الرئيسية / مقالات / انعكاسات القطبية الأحادية على قضايانا المصيرية

انعكاسات القطبية الأحادية على قضايانا المصيرية

السيمر / فيينا / الثلاثاء 03 . 05 . 2022

د. ماجد احمد الزاملي                                                              

باسترجاع بعض ملامح المشهد السياسي العربي، وفق ما أصبح عليه من انقسام لا نظير له،  في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي الذي افتتح بغزو العراق للكويت، وما تبعه  الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق، ومن ثم انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وما تلاه من مفاوضات واتفاقيات، ساد شعور عام، في ذلك الحدث والمفصل الحزين في  زمن العرب الحديث، أن بلداننا  ترزح تحت وطأة مصيبة الانقسام والتشتت ونتائج تلك الحرب الكارثية، بلا حاضنة عربية دافئة، أو سند يعتدّ به، فيما كان يستبدّ بنا عدم اليقين إزاء ما كنا بصدده من مواجهة سياسية ضارية مع عدونا التاريخي، حيث كنّا نغالب، بصعوبةٍ شديدة، الشعور العميق بالترك.  لذلك فإن مقاربة اللحظة السياسية الراهنة بموضوعية، بما تنطوي عليه من انكفاء، وما يسودها من خلل مروّع، ويكتنفها من مخاطر هائلة، تقودنا إلى استنتاجٍ مفاده بأن هذه ليست لحظة مواتية لطرح مشاريع كبيرة، ولا للتحليق في فضاءات بعيدة عن أرض الواقع ، لا سيما وأن أشدّ ما يحتاجه الحال في هذه الفترة ، ليس أكثر من الصمود والمقاومة المدنية، والتمسّك بالثوابت الوطنية، جنباً الى جنب مع التمكين على كل صعيد متاح، ولدى سائر الفئات الاجتماعية، مع مراكمة القدرات الذاتية رفع سوية الأداء اللازم لمواصلة الصراع بأدواتٍ ملائمة للظروف الحالية، فضلاً عن التعايش مع الانقسام بدل تأجيجه.            

  أمّا التَغيِّر الاقتصادي جزء من عملية مجتمعية عامة تعكس الأدوار التي تقوم بها الجماعات المختلفة على المستويين المحلي والدولي، وبالتالي لا يُعتبر التغير الاقتصادي عملية آلية. ولا يمكن دراسة المشاكل الحالية لتخلف التنمية في العالم الثالث بمعزل عن بيئتها التاريخية والعالمية، وبالتالي ترتبط هذه المشاكل وسبل مواجهتها بالنظام العالمي والتغير الذي يشهده.  إنّ النظام الإقليمي العربي يملك من الإمكانيات المعنوية المادية ما يؤهله لأن يكون له قدرة من الاستقلال في تفاعلاته على التأثير في مجريات النظام الدولي وليس مجرد التأثر بسلوك الفاعلين القياديين فيه. ولكن هذه الإمكانات لا يمكن أن تتحول إلى قدرة إلاّ إذا تحرك النظام كنظام واحد وليس كوحدات منفصلة، يختلف سلوكها، إن لم  يتضارب، فيما بين بعضها، وهو ما لم يمكن أن يتم بدوره دون قيادة. ولهذا فان النظام الإقليمي العربي قد مارس دوراً فاعلاً بدرجة أو بأخرى، سواءً فيما يتعلق بشؤنه الذاتية أو فيما يرتبط بمواجهة النظام الدولي عندما توفرت له هذه القيادة، بينما تفكك وفقد تماسكه ومن ثم قدرته على الفعل المستقل الناجح حينما غابت هذه القيادة. وهذا ما تؤكده الخبرة الواقعية لعلاقة النظام الإقليمي العربي بالنظام الدولي القائد في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، حيث أظهر النظام العربي من خلال محاولات التكيف والمواجهة مع النظام الدولي أنه لم يكن أبدا أداة في يد قيادة النظام الدولي. ومن مؤشرات ذلك استغلاله للصراع على قمة النظام الدولي في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ثم تكيفه مع النظام الدولي في مرحلة الوفاق الحاصلة على هذه القمة منذ أوائل الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات(1). وأكثر جوانب الخلل الحاصلة في مركز الولايات المتحدة عالمياً، هو المتعلق بكون القوة المؤثرة عالمياً، لم تعد تتعلق بالقوة العسكرية على أهميتها، وإنما هناك القوة الاقتصادية والثقافية والإعلامية، وهي ما تجد فيه الولايات المتحدة نفسها في مرتبة أدنى من بعض دول العالم؛ حتى إن القدرة الاقتصادية تشير التوقعات حولها إلى أن الصين ستسبق الولايات المتحدة بحجم الاقتصاد الكلي بحدود عام 2025، عندما تصل الصين إلى نحو 23.1 تريليون، كناتج قومي، في حين ستصل الولايات المتحدة إلى نحو 23 تريليون دولار (2). كما ستجد الولايات المتحدة نفسها في عام 2035 غير قادرة على الانتشار عسكرياً في أغلب أقاليم العالم، وخصوصاً في شرق آسيا وفي البحر المتوسط، لأن قوة الدول الأخرى ستصل إلى مستويات لا تسمح للولايات المتحدة بأداء أدوار القيادة في نظمها الإقليمية.                                  

لقد هيمن نزوع السيطرة وفرض الزعامة الأحادية الأمريكية على العالم وبشكل لافت للنظر، على العقل الإستراتيجي الأمريكي منذ نجاح الولايات المتحدة في قيادة التحالف العالمي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. واعتبر الأمريكيون أن هذه الحرب كانت مرحلة فاصلة في التاريخ الأمريكي وفي الدور الأمريكي العالمي. وقد عبَّر عن ذلك بصراحة شديدة الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) عقب انتهاء تلك الحرب بقوله: “إن عقدة فيتنام قد دُفِنت في صحراء الجزيرة العربية”، وبمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال الأمريكي قال: “إن حرب الخليج (الثانية) قد أثبتت للعالم أن الولايات المتحدة يمكنها التغلب على أي عدو ولا يمكن لأحد أن يوقفنا”، ولم يكن إدراك الرئيس الأمريكي (الأسبق) بيل كلينتون مختلفًا كثيرًا عن ذلك الإدراك. ففي استقباله للجنود الأمريكيين العائدين من عملية “إعادة الأمل” في الصومال قال: “إن الولايات المتحدة هي قائدة العالم. وأن المهمة العسكرية الإنسانية في الصومال تبشِّر بعهد جديد في مشاركة الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم. وقال: “نحن نقف جاهزين للدفاع عن مصالحنا بالعمل مع آخرين كلما كان ذلك ممكنًا وبأنفسنا عند الضرورة”. فالسمة الأساسية هي هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي من الناحية السياسية والعسكرية ، وانفرادها بقيادة العالم والتصرف بصورة فردية دون حاجة للحلفاء بدلاً من القطبية الثنائية السابقة.  فعلى المستوى السياسي قامت أمريكا بدور المنظم للمجتمع الدولي، وراود الكثيرين في العالم الأمل بانتهاء الحرب والاتجاه بخطوات ثابتة نحو السلام العالمي، ومنذ أحداث 11 سبتمبر ظهرت نوعية جديدة من الاستقطاب وحلَّت ثنائية جديدة تتمثل في مواجهة بين الولايات المتحدة وقوى الإرهاب ودول وصفتها أميركا بالدول المارقة والتي تشكل ملاذاً للإرهاب(حسب إدعائها ). وفي هذا الصدد كشف التحرك الفردي للولايات المتحدة تجاه الحرب على أفغانستان واحتلال العراق عن عجز أوروبا عن أن تُشكل قوى سياسة تتبوأ مكاناً يليق بقوتها إلى درجة وصفها بأنها عملاق اقتصادي لكنها ليست إلاّ سياسي صغير .  كما تزايدت حملات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم بعد نهاية الحرب الباردة فقد شنت حملة عسكرية فتّاكة على العراق سنة 1991 أعقبها حصار اقتصادي ساحق إلى غاية سنة 2003،لتعود الولايات المتحدة وحلفائها إلى احتلال العراق دون موافقة الأمم المتحدة.كما تدخلت عسكريا بشكل منفرد في الصومال خلال سنتي 1992-1994.وفي سنة 1999 أقحمت حلف شمال الأطلسي في حملتها العسكرية على يوغوسلافيا،كما شنت غزوا عسكريا بغطاء أممي على أفغانستان في سنة 2001 وفي الفترة الحالية يتخوف المجتمع الدولي من تداعيات التهديدات والضغوط التي تشنها ضد إيران وكوريا الشمالية وسوريا .  ففي الوقت الذي أخذ فيه النظام الدولي يشهد تطورات مهمة في هيكليته منذ سقوط النظام ثنائي القطبية، بدخول فواعل جدد  في عضويته، حولته من نظام دولي يقتصر فقط على عضوية الدول إلى نظام عالمي يجمع بين عضوية الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوي في السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإن النظام العالمي الجديد الذي مال مؤقتًا ناحية أخذ طابع القطبية الأحادية، ثم تحول فيما بعد إلى نظام أشبه بـ “اللاقطبية”، أملًا في أن يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزًا مهمًا لدور الأقاليم على حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحيانًا، تتفوق على علاقاتها بقيادة النظام العالمي ومنظمته العالمية (الأمم المتحدة).                 

 هذه التطورات والتحولات التي حدثت والتي مازالت تحدث في هيكلة النظام العالمي وطبيعته في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط النظام الدولي ثنائي القطبية بدأت تحدث تأثيرات واسعة في فواعل النظام العالمي وعلى الأخص في النظم الإقليمية، لكن هذه التأثيرات تبقى نسبية بالطبع، فهي لن تكون بالشمول نفسه ولا بالدرجة نفسها في كل النظم الإقليمية. هذه النسبية في التأثر ترجع لمعايير عدة هي التي تحكم درجة تأثر وتفاعل النظم الإقليمية بالتحولات الجديدة التي حدثت والتي تحدث في خصائص النظام العالمي. من هذه المعايير نذكر إمكانيات أو قدرات النظام الإقليمي. كلما زادت قدرات النظام الإقليمي وزاد تماسكه تراجعت فرص تأثير النظام العالمي بخصائصه الجديدة في تفاعلاته والعكس صحيح، ومنها المصالح العالمية في النظام العالمي، ذلك لأن كثافة هذه المصالح في نظام ما يؤدي إلى تفاقم تدخلات النظام العالمي في هذا النظام الإقليمي وتفاعلاته، ومنها نمط ارتباط النظام الإقليمي بالنظام العالمي، فكلما زادت الارتباطات سواءً من خلال المصالح الاقتصادية والعسكرية أو العلاقات السياسية.                     

ووفقًا لهذه المعايير نستطيع أن نقول:إن النظام العربي سيكون أكثر تعرضًا للاختراق من النظام العالمي وأكثر استعدادًا للتأثر بهذه التحولات، فالنظام العربي رغم قدراته الاقتصادية وموقعه الإستراتيجي، فإنه أكثر ارتباطًا بالنظام العالمي من منظور مصالح النظام العالمي وبالذات القوى الغربية في هذا النظام بسبب ثروة الطاقة الهائلة التي تجعله نظامًا معولمًا. يزداد التأثير بسبب كثافة الصراعات والانقسامات داخل النظام وبسبب هشاشة التماسك وغياب القيادة الإقليمية بل وتعرضه لموجة عاتية من الانقسامات داخل الدول على أسس عرقية ومذهبية. والمرحلة الراهنة من أخطر المراحل في تاريخ علاقة النظام الإقليمي العربي بقيادة النظام الدولي. وتتعدد وجهات النظر بخصوص الكيفية التي يجب أن تكون عليها العلاقة الجديدة للنظام الإقليمي العربي مع قيادة النظام الدولي في مرحلة الوفاق وهيمنة القوى الرأسمالية، ما بين المطالبين بالمشاركة أو حتى اللحاق بالمنتصرين في هذه القيادة، والذين ينادون باستمرار المواجهة. وبعيداً عن هذا الجدل فان الأهداف العربية لا يمكن أن تتحقق ما لم يتم القضاء على حالة الانقسام التي يعانى منها النظام العربي، في ظل أخطر مرحلة من مراحل التحول في النظام الدولي. وفي الوقت الذي يعانى فيه العالم العربي من التدهور استطاعت إسرائيل الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفيتي، وتمثل ذلك في معالجة قضية هجرة اليهود السوفيت في سياق قضية حقوق الإنسان وفي إطار يسمح بإلغاء القيود المفروضة على الهجرة إلى الخارج بشكل عام. وعلى الرغم من ذلك دخلت بعض الدول العربية في علاقات مع إسرائيل وبشكل كبير، دون أن يرتبط ذلك بإقرار العدل وبتطبيق الشرعية الدولية، مثل قطر وعمان والأردن وموريتانيا والبحرين والسعودية فتحت المجال الجوي لطيران الاسرائيلي .  بالنظر إلى التجمعات الإقليمية التي انضم لها عدد كبير من الدول العربية في الفترة الأخيرة، إنما تفرض تحديّاً حقيقياً على هذه الدول، يتمثل في كيفية التزام هذه الدول بمسئولياتها في تجمع من التجمعات التي انضمت إليها، ومثال ذلك حالة النزاع بين المغرب والصحراء المغربية حيث تؤكد اتفاقية الشراكة على أن لكل شعب حق تقرير مصيره وهو ما يفرض على المغرب كعضو فيها إعطاء الحق في تقرير المصير لشعب الصحراء المغربية وذلك ما يتعارض مع أمنها القومي و ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية التي تعد المغرب احد أعضائها أيضا.   كانت حرب العراق بصورة خاصة، سبباً في زيادة الوعي الشعبي بالأخطاء التي ارتكبت أثناء ولاية بوش الأولى، إلاّ أن قضايا أخرى أيضاً تشهد تغييراً الآن. فقد أصبح الأميركيون الآن أكثر ميلاً إلى العمل التعاوني بشأن قضية تغير المناخ العالمي. وعلى نحو مشابه أصبح خطر الأوبئة العالمية يعني أن الأميركيين قد يدركون أهمية تعزيز قوة منظمة الصحة العالمية، تماماً كما أدت مشكلة الانتشار النووي إلى زيادة الوعي بأهمية الهيئة الدولية للطاقة الذرية.   

 من حيث التفاعلات الدولية، يتوقع أن يتجه بعض من الصراعات الدولية للتنشيط، وأن يظهر جلياً في النظام الدولي، أو في النظم الإقليمية الفرعية، وبخاصة في شرق آسيا وجنوبها، وفي الشرق الأوسط، وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغبة من بعض الدول في أن تأخذ مساحة تفاعل ومكانة وأدواراً دولية أوسع من المتحقق الآن، وهو أمر متصور في سلوك القوى الآتية: الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل والهند خلال العقدين المقبلين.                            

                 ———————-

1-لمزيد من التفاصيل حول دور النظام العربي وتأثره بالنظام الدولي، يُنظر: محمد سعد أبو عامود، “العلاقات العربية – العربية في النصف الثاني من القرن العشرين: الظواهر – الإشكاليات– المستقبل”، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، الأهرام، عدد 139، يناير 2000م، ص8–28. أحمد يوسف احمد، الصراعات العربية (1945 – 1981) دراسة استطلاعية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1988م، ص112–117

 2-تقرير: آسيا… محرك النمو العالمي مع توقعات بتعافٍ اقتصادي متسارع، مجلة الخليج الاقتصادي، (الشارقة) (كانون الثاني/يناير 2011).  

اترك تعليقاً