وحلم الحرية والديمقراطية الذي كان أولوية في مرحلة ما بعد صدام، لم يعد يشكل حتى بضعة قطرات من كوب الهموم العراقية.

فالأمل بالوصول إلى “نيو عراق” تلاشى منذ زمن، ليحتل الأمن ومعه الكهرباء والخبز رأس قائمة الهموم لشعب لم يكد يخرج من الهلوسات المعهودة في الأيديولوجيا الشمولية القائمة على صون الغيلان والديناصورات وتغذيتها لمواصلة أساليب القمع والتخويف والتخوين، حتى دخل أتون الطائفية والمذهبية والفساد والتطرف والنزاعات القائمة على أدبيات استغشام الشعوب واستغلالها والمتاجرة بها.

وفي حين لا يمكن إنكار الجهود التي تسعى إلى إعادة تعويم الدولة في العراق وتأمين الحد الأدنى من مقومات الاستقرار والإستمرار، إلا أن ما يجري على الأرض يتعارض مع هذه الجهود بفضل رسوخ المؤشرات التي تشي بصعوبة التغيير، وعلى رأسها غياب المحاسبة لمن ينهب مقتدرات الدولة، أو لمن يرتكب الجرائم بحق المؤسسات والمواطنين على حد سواء.

وإلا كيف يمكن قراءة ترشح غالبية رموز المنظومة التي تحكمت بمفاصل العراق منذ سقوط صدام حسين؟؟ ومن يحمي بعض نجومها ممن ارتبطت اسماؤهم بمئات الآلاف من الوثائق التي تؤكد تورطه في رعاية القتل الممنهج والفساد الممنهج والإرهاب الممنهج؟

فالواضح أن هذه الوثائق لا تحول دون بقائه في السلطة بشكل أو بآخر وخوضه الانتخابات، دورة بعد دورة، في غياب جهات رسمية قضائية تتولى المساءلة والمحاسبة، أو في أضعف الإيمان إرغامه على إعادة المال المنهوب من خزائن الدولة  إليها كبادرة حسن نية وفعل ندم وتوبة.

ولا يختلف العراق عن غيره من الدول الهشة  التي تتآكل من داخلها، إينما كان على إمتداد الكرة الأرضية. وكأن هذه الدول مكتوب عليها أن تبقى على هشاشتها ليسهل تنفيذ أجندات كبيرة وصغيرة على حسابها بفعل التدخلات الخارجية، أو بفعل نأي أصحاب القرار في المجتمع الدولي عن التدخل لمنع الهيمنة الحاصلة إقليميا.

بالطبع، لا تُعتَبَر مقتدرات الدولة وثرواتها الطبيعية من مواد أولية سبيلا لتنجو بنفسها وبمؤسساتها من الهشاشة وتمنح شعبها الحقوق الدنيا في حياة كريمة. فالدول النفطية كالعراق وفنزويلا وليبيا خير مثال على ذلك. واليمن الغني بما وهبه الله فقير شعبه إلى ما شاء الله. والأسباب معروفة والحقائق وجهات نظر!!

كذلك ليس مهما الموقع الإستراتيجي للدول الهشة، وخصوصياتها التي تصلح للشعارات الطنانة الرنانة المستحيل نقلها إلى حيز الواقع.

أو أن الأمر لم يعد مهما، لأن المرحلة التي يعيشها العالم ويتحكم من خلالها بمصير هذه الدول لم تعد تبيع المفاهيم التي كانت رائجة في القرن الماضي.

فديمقراطيات هذه الدول الهشة تواجه من يزرع فيها عللا وجودية، ويستبيحها بإيقاع وحشي يخدر الضمائر بالرعب، ويجعل الجرائم التي ترتكب بحق شعوبها خبرا عابرا يسحبه من التداول خبر عابر يستجد ويخطف الإهتمام، ليس لأيام بالضرورة، بل لساعات في بعض الأحيان.

والدول القوية التي كانت تتباهى بتصدير الديمقراطية وحماية الحريات وتمويل مشاريعها لم تعد تحمل عقدة ذنب، إذا ما وقعت مجزرة ضحاياها من النساء والأطفال. المهم أن تبقى مثل هذه المجازر بعيدة عنها وعن قومها.

في المقابل، ينشط العمل على إعادة فرض إنظمة شمولية ديكتاتورية في الدول الهشة التي فشلت في إنجاح تجربة الديمقراطية، ومن يعمل على فرض هذه الأنظمة يحمي الفساد ويرعى العقبات الطالعة من التخندق الطائفي القائم على تحالف الأقليات وهيمنتها العسكرية ليستخدم الفاسدين والمتطرفين في إطباق قبضته على الدولة وتهشيم مؤسساتها ليبقى المرجعية الوحيدة لتوليد الأزمات والإيهام بالعمل على حلِّها.

والمؤسف يتجلى تقاطع المصالح على الصعيدين الدولي والإقليمي مع قواعد محلية، وكأن مصدري الديمقراطية في القرن السابق، باتوا يجدون الفوضى غير البناءة مثمرة أكثر، لذا يتحالفون مع فارضي الشمولية وخانقي الحريات، في سعي لإبقاء هذه الشعوب على حالها وفي مكانها، حتى لا يتحملوا أعباءً لم تعد تنفعهم في صراعاتهم الباردة والساخنة.

وبناء عليه، يبدو صعبا في المرحلة الحالية، أن تشكل الانتخابات، سواء في العراق، أو في ليبيا أو في لبنان أو في أي من الدول الهشة، الطريق الأسلم للعبور إلى التغيير الإيجابي والتخلص من المنظومات الفاسدة المتحكمة بالسلطة، لتبقى الغلبة للخيبة والفوضى والانسداد السياسي والأزمات المعيشية القاتلة، بسبب طغيان السلاح خارج الشرعية والقدرة على تزوير الإرادة الشعبية سواء بالترهيب والترغيب أو بالقوة الظاهرة والمباشرة التي تحوِّل الأحلام إلى أوهام تستدعى خضوع الحالمين إلى علاج.. إن في عيادات متخصصة أو في معتقلات متخصصة.. أو برصاصة رحمة تسمى إغتيالا في قاموس من لا يزال رومنسيا مسكونا بأمل تحقيق حرية بلاده الهشة وسيادتها وإستقلالها ونزاهة حاكميها.

*كاتبة لبنانية

المصدر / سكاي نيوز عربية