السيمر / فيينا / الثلاثاء 18 . 04 . 2023
د.عبد علي سفيح
لحظات ذهبية قبل انقضاء شهر الخيرات والبركات، يسرنا أن نتقدم إليكم بأسمى آيات التهاني والتبريكات بقرب حلول عيد الفطر المبارك، راجين العلي القدير أن يوفقنا وإياكم لحسن ختام صيامه وقيامه، وفي هذه المناسبة المباركة رغبت ختام باب طاعته بباب مدينة العلم الإمام علي بمقال قصير بعنوان
“اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. هذه الحكمة هي جواب لسؤال وضعته البشرية منذ وجودها وليومنا هذا وعلى مر التاريخ وهو: ماهي الحياة الكريمة والسعيدة لانسان غير خالد وكيفية الوصول اليها؟ أجابت الأساطير والديانات السماوية وفلاسفة النور فضلاً عن مفكري القرن العشرين إجابات متنوعة، منها مايتم عن طريق المصالحة بين الانسان والآلهة(الأساطير)، أو عن طريق الايمان( الديانات التوحيدية)، أو عن طريق العقل( الفلاسفة)، أو عن طريق العلاقة مع الآخر(مفكرو فلاسفة عصر النور)، وأخيراً عن طريق علاقة الانسان مع نفسه( علماء النفس).
أجاب الامام علي على هذا السؤال بثنائية العقل” اعمل لدنياك” والايمان ” اعمل لآخرتك”، ولكي نفهمها نحتاج إلى مفاتيح خاصة لأبوابها، ومن خلال هذه المفاتيح نستطيع أن نرسم الصورة التي تنبض من خلال فكر الامام وفلسفته للانسان والحياة؛ بهذه النظرة الثاقبة ” خليفة “، وبهذه الروح المتواضعة ” إمام “، نحاول أن نتحدث عن الامام علي الذي كان ولا يزال تلك الصورة المشرقة للانسانية على مر التاريخ.
يمتلك الامام علي اسلوب خاص يقوم على الايجاز والتكثيف والتركيز حيث يفي بالقليل من الكلام الكثير. هذا النص يعالج فيه الامام بصورة جذرية للأمور الانسانية مبنية على نظرة فلسفية عميقة. في هذا المقال سوف نكشف العمق المعرفي والابداعي والفلسفي للامام من خلال هذا للنص.
1. مفهوم الحياة والانسان: هل يمكننا تعريف الحياة؟ مثل هذا السؤال لا يخلو من الغموض. في هذا النص يرسم الامام علي الانسان كنقطة ضائعة بين اللامتناهيين، الحياة والموت، الدنيا والآخرة. تنطلق رؤيته للعمل وللحياة والدين من خلال منظور فلسفي مما يجعل الانسان يفكر في معنى المفاهيم المهمة مثل الخلود والموت، والدنيا والآخرة، وجعل العمل كأساس لما يترافق معه من العمليات المختلفة. كذلك يؤكد بوضوح على أن محرك الحياة والخلود، ومحرك الموت والفناء، هما وجهان لوجود واحد وهو العمل. ففلسفة العمل تقابل فلسفة النظر، وترادف فلسفة السلوك الانساني، أي ربط النظر بالعمل. أحيانا العمل يتحرك نحو الفناء، وأحيانا أخرى يتحرك نحو الخلود. الشعور بالموت يشكل انسانية الانسان. هذا النص هو خطاب ودعوة للانسان ليس فقط الى كيفية العيش في الحياة بل أيضا والأهم يدعو الانسان إلى كيف يواجه الحياة. يوجد اختلاف كبير بين المفهومين. الحيوان والنبات والانسان يعيشون في الحياة، ولكن الانسان يتميز بشيء آخر هو أنه يواجه هذه الحياة. والمواجهة تعني العمل بالفعل. المواجهة لا تعني فقط حل المشاكل، بل تعني ايجابية العمل وحضور الخير للانسان. ورد في الحديث الشريف ٌ ان من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وان من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير( 1 ) .
2. نص بلاغي وفلسفي: هذا النص يوّلد عدة اشكاليات يجب حلها وهي: كيف تجمع بين الخلود والموت؟، وبين الدنيا والآخرة؟، وبين الخيال( كانك تعيش أبدا وتموت غدا) وبين الحقيقة بأنك غير خالد فيها.
أعطى الامام الجواب على هذه الاشكاليات أولا بالمعرفة الدقيقة لقوانين الوجود وما على الإنسان إلا أن يرافقها وعدم مقاومتها بقوله: .”ان أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا اذا نظر الناس الى ظاهرها، واشتغلوا بآجالها اذا اشتغل الناس بعاجلها، فاماتوا منها وخشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا ” (2)، وثانيا بثنائية فلسفة الشيء ونقيضه: الشيء ونقيضه من المفاهيم العميقة التي حكمت الفكر الانساني منذ القدم، وسميت بأسماء مختلفة منها “الخير والشر ٌ التي ارتدتها الديانات باختلاف مرجعياتها، وقد نقح الفكر الفلسفي هذه الثنائية حتى اتخذت لنفسها طابعاً مغرياً، أضحت معه قادرة على كثير من المفاهيم تحت مظلتها، حتى إن الفلسفة بعينها قامت على أساسها وبصورة خاصة الفيلسوف كانط الذي صاغها في عبارتي ” الشيء في ذاته والشيء لذاته”.
أنشغل الامام علي إلى أبعد الحدود بالكشف عن العمق الذي يحكم الانسان ويوجه تفكيره وأحاسيسه، فاستخدم هذه الثنائية الفلسفية من أجل صياغة نص أدبي وبلاغي وفلسفي عميق وبعيد الغور من أجل الاجابة عن السؤال الذي وضعته البشرية منذ الأزل وهو ماهي الحياة الكريمة والسعيدة لانسان غير خالد.
جعل الامام من لفظة الخلود والموت، الدنيا والآخرة، احتدام بين هاتين اللفظتين المتناقضتين ليلد تضادهما وعي انساني يتفتح معها شهية البحث عن حقيقة الحياة والمعنى من الوجود.
إن فلسفة الشيء ونقيضه أخذها الامام من القرآن الكريم بقوله تعالى: ٌومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ( الذاريات:49 ). وهذا واضح أن أي شيء قائم من زوجين، ولما كان كل من الزوجين نقيض للآخر، أي معرفة الشيء قائمة بنقيضه، وعلى هذا عرف الامام حياة الدنيا بنقيضها الآخرة، وعرف الخلود بنقيضه الموت. التوازن في الحياة يحدث كل منهما بالآخر. فاستقر الخلود بنقيضه الموت، واستقرت الدنيا بنقضيها الآخرة، وعلى سبيل المثال، الانسان يموت كفرد لكنه يخلد عندما يترك وراءه نسل أي الذي يخلد هو الجنس البشري وليس الفرد، كذلك الذي يخلد هو العمل الذي يخدم الانسانية بينما الذي يموت هو العمل الذي يخدم الأنانية؛ ويؤكد هذا المنطلق القرآن الكريم بقوله تعالى: ٌ انا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ٌ ( الانسان: 3).
3. المعنى( الغرض أو الهدف) من الوجود: غالبا ما يطرح هذا السؤال الميتافيزيقي في شكل سلسلة من الأسئلة: من نحن ومن أين أتينا؟ ولماذا أتينا وماذا يمكننا أن نفعل هنا وماذا نأمل ؟والى أين نذهب؟ عبر التاريخ في الثقافات البشرية، تناولت العديد من التيارات الفكرية والفلسفية والدينية والعلمية هذه الأسئلة لمعالجة كل منها على طريقتها الخاصة، مما أدى إلى ظهور العديد من المناهج المختلفة بل والمتناقضة في بعض الأحيان.
أجاب الامام علي على هذه الأسئلة لأنه أدرك بوجود تعطش محفور في قلوب البشر لمعرفة سر الوجود وبصورة خاصة الوجود البشري. وهذا يفسر عالمية الامام علي وشهرته لأنه اعطى معنى للوجود الانساني وبيّن أن هذا الوجود لا يحرر الانسان من نفسه ذاتيا، بل من الضروري المرور به والعمل فيه. كذلك سعى الامام بشرح وتفصيل هذه الوجود ونظامه وسننه لاعطائه سبب، أي ليس فقط كأساس ولكن أيضا كغاية ممكن للانسان أن يضع نفسه فوق الوجود. كذلك، وضح الامام بأن معنى الحياة والوجود يكمن في قيمة أعمالنا في حين ينتظر الانسان الحكم الألهي، الذي يمكن أن يحدث بعد الموت أو في أي لحظة من الحياة. جمع الامام الوجود البشري المحكوم بالعمل، بالوجود الألهي الغيبي الذي نراه في كل مكان وهو المنظم والمدبر لهذا الوجود. لأن الانسان في حقيقته هو ذات في طور الامكان، أي أنها طاقات مركزة غير مفعلة تسير في الحياة مساراً يحولها من الامكان نحو التحقق ومن التعطيل نحو التفعيل. وما الخوف من الموت إلا هو عامل معطل لتلك الذات، فعبّر الامام عن الوجود الألهي المنظم والمدبر لهذا الكون حتى يدفع الانسان لمواجهة قلقهم الشخصي. هذا هو جوهر الوجود الانساني في هذا العالم الذي عبر عنه الامام علي.
الخاتمة
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا هو نص أدبي وأثر بلاغي وحكمة فلسفية واضحة المعالم، معقدة البنية. هذا النص هو جواب على سؤال الحياة الذي وضعته البشرية منذ ولادتها وإلى يومنا هذا وهو: ما هي الحياة الكريمة السعيدة لانسان غير خالد؟
أجاب الامام بثنائية العقل( اعمل لدنياك) والايمان( واعمل لآخرتك). هذه الثنائية مبنية على ثلاثة أعمدة وهي: الأول هو، معرفة الوجود والغوص في أعماقه والكشف عن أسراره لكي يجد الانسان مكانه الصحيح في هذا الوجود وهي صورة الحياة التي اعتبرها ممر لدار ووجود مستقر وهي الآخرة.
اما الثاني، هو معرفة نظام الوجود والسنن التي تحكمه لكي يسهل على الانسان مرافقته والعيش فيه بسلام وأمان والابتعاد عن مواجهة تلك السنن. ومعرفة هذه السنن من خلال معرفة الشيء بنقيضه. معرفة الدنيا بنقيضها الآخرة، ومعرفة الخلود بنقيضه الموت.
اما الثالث هو سر الوجود لاسيما الوجود الانساني. كتب الله على الانسان العمل كقدر له لأن العمل يسير بالحياة مساراً يحوله من الامكان نحو التحقق، ومن التعطيل نحو التفعيل، وهذا هو جوهر الوجود الانساني.
المصادر والهوامش
1.رضا بو شامة (2000): موقع راية الاسلام، صحيح مسلم ص
2.سيد عطية أبو النجا( 1986): كتاب نهج البلاغة مترجم الى الفرنسية، بيروت 1986.
3.غرر الحكم:10844
4. كتاب نهج البلاغة