أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / هل انتهى العصر الأميركي؟

هل انتهى العصر الأميركي؟

الثلاثاء 24 . 11 . 2015

مصطفى اللباد / مصر

يكثر الحديث في الشرق الأوسط عن «نهاية العصر الأميركي» بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا والتردد الذي تبديه إدارة أوباما حيال موسكو، وهو تردد ملحوظ إذا ما عقدت المقارنة والمقايسة بينه وبين السلوك الأميركي في المنطقة إبان عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش. وتستند مقولة «نهاية العصر الأميركي» في الأغلب إلى معايير عاطفية في منطقة عانت من سياسات الولايات المتحدة الأميركية فيها، ومازالت مغامرات جورج دبليو بوش طرية في ذاكرة سكانها. وتحضر المعايير الأيديولوجية أيضاً في الاحتفال بمقولة «نهاية العصر الأميركي» بين التيارات الفكرية الثلاثة الكبرى في المنطقة: الإسلامية والقومية واليسارية على اختلاف تلاوينها وأشكالها التنظيمية. في العمق، تعني مقولة «نهاية العصر الأميركي» واحدة من نتائج ثلاث: إما انزياح الولايات المتحدة الأميركية من زعامة النظام الدولي أحادي القطبية وتولي قوة كبرى مكانها ليصبح نظاماً دولياً أحادي القطبية بزعامة دولة أخرى، أو صعود قوة دولية كبرى إلى مقام القوة العظمى الندّ، فنشهد بالتالي نظاماً دولياً ثنائي القطبية تقوده دولتان، أو دول عدة فيصبح نظاماً دولياً متعدد الأقطاب. وفي كل الحالات يكون «العصر الأميركي» قد انتهى بالفعل. ومن الإنصاف القول إن نظاماً دولياً ثنائي القطبية يتميّز ـ منطقياً وهيكلياً ـ بميل أكبر إلى التوازن في العلاقات بين الدول وانحسار الفوضى والاضطراب التي تميز النظام الدولي أحادي القطبية، وبالتالي فلا مشكلة جوهرية أصلاً في قيام نظام دولي ثنائي القطبية أو متعدد القطبية، بل ربما تكون نتيجة مفضلة لكثيرين حول العالم لاعتبارات مختلفة. لكن تقييم النظام الدولي الحالي وتعيين أو استشراف طبيعته القطبية (أحادية أو ثنائية أو متعددة) لا يتوقف على عقد مقايسة واحدة مشخصنة بين سلوك أوباما وسلوك بوش الإبن في الشرق الأوسط للخروج بإجابة حول السؤال المطروح، نظراً للتعقيد الكبير لعالمنا الراهن وأنماط توزيع القدرة بين مكوّناته والديناميكيات التي تتحكم في التوزيع المذكور، وليس آخراً الأبعاد المختلفة لمصطلح القدرة في حد ذاته.
أبعاد مصطلح القدرة Power
ترتبط الإجابة عن سؤال المقالة أساساً ببعد أساسي مفاده مصطلح Power الذي يعني القوة أو القدرة، وكيفية توزعها بين الدول. أعتذر مقدماً عن استعمال المصطلح باللغة الإنكليزية، لكن حالة الاعتذار تمثل حالنا جميعاً كعرب. ويعود السبب في ذلك إلى أننا لم نضف تركيبات وحمولات لغوية إضافية إلى هذا المصطلح الذي نترجمه تلقائياً إلى القوة، في حين يفضل كاتب السطور ترجمته إلى القدرة كمحاولة للإمساك بأبعاده المختلفة والمتزايدة بمرور الوقت. تطور المصطلح في السنوات الخمسين الأخيرة كما لم يتطور في تاريخه، وكان التطوير راجعاً بالأساس إلى الاجتهادات التي قدمها باحثو العلوم السياسية الأميركية في اشتقاق أنواع مختلفة من القدرة. ومازالت الأدبيات السياسية العربية مفتقرة إلى الحد الأدنى من مواكبة هذا التطور الجوهري في عالم السياسة. ربما كان التقسيم الأبرز الذي عرفناه متمثلاً في تقسيم القدرة إلى قدرة صلبة وقدرة ناعمة، نقلاً عن جوزيف ناي عالم السياسة الأميركي الأشهر. ويعني الركود العلمي والفكري العربي عن مواكبة التطور في مصطلح القوة/ القدرة، أي المصطلح الأهم في العلاقات الدولية، أن غالبية التحليلات السياسية العربية لعالمنا الراهن وعلاقة منطقتنا المنكوبة بالنظام الدولي ستظل دائرة في تلك الدائرة المفرغة المفتقرة إلى المعاني المركبة والأبعاد المتجددة، فيصبح ساعتها تبني المقولات المعلبة والأماني المغلفة الوسيلة الأسهل للهروب من أسئلة الواقع وإشكالياته.
محاولة تقييم
فقدت الولايات المتحدة الأميركية بعضاً من أبعاد قدراتها بمرور الوقت، ويتجلى التراجع في القدرة السياسية في صورة انقسام جمهوري ـ ديموقراطي غير مسبوق على القضايا كافة تقريباً، ومع ذلك يُعَدّ النموذج السياسي الذي تقدمه أميركا ـ برغم كل مثالبه المعروفة ـ أكثر جاذبية حول العالم مقارنة بالنموذجين الروسي والصيني. وتراجعت القدرة الاقتصادية الأميركية نسبياً كنتيجة لتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي منذ العام 2007، لكن نصيب الناتج المحلي الإجمالي الأميركي من إنتاج العالم هو الأول بفارق كبير عن أقرب المنافسين الصين. ولا يماري أحد في أن القدرة المالية الأميركية تعاني وهناً متزايداً بسبب عجز الموازنة الأميركية وزيادة الديون الأميركية إلى مستوى غير مسبوق تاريخياً، لكن واشنطن بالمقابل مازالت مسيطرة على المؤسسات المالية الدولية مثل «صندوق النقد الدولي» و «البنك الدولي»، ناهيك عن أن عملتها المحلية الدولار ـ وليس الروبل أو اليوان ـ هي عملة الاحتياط الدولية، وبالتالي تستطيع إلى حدّ كبير تصريف أزمتها المالية كأزمة عالمية وتحميل العالم عبء المشاركة في تبعاتها السلبية. وهنا تبدو مفارقة في أن جل الرافعين عقيرتهم بنهاية «العصر الأميركي» يحتفظون بمدخراتهم بالعملة الأميركية، وليس عملات بلادهم الوطنية؛ ويساهمون بالتالي في مناعة الاقتصاد الأميركي. كما تراجعت أيضاً القدرة الاجتماعية الأميركية بسبب زيادة الاستقطاب المجتمعي بين فئات وشرائح الأميركيين المختلفة، على ما رأينا بوضوح في الشهور المنصرمة. ولا يُخفى أيضاً أن القدرة المؤسسية الأميركية قد تراجعت بشكل ملحوظ، إذ لا تستطيع واشنطن بعد الآن السيطرة على المؤسسات الدولية بالطريقة التي كانت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى سنوات قليلة مضت.
بالمقابل، يُعَدّ تجانس السكان والموقع الجغرافي والموارد الطبيعية في أميركا أمراً لافتاً، وتستطيع واشنطن دوماً تجديد حيوية سكانها ونوعية قدراتهم بسياسات الهجرة التي تستقطب أفضل العقول حول العالم في التخصّصات المختلفة. كما أن القدرة العسكرية الأميركية مازالت تمثل ركناً ركيناً في أبعاد القدرة الأميركية، حيث يمثل الإنفاق العسكري الأميركي نصف الإنفاق العسكري للعالم بأكمله. ولا يوجد بحر مفتوح على الكرة الأرضية لا تمخر عبابه السفن الأميركية التجارية أو العسكرية. وتلعب التكنولوجيا المتقدمة ومستويات التعليم المرتفعة دورها في تثبيت القدرة الأميركية، ويكفي مثال صغير على ذلك أنه لا توجد سفينة واحدة تبحر في المياه الدولية من دون أن تمر تحت العيون الأميركية، ولا تستطيع طائرة واحدة مدنية أو عسكرية تطير في الأجواء الدولية أن تفلت من رقابة الأقمار الصناعية الأميركية.
مازالت القدرة الناعمة الأميركية تتقدّم على ما سواها حول العالم وأمثلتها تستعصي على الحصر، من نسبة أميركا في امتلاك الماركات المعروفة للسلع حول العالم، إلى المحتوى الرقمي باللغة الإنكليزية الأوسع انتشاراً، إلى معدلات الهجرة، إلى نسبة المواطنين الأميركيين الحائزين على جائزة نوبل، إلى نصيب الأفلام الأميركية من مجمل الإنتاج السينمائي العالمي، وغير ذلك من معايير القوة الناعمة. ولا يغيب أن القدرة الإلكترونية الرقمية الأميركية تتقدم بفارق كبير عن منافسيها، برغم من أن واشنطن لا تستطيع التحكم وحدها بالكامل في الفضاء الإلكتروني.
هناك بعد آخر للقدرة الأميركية يتمثل في إمكانية حشد الحلفاء حول العالم، إذ تحظى أميركا بعدد حلفاء أكثر من أي دولة أخرى في العالم. أما القدرة الاستخبارية الأميركية فحدّث ولا حرج. وقد أضاف علماء السياسة الأميركيين مؤخراً بعداً جديداً للقدرة يتمثل في القدرة الفكرية، التي تتمثل في مراكز الأبحاث الأميركية والخبراء العاملين فيها. البعد الإضافي للقدرة الأميركية الشاملة يتمثل في القدرة الاستراتيجية، بمعنى وجود خطة كوكبية لأميركا تشمل مناطق العالم المختلفة والفضاء، في حين لا تملك أي دولة في العالم خطة مماثلة.
المتفرج العربي
تراجعت أبعاد القدرة الأميركية الشاملة نسبياً بمرور الوقت، ما يجعل استمرارها قطباً وحيداً للنظام الدولي مرتهناً إلى حد كبير بعدم قدرة القوى الكبرى الأخرى على إزاحتها أو مقاسمتها وضعيتها الحالية. ولا يبدو بمعاينة المؤشرات المختلفة أن أياً من القوى الكبرى في وارد إزاحة أميركا عن قطبيتها الأحادية خلال السنوات القليلة المقبلة، في حين يبقى التبدّل والتحوّل في النظام الدولي متمثلاً في صعود وهبوط الأمم قدراً لا فكاك منه. وإذا كنا قد خرجنا كعرب من موقع المشارك في النظام الدولي وتحوّلنا إلى مقاعد المتفرّجين، فلنكن على الأقل متفرّجين جيّدين يعرفون قواعد اللعبة انتظاراً لأوقات أخرى يستطيع أبناؤنا العودة بأدواتهم الخاصة إلى صفوف اللاعبين. وبدلاً من التنطح لإعلان نتيجة المباريات الدولية والإقليمية قبل نهايتها وإلقاء الحجارة في الملعب أو إطلاق صيحات الاستهجان أو التشكيك في نزاهة حكام المباريات ـ وهذا بالمناسبة أمر وارد دوماً ـ أو استحضار لاعبينا المفضلين في الماضي القريب والبعيد للحطّ من قدر المنافسين، علينا أولاً الإلمام بقواعد اللعبة والتغيرات التي طرأت عليها. وبدوره يتطلب الإلمام بالقواعد المتغيّرة للعبة، العمل فكرياً في الجامعات العربية ومراكز الأبحاث العربية على مواكبة التطور في مصطلح القدرة / القوة Power وكيفية توزع القدرة في عالمنا الراهن. لا يجب بالضرورة على المتفرج الجيد أن يُخفي انحيازه، لكن محبته للموضوعية تتفوق في العادة على مشاعره السلبية تجاه الآخرين!

السفير