السلبية. وقد كان المفروض أن يعمل المهتمون بإحياء التراث، على إحياء الجوانب الإيجابية، التي يعتبرها اليسار بصفة عامة، ذات أهمية خاصة. إلا أن الاختيارات التي تحكم توجهات إحياء التراث، هي التي تفرض إحياء الجوانب السلبية منه، بدل إحياء الجوانب الإيجابية؛ لأن إحياء الجوانب السلبية، لا يخدم إلا مصالح حاملي تلك الاختيارات.
أما الشق الثاني المعطوف على الشق الأول من العنوان الجانبي: {والديني المهين}، فإن علينا أن نفرق بين مستويين، حتى نلتمس وضوح الخطاب، وتجنب عدم الوضوح فيه، الذي يتم اصطيادنا منه، من أجل إيقاعنا فيما نتجنب الوقوع فيه، من أجل وصفنا بما لا يمكن قبوله أبدا، من التوجهات المستفيدة من إحياء الجوانب السلبية من التراث.
وقد كان المفروض أن يتم التمييز، ومنذ البداية، بين الدين كمعتقد، وبين فهم الدين كتراث. فالدين كمعتقد، شأن فردي، لا يتجاوز الشخص الذي يعتقد بدين معين، بما في ذلك الدين الإسلامي .وهذا الأمر، نطالب به، وندافع عنه، في إطار ضمان حرية المعتقد، باعتبار تلك الحرية شأن فردي، لا شأن لغير الفرد به، مهما كان المعتقد الذي يختاره الفرد. وحتى إذا اختار عدم الاعتقاد بأي دين، فذلك شأنه. وقد نص القرآن على ذلك بقوله: {فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر}.
أما فهم الدين، فيختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، نظرا لاختلاف الشروط المساهمة في تحديد فهم معين للدين. وهذا الفهم، في تحولهن وتطوره، هو الذي انتقل من مجرد الفهم، إلى مستوى الأيديولوجية، التي لا تقف عند حدود فهم معين للدين، بل تتجاوز الفهم إلى مستوى تأويل النص الديني، موضوع الإيمان، لخدمة مصالح طبقية معينة، لا تستطيع أن تبدع أيديولوجيتها الخاصة بها.
والطبقة التي تلجأ إلى تأويل الدين، والنص الديني، تأويلا أيديولوجيا، هي الطبقة البورجوازية الصغرى، التي لا أيديولوجية لها، والتي تسطو على الدين، وعلى النص الديني، لتحرف كل ذلك، عن طريق التأويل الأيديولوجي، لتجعل الدين، والنص الديني، في خدمة مصالحها، وانطلاقا مما سميناه بأدلجة الدين، أو النص الديني، تلجأ هذه الطبقة إلى تشكيل أحزاب، وتوجهات، بمرجعية التأويل الأيديولوجي للدين، أو للنص الديني.
وهذه التأويلات التي ظهرت منذ وفاة الرسول، وتعاقبت على مر السنين، هي التي صار يتشكل منها، ما صار يسمى بالتراث الإسلامي، الذي لا يمكن اعتباره إلا تراثا أيديولوجيا، خاصة، وأن الدين، عندما لا يعتبر شأنا فرديا، يمكن أن يخضع لتأويلات إيجابية، وتأويلات سلبية في نفس الوقت.
فالتأويلات الإيجابية، هي التي تقف عند حدود اعتبار الدين الإسلامي، وعند حدود اعتبار النص الديني، مصدرا للقيم النبيلة، التي تجعل الإنسان يتقدم، ويتطور، بناء على التقدم، والتطور، الذي تقتضيه الشروط الموضوعية، التي يعيشها الناس في الزمان، والمكان. وبالتالي، فإن القيم النبيلة تشكل حصانة ضد كل أشكال التخلف، الحاطة من كرامة الإنسان.
أما التأويلات السلبية ،فهي التي يلجأ إليها موظفو الدين الإسلامي، أيديولوجيا، وسياسيا، وهي التي تجعل الدين الإسلامي، والنص الديني، أيا كان هذا النص، مجرد وسيلة لتحقيق التطلعات الطبقية، بما في ذلك الوصول إلى الحكم، وإلى مختلف المؤسسات التمثيلية، لإيجاد مبرر للتحكم في مصائر الناس: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
وهذه التأويلات المتعارضة، إلى درجة التناقض، هي التي ساهمت، بشكل كبير، في وصول العديد من الجماعات إلى السلطة، والشروع في الحكم باسم الدين، مع تكريس، ودعم الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل.
والذين أوكل إليهم إحياء التراث، لم يعملوا على إحيائه في شموليته، بإيجابياته، وسلبياته؛ بل اقتصر إحياؤهم له على الجوانب السلبية منه، والتي تغذي المصلحة الطبقية، التي تتأرجح بين ما يسمونه بالاعتدال، وما يسمونه بالتطرف، مع أن الدين الإسلامي، هو الدين الإسلامي، هو مجرد معتقد، كباقي المعتقدات القائمة في الواقع، الذي لا يمكن تقدمه، وتطوره، إلا بإقرار حرية المعتقد، وباعتبار الاعتقاد بدين معين، شأن فردي، ليس إلا.
وعندما يتعلق الأمر بعبارة الخطاب الديني المتطرف، فإن الذي يكون متطرفا، ليس هو الخطاب الديني الصرف، الذي تفرضه طبيعة المعتقد، في مجال إشاعة هذا الخطاب بين المعتقدين به، وذلك من حقهم، كالجوامع، والكنائس، والبيع، وغيرها من أماكن ممارسة الطقوس، التي تخص كل معتقد على حدة. إن الذي يكون متطرفا بين المعتقدين بأي دين، هو الخطاب المؤدلج لدين معين؛ لأنه ينتقل من مستوى الإقناع، إلى مستوى التحريض، من أجل القيام بفعل معين، ضد غير المعتقدين بأدلجة معينة، لدين معين؛ لأن الناظم بين جميع التوجهات المتطرفة، المؤدلجة لأي دين، هو التحريض الذي يقود إلى ممارسة العنف على الآخر، المخالف، وغير المقتنع بتلك الأدلجة المنتجة للتحريض. وهو ما يعني، أن جميع المعتقدات، بما فيها معتقد الدين الإسلامي، يعتمد المومنون بها كأفراد، أسلوب إقناع الآخر كفرد، بالإيمان بذلك المعتقد. والمعرفة المعتمدة في أساليب الإقناع المختلفة، لا يمكن أن تكون معرفة علمية، بقدر ما هي مجرد معرفة إيمانية، لا علاقة لها باستخدام العقل، الذي لا ينطلق إلا مما هو مادي. والمعرفة الإيمانية، كما سماها هادي العلوي، المفكر العراقي، لا تعتمد العقل أبدا، وإلا فإننا سنصل إلى الكفر بكل المعتقدات القائمة في الواقع البشري، والتي تختلف فيما بينها، إلى درجة التناقض أحيانا.
وعندما يتعلق الأمر بالمقدس الديني، الذي يسلب المرأة حريتها ،ويكرس دونيتها، كما ورد في القرءان على سبيل المثال: {وللرجال عليهن درجة}، فإن الذي يعتمد هذا المقدس الديني، هم الذين يوظفون الدين أيديولوجيا، وسياسيا، وهم الذين يصرون على تكريس دونية المرأة، وهم الذين يعتبرون المرأة عورة، مع أن القرءان لم يصفها بذلك، فإن الأحاديث التي وردت فيها، عبارة {عورة} فيها نظر؛ لأنها تختلف عما ورد في القرءان، الذي ورد فيه، وبالضبط، في سورة الإسراء: {ولقد كرمنا بني آدم}. فمؤدلجو الدين، وخاصة مؤدلجو الدين الإسلامي، في خدمة الرجل، ورهن إشارته، وفي خدمة الاستبداد القائم، أو في حدمة الاستبداد البديل مستقبلا، عندما يقيم مؤدلجو الدين الإسلامي دولتهم {الإسلامية}، التي لا علاقة لها بحقيقة الدين الذي كرم الإنسان.
وعندما يتعلق الأمر ب{ثورة ثقافية دينية} فإني أرى أن الثورة لا تكون إلا ثقافية / فكرية، ولا تكون دينية أبدا؛ لأن أهم ما يميز الدين، أي دين، هو الثبات، باعتباره معتقدا لا يتغير، ولا يغير. إن الذي يتغير، ويغير، هو أدلجة الدين، وفي إطار الثورة المضادة.
وانطلاقا مما ذكرنا، فإن الاجتهاد لا يوكل إلى العلماء، بقدر ما يوكل إلى الفقهاء، من منطلق أن تراثنا في الدين الإسلامي، هو تراث فقهي بالدرجة الأولى. وهذا التراث الفقهي، غالبا ما يرتبط بفهم معين للدين، وبمذهب معين من مذاهب هذا الدين، أو ذاك.
ولذلك، فالاجتهاد لا يكون إلا في قضايا محدودة، ترتبط بالزمان، والمكان. وفقه الدين الإسلامي مليء بمثل هذه الاجتهادات، التي لا علاقة لها بتحرير المرأة، كما أن التنوير لا يكون إلا في إعطاء فهم تنويري للدين. والدين، أي دين، لا يقبل هذا المفهوم التنويري، لثباته، ولأنه يصير منتجا للظلام، أكثر مما يصير منتجا للتنوير، ولذلك، فنحن لسنا في حاجة إلى {علماء الاجتهاد والتنوير}، بقدر ما نحن في حاجة إلى حركة تنويرية رائدة، لتفكيك هذا الظلام الدامس، الذي صار يحجب الرؤيا، والذي لا علاقة له بالدين الإسلامي كمعتقد، بقدر ما له علاقة بأدلجة الدين الإسلامي، التي يوظف ممارسوها الاستغلال الأيديولوجي، والسياسي للدين الإسلامي.
وفيما يتعلق بعبارة {خطاب ديني علمي}، فإن ما نعرفه: أن الخطاب، إما أن يكون دينيا صرفا، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر غير الديني، الذي يتخذ وسيلة لإقناع الآخر، بضرورة الإيمان بدين معين، كمعتقد من المعتقدات الكثيرة، التي يمكن ان يختار منها الإنسان معتقدا معينا، يومن به، ولا علاقة لكل ذلك بالعلم أبدا. أما الخطاب العلمي، فلا تكون منطلقاته دينية أبدا، حتى يصوغ منهجه الذي يوصله، انطلاقا من دراسة المعطيات المادية المتوفرة، إلى نتائج معينة، قابلة للتغيير، كلما تغيرت المعطيات، فالمنتج العلمي، هو المنتج للخطاب العلمي المتغير باستمرار. أما الخطاب الدينين فثابت لا يتغير ،إلا إذا تأدلج الدين، ليصير بذلك وسيلة للتضليل، وحينها يتحول من خطاب ديني، إلى خطاب مؤدلج للدين. والفرق بينهما كبير.
وعندما يتعلق الأمر ب{خطاب ديني} يكرم المرأة، فإننا نجد أن تكريم المرأة، لا يتم إلا بتحقيق مساواتها للرجل، وبإلغاء كافة أشكال التمييز ضدها. أما الدين، وهنا أقصد الدين الإسلامي، فإنه حتى وإن ورد في القرءان {ولقد كرمنا بني آدم}، وقوله {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض}، فإنه أورد أيضا في القرءان نفسه: {وللرجال عليهن درجة}، وأورد أيضا في مقام الإرث: {للذكر مثل حظ الانثيين}.
فاين هو الخطاب الديني الذي يحرر المرأة؟
فالمرأة من وجهة نظر الدين الإسلامي، دون مستوى الرجل، مهما كانت، ومهما ضحت من أجل المجتمع، ومن أجل حفظ كرامتها.
أما {الخطاب الديني التحرري} للإنسان العربي المسلم، فما يمارس في واقعنا اليومي باسم الدين الإسلامي، من تمسك بكل مظاهر التخلف، هو الشاهد على ان الدين الذي نحن محكومون بقيمه، لا يمكن أن يسعى أبدا إلى تحرير الإنسان العربي المسلم؛ لأن ما يحرر الإنسان العربي المسلم، هو الثورة الثقافية، الساعية غلى هدم القيم السائدة، وإحلال قيم بديلة مكانها. وتشمل هذه الثورة كل مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، في أفق إيجاد مجتمع جديد، بإنسان جديد. وهذه الثورة الثقافية، لا يمكن أن تنسجم إلا مع المنظور الاشتراكي، الذي تتحقق في إطاره الحرية، والعدالة، والديمقراطية، والمساواة بين الجنسين، والذي لا وجود فيه لشيء اسمه دونية المرأة، التي تصير لها مكانة، لا تقل أهمية عن مكانة الرجل في المجتمع الاشتراكي.
وما سوى ما ورد في هذه الملاحظات، فإني أؤكد على علمية الأرضية، التي وضعتها الرفيقة حكيمة الشاوي رهن إشارة القارئات، والقراء، والتي أعتقد شخصيا، أن أثرها على من يتناولها بالقراءة سيبقى واردا.
فتحية للرفيقة حكيمة، التي أتقبل برحابة الصدر، كل ملاحظاتها حول ملاحظاتي التي ستفتح لي آفاقا أخرى للنقاش.