الرئيسية / مقالات / الدين .. الفن .. الفلسفة

الدين .. الفن .. الفلسفة

السيمر / فيينا / الخميس 08 . 06 . 2023

د. عبد علي سفيح

سؤال صعب بقدر ما هو رائع، الدين والفن والفلسفة ثلاثة مجالات للعقل حافظت دائما على علاقات وثيقة حتى عندما تم معارضتها بشدة. يوجد تقاطع بين الدين والفن والفلسفة أكثر من النجوم في السماء حتى لو كانت غيوم الوقت الحاضر تمنعنا أحيانا من رؤيتها وتقدير لمعانها.
كيف يمكن تشخيص الروابط والأماكن الخاصة بالدين والفن والفلسفة؟. نحن مدعوون اولا إلى عملية توضيح: ما هو المجال الخاص بكل منها، وما هي العلاقة التي توحدهم ومن يعارضهم، وهل لديهم مصدر مشترك؟.
للتوضيح هنا لا يعني فقط إجراء الفروق النظرية الضرورية، ولكن أيضا التشكيك في تاريخ الأفكار.
باديء ذي بدء، تشترك هذه المفاهيم الثلاثة في التعامل مع الأسئلة الأساسية التي تتعلق بالإنسان ووجوده: من نحن، ومن أين جئنا، وما هي الحياة والمعنى لها، ومن هو الخالق، وكيف تكون سعيد، وما هو الخير والشر، وما هي الروح والمادة….والخ.
هذه الأسئلة تتسائل عما هو غير مكشوف، الدين والفن  والفلسفة  تقدم طرقا مختلفة للإجابة على هذه الأسئلة.
الدين هو أحد التعابير عن حرية  المشاعر الروحانية، وعند تحويل الدين إلى عقائد وشرائع تكون مصدر للاحتراب والتفرقة بدل التعايش السلمي، فتتخذ المشاعر الروحانية شكلا آخر اقل انغلاقا وتعصب وأكثر حرية وهو الفن؛ ولقد صاحب الفن الإنسان منذ وجوده على الارض، ورغم اهتمام الإنسان بالفن والدين، لكنه لم يتأمل جوهره فلسفيا الا بعد عصور متأخرة. فن العمارة للكنائس والمساجد والاضرحة للأولياء تقلل من التعصب الديني الذي يقيد حرية الإنسان ويمنعه من السمو والرفعة وتجاوز ذاته، كذلك الفن يقوم بتحويل المناسبات الدينية إلى مهرجانات أدبية وفنية،  كأعياد ميلاد المسيح، وأحياء عاشوراء مقتل الامام الحسين، نجد فن الرسم والزينه والمسرح بتمثيل واقعة الطف وتحويل ضريح الامام الحسين إلى سياحة روحانية كل هذا يعبر عن تحويل الدين إلى ثقافة وفن، وليس غريبا أن نجد الوهابية وداعش وأخواتها ضد الفن والجمال.
نجد كل الفكر سواء في الشرق أو في الغرب يعيش على تراث مزدوج من التقليد الفلسفي واللاهوتي النابع من الإيمان في الغيب، وكان معظم الفلاسفة يحملون ثنائية الدين والفلسفة  ومنهم أفلاطون، والفارابي، وابن سينا، وبن عربي، وبن رشد، وتوماس اكويناس، وباسكال، والسهروردي( شيخ الاشراق)، وسبينوزا( محمد أمستردام)  وهيجل وغيرهم،   ولذلك نرى أحيانا الدين في الفلسفة، وأحيانا أخرى الفلسفة في الدين، أي المهم ليس أن الحقيقة قد منحت للإنسان من الخارج، ولكن ممكن للإنسان أن يخترقها من الداخل وبلغة الفلسفة،  والقنطرة الذهبية التي تربط الدين بالفلسفة هي المشاعر الروحانية، حيث نجدها أما روحانية دينية وهي لا تخرج من الدين أي الإيمان، أو روحانية فنية، أو روحانية فلسفية، وتسمى في الوقت الحاضر بالروحانية العلمانية أي الروحانية التي لا تمر في الإيمان.
بإختصار المشاعر الروحانية تتخذ من الدين والفن، والفلسفة، كاشكال تعبر عن حقيقة واحدة وهي المعنى للوجود. هذه الأشكال الثلاثة هي تعابير عن جوهر الإنسان الذي يدرك منذ الأزل أنه يختلف عن كل الكائنات، بأن لحياته معنى وغاية، وأنه خلق للخلود وان كان الموت جزء من رحلة الوجود؛ في تلك الذات البشرية تكمن القوة المحركة وهي المشاعر الروحانية( وليست الروحية)، التي تدفع الإنسان إلى تجاوز ذاته عن طريق منظومة القيم التي تعطي للإنسان السمو والرفعة Transcendance.
نقصد هنا أن المشاعر الروحانية يمكن أن تعاش جيدا في إطار الدين، ويمكن أيضا ممارستها دون أي ارتباط بدين مؤسساتي. هذه القنطرة الذهبية وهي المشاعر الروحانية التي تربط الدين بالفلسفة ما هي إلا رؤية مثالية للعام وللوجود.
هناك عامل مشترك آخر بين الثلاثة والذي غاب عن زاوية الرؤيا للمهتمين في علم اللاهوت والفلسفة وهو الوحي( الايحاء).
اعتمدت الأديان السماوية وغير السماوية لترسيخ أفكارها ومعتقداتها على الايحاء، ودور الأنبياء هو أن ينبأ ويخبر الناس بالمستوى الغائب والذي أصبح مكشوفا ومعروفا بواسطة الايحاء. هنا تبرز إشكالية، لأن الألوهية تتجلى من خلال مايسميه الفلاسفة بعلم الظواهر phénomenologie ، أي المقصود منه بأن الرب يكشف عن نفسه؛ يكشف عن نفسه لإبراهيم وموسى ولتلاميذ عيسى وللنبي محمد(عن طريق جبرائيل).
تحدثت الفلسفة عن حقيقة هذه الظواهر، وإمكانية حدوثها، ووضعت السؤال: هل ممكن مناقشة هذه الظاهرة وهي الايحاء في الفلسفة؟، وحسب رأي الفيلسوف الفرنسي ماريون Jean-Luc Marion، أن مفهوم الوحي حسب رأيه لم يتلقه التقليد الفلسفي اللاهوتي على حقيقته، لأن هذا التقليد لا يترك للوحي صفته الحقيقية بل اتخذوه على اعتبار أنه يجيب على الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه بالفعل والعمل، بينما في الواقع يطرح الوحي على الإنسان الأسئلة لأن الرب لا يسأل نفسه، ومنه ممكن ان نستنتج، بدون الوحي سوف يصبح الدين فلسفة وليس دين، لأن الوحي يكشف المستور المخفي، ولهذا رفض الفيلسوف شبيلينغ Sheiblingدعوة الايحاء باللاعقلانية واستبدلها بكلمة ” الذي لا يمكن تصوره “، وذكر الفيلسوف ليفيناس Emmanuel Levinas أن الله لا يمكننا ادراك لكن ممكن أن ندرك أثره، أي الايحاء يأتي كرسالة لكشف المخفي، وهذا الكشف ممكن الشعور به عن طريق العقل والروحانية.
المشاعر الروحانية عن طريق الفلسفة تسعى الى كشف المحجوب وإزالة الستار عن المستور، وهي فلسفة تاويلية  تدعو إلى فك رموز النص الديني وجعل المعنى الحقيقي لهذه النصوص هو باطني، وذكر الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان Henry Corbin بأن القرآن منبع أساسي ووحيد للتأمل الفلسفي في الإسلام، أي الدين لا يعبر عن ذاته بشكل تام وحاكم بالفقه وحده كما يشاع، بل بالفلسفة أيضا.
كشف المستور يقودنا إلى الحكمة، الحلاج بحث عن الله والقديس سانت اوكستان بحث عن المسيح، وكلاهما هذا البحث قادهم للحكمة، لكن الذي يميز الدين عن الفن والفلسفة هو وجود الهرمية والهيكلية في الدين وغيابها في الفن والفلسفة.

اترك تعليقاً